دائماً ما أتابع تساؤلات الكثيرين من حولى وإن كنت أنا أكثرهم دهشة ! كيف تحول المجتمع المصرى بحياته الاجتماعية والثقافية والأخلاقية وحتى الذوق العام سواء سلوكيا أو شكليا إلى هذه العشوائية والضحالة؟ وأعتقد أننى وجدت بعضاً من الإجابات عن تلك التساؤلات حتى إن لم تكن كل الأسباب، لكنها الدعائم الرئيسية لظهور تلك الطفرة الاجتماعية التى تحولت عبر الزمن، وبفضل الدعم والتغذية المتواصلة فكرياً وسياسياً وتحولها من مشكلة إلى ظاهرة مستمرة، لأننا لم نتوقف أبداً للبحث عن الأسباب ولم نناقش أو نواجه ونستخلص النتائج لنضع حلولا فاعلة للحد من تفاقمها حتى أصبحت سلوكا اجتماعيا ثابتا ومن الصعب تغييره أو تبديل مفاهيمه .. وحتى تتضح الصورة أكثر بالعودة إلى صفحات كتاب د. عبد العظيم رمضان “جماعات التكفير فى مصر” .. وتاريخ الإخوان المسلمين مع السلطة الحاكمة عبر العصور، وكيف أن كل القوى الإسلامية متلاقية فكريا ومنهجياً من خلال بوتقة واحدة مهما اختلفت مسمياتها، وحالة الازدواجية الفكرية والسلوكية ما بين أقوالهم وأفعالهم، فيروى لنا كيف تحالفوا مع الأحزاب التى لا تتفق أبداً مع ثوابتهم الإيمانية “التى يدعونها” فها هم يتحالفون مع الشيوعيين فى حزب التجمع بل يتقربون منهم كثيراً، ولعل رد “التلمساني” وهو المرشد الثالث لجماعة الإخوان المسلمين : بأنه يفرق بين العلاقة الشخصية وعقيدته الإسلامية، لهو أكبر مثال على تلك الأقنعة الزائفة التى تتبدل حسب تبدل المصالح.
فجل ما يهمهم هو ممارسة الحياة السياسية ودخول البرلمان والوصول إلى كرسى الحكم والسلطة.. ولعل فشلهم فى إحداث أى تغيير فى التيار السياسى والتشريعى فى مصر على الرغم من محاولتهم الحثيثة، فإنهم قد نجحوا بامتياز فى تغيير الحياة الاجتماعية وإيقاف التدفق الثقافي، بل شدوا الكثير من هؤلاء المثقفين إلى حركتهم، وتجلت مظاهر ذاك التأثير فى إقناعهم للمرأة المصرية بالحيلة تارة أو الإقناع أو الإرغام للعدول عن الزى الغربى والثقافات الغربية وفرض زى مستحدث يمثل أفكارهم الغوغائية والدونية للمرأة بشكل لا يمت للدين بصلة.
وباتت العلمانية تهمة يتبرأ منها، على حد قول د. عبد العظيم رمضان، كل من نادى واقتنع بإيجابيتها إلا قليل، ومنهم د. عبد العظيم رمضان والمستشار محمد سعيد عشماوى ود. فرج فودة وبالطبع نعرف جميعاً نهايته على أيدى تلك العقول المظلمة.
ولعل أكثر ما نبه إليه فى كتابه هو تراجع أهم ما كان يميز الشخصية المصرية ألا وهى “ الوحدة الوطنية “ وذلك التلاحم التاريخى لهذا الشعب الذى لم ينفصل أبداً عن حدوده السياسية أو الاجتماعية والاقتصادية. سواء كان مسلماً أم مسيحياً أم يهودياً من قبل .. فكان لا بد لهم من فتح أبواب الفتنة الطائفية لتفتيت المجتمع ومن ثم الدولة. وفى ظل هذا التوجه والتركيز الشديد على تقديم أحكام إسلامية غير وسطية بالمرة وترويجها بين جنبات المجتمع توالت الأحداث، وجميعنا نذكر حادثة “الزاوية الحمراء” وكيف أحدثت شرخاً فى جدار تلك الوحدة عام 1981. وتعقيب البابا شنودة على تركها مشتعلة يومين متتالين، وقرار السادات بإبعاده إلى وادى النطرون واحتجازه، وهو قرار لم يسبق فى تاريخ مصر الحديث ويعارض قوانين المجمع المقدس . ومن هنا أصبح هناك مجتمع إسلامى وآخر قبطي! ونجحوا ! وتوغل الإخوان المسلمون بمنتهى القوة فى كل محافظة وقرية، وكانت أيديولوجيتهم أكثر جذباً وتأثيراً فى الجماهير عن الجماعات التكفيرية. ولعل من أمتع ما قرأته فى ذلك الكتاب المهم هو تفسيره ورصده لظاهرة الشيخ “كشك” التى لا تزال محيرة ومؤثرة للأسف حتى الآن. ويحكى لنا كيف استمر فى نشر آرائه من فوق منبر “دير الملاك” فى حدائق القبة وفى كل بقعة على أرض مصر وخارجها، وبلغ عدد شرائطه 550 شريط كاسيت حتى عام 1987، وأشهرها "شرائط القبط وشنودة" وبث فيها سمومه الفكرية المشوهة بين قطاعات عريضة، وحذر فيها المسلمين من مصادقة المسيحيين، وأشاع بأن الأقباط يتعلمون الطب لكشف عورات نساء المسلمين. وعلى الرغم من ذلك توجته الجرائد الحكومية فى ذلك الوقت بتاج "الداعية الإسلامى الكبير" وأصبح الأمر فوضويا لدرجة أن الجماعات الإسلامية باتت لها سلطة ضبطية !! وذكر شهادة أحد الصحفيين الذى رصد ظاهرة فى إحدى مدارس سنورس فى الفيوم، عندما أخبره المدرسون أن التلاميذ فى المدارس الابتدائية لا يلعبون "عسكر وحرامية" بل "مسلمون وأقباط"! واختراقهم للإعلام وتقديمهم نموذج الإعلامية "كريمان حمزه" فى ذلك الوقت لنشر الحجاب بشكل مختلف لإقناع أكبر فئة، لدرجة أنها صممت كتالوجاً خاصاً بأزياء المحجبات حتى تقبل السيدات على ارتدائه.
وكان مدخلا لما سيأتى فيما بعد وهو ما حدث بالفعل حينما عقد "رجب هلال حميدة" إمام وخطيب مسجد عبد الرحمن بالتحرير ندوة أفتى فيها بأن المرأة التى تكشف عن وجهها وكفيها هى آثمة. وتم أسر الكثير من العقول تحت ستار تلك الأفكار الظلامية القاتمة ولم تعد تميز ما بين طبقة فقيرة أو غنية، بل انتشرت كالنار فى الهشيم، خدعونا كثيرا.. واستغلوا مظلة الإسلام وسماحته ووسطيته فى خداع المجتمع الذى لم يسمح لأحد من علمائه بأن ينقذهم من بين براثنهم. اقرأوا كتاب د. عبد العظيم رمضان لتتضح لكم أسرار هذا التحول المجتمعي.