فى أوائل التسعينيات، كنت تصحو من النوم على خبر اعتزال الممثلة الفلانية، وإعلان توبتها، أو أن الممثل الفلانى، تاب إلى الله وأناب واعتزل الفن، وأطلق لحيته، وأنه سيقضى ما تبقى له من العمر فى التكفير عن ذنوبه، غير الفنية بالطبع، كإدمان المخدرات أو الولع بالنساء، وفى زاوية أخرى على هذه الرقعة من الأرض المصرية، كانت جماعة الإخوان قد توغلت فى الأحياء الفقيرة بالمستوصفات الطبية والمدارس ودروس الزوايا، وتوزيع الطعام على الفقراء النازحين من قراهم على هوامش المدن، وقد ظهرت فى هذا التوقيت أيضا يوتوبيا «الكومباوند»، ومساكن الأغنياء المعزولة، المسورة والمحمية برجال أشداء، وفى زاوية ثالثة كان عنف الجماعات الجهادية فى صراعها مع السلطة، يضرب فى قلب المدن المصرية، ويقتل الأبرياء، والمدنيين، والمارين بالمصادفة، أو من انتهى أجلهم قسرا وقدرا فى خضم صراع عبثى، لا يعرف فيه المقتول من قاتله، ولماذا قتله، وبعد قليل ستجرى مراجعات السجون والندم على الدم، والدم لا يقبل الاعتذارات المتأخرة، وتم تدجين جماعة الإخوان بالشراكة الاقتصادية، فبدأ الفراغ يطفو على الشارع المصرى. وفى زاوية ثالثة على هذه الأرض، التى عليها ما يستحق الحياة، انتهى صراع اليمين واليسار، سقط الاتحادالسوفيتى، وظهر الإنسان الأخير، وبعد أن كان الصراع الفكرى: يمينا ضد يسار، أصبح يمينا ضد عين، وظهر أيضا نقد اليمين من الداخل من بعض أتباعه ومنتسبيه، والتاريخ ماكر وخبيث، حين تظن أنك انتصرت، يبدأ انهزامك الداخلى، وبرغم هذا ظلت فكرة اليمين الحليف القوى فى القضاء على الماركسية، مهمة للغرب، لأن هناك أدوارا أخرى ستظهر فى حينها، وكان لا بد من ملء الفراغ، ورفد اليمين بروح جديدة، تستقطب أبناء «الكومباوند»، والنوادى الراقية، وتعمق الفراغ لتظهر نغمة الدعاة الشباب.
وفى زاوية رابعة، على هذه الأرض المباركة بدا الكورس ناقصا يحتاج إلى لحن أممى يشمل الجميع، ويدافع عن الجميع، نغمة تسد فراغا، كان يملأه عنف الإسلاميين ضد السلطة، نغمة تقض مضاجع هذه السلطة، فظهر المجتمع المدنى فى شقه الحقوقى، ينكد على المسئولين، أن أنتم تحت أعيننا، ولن تهنأوا بانتصاركم على الإرهاب، فحتى الإرهابى، وحتى المتدين، وحتى الخارج على الدولة والمختلف معها، له حقوق، ضمنها الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، وتدفقت الأموال، حلالا وحراما، وأصبح شذاذ الآفاق، وبعض المعدمين الطامحين، من أصحاب الياقات البيضاء، ومن ذوى الحيثية، وقد مهدت لهم الأرض بالفضائيات، والصحف الجديدة، ومبادئ حرية الرأى والتعبير، التى ستبدو بعد قليل، حرية القتل والتظاهر، حرية انتقال الأموال والسلاح، وظهرت وجوه، يئست من اليسار، وانهارت معنوياتها بعد السقوط الكبير، فى شبكة باركها صناع الخرائط الجدد، وبعضنا يفرح بأن بلادنا صارت ديمقراطية، حراك على السطح، بين حقوقيين، تبوأوا مقعد المعارضة السياسية، وبين سلطة اتسعت خروقها، وتشابكت معاركها مع الجميع، والناس فى فراغ يترقبون المخلص، وهو جاهز، دعاة جدد يجمعون بين الحداثة والإسلام، يبررون للممثلة المعتزلة حجابها، وعودتها للفن بمظهر جديد، وللممثل التائب يغفرون الخطايا، وعد يا أيها الممثل إلى التمثيل لتكون قدوة لزملائك، فكل شىء جائز، الجمع بين التمثيل والمظهر الدينى، وأنت أيها الحقوقى ما تفعله جزء أصيل من الدين، وأنت يا ابن الأغنياء، يمكنك أن تستمتع بمال أبيك، وسياراته الفارهة، وعلاقاتك النسائية على النمط الغربى، وتكون مسلما، ومتدينا فى الوقت نفسه، كل ذلك تحت عنوان تأويل جديد للدين، يحتاج إلى داعية جديد، فالأزهر وعلماؤه سلطة، وأنت تكره السلطة، والغطاء جاهز، لا تلتفت، لمن يقولون بأن ذلك هو التأويل السيئ للدين، فالتأويل السيىء لنص، أفضل من ترك النص، بعد قليل سنصبح معا، دعاة جددا، وأتباعا، وقودا لثورات وتفجيرات، سنصطف مع أشباهنا، إرهابيين، وحقوقيين، لنشكل البديل الآمن.
صار الواحد من الدعاة الجدد، مقبول الشفاعة عند الحكام، وإن نزلت بالناس نازلة، فزعوا إليه فى كشفها، أو عرضت عليهم معضلة هرعوا إليه فى حلها.
كل ذلك أيضا واللحن تنقصه نغمة، والسيطرة غير مكتملة، فهناك جماعة من المثقفين، عرف أغلبهم فكرة اليسار، يؤمنون بالأدب والثقافة كفكرة مركزية، والأفكار المركزية خطرة، فلا بد من ظهور من يؤسس لضرب الفكرة فى قلب مركزيتها، وكان الناقد الكبير جاهزا ب «زمن الرواية»، ودوت فكرة ديوان العرب، وحين دافع عن نفسه، قال: إن الفكرة تعود إلى نجيب محفوظ، فهو الذى قال: إن الرواية ديوان العرب الجديد، فصارت الثقافة كلها رواية، لا فلسفة، ولا تاريخ أفكار، ولا علوم سياسية، ولا علم اجتماع، ولا علم نفس سياسى يفسر لنا شيئا، وحدها الرواية هى سيدة الموقف، الحكاية وسرد الحكاية، الحدوتة وتفاصيل الحدوتة، جمع الشظايا فى سياق، هى كل الثقافة، وحدها الرواية هى الراية والعلم والنشيد، هى اللحن والمغنى والكورس والجمهور، والأخ الأكبر جاهز، بالجوائز والتكريمات والسفر وبلهنية العيش التى يلقاها من يسير معنا، من يروى معنا، نوبل، وبولتيزز، والبوكر، وكتارا، جاهزة لتكريم الروائيين وجعلهم طبقة جديدة، مع الدعاة الجدد، ونجوم الكرة، وغناء المهرجانات، ظهرت رواية النميمة والتلسين، التى هيأت الأرض للتفاهة والاستسهال والنجومية، ولما صار الروائيون طبقة يمكن أن تؤثر، لما صارت مركزية، والمركزية خطرة، منحت نوبل للمغنى بوب ديلان وللصحفية الروسية سفيتلانا ألكساندوفنا، صاحبة رواية «صلاة تشيرنوبل»، حتى حجبت أخيرا، بسبب الجنس، الذى هو المادة الخام لبعض الروايات، سبحان الله، تحللونه فى الرواية، وتحرمونه فى الواقع، يا أخى نحن نكره المركزية وأنت تصر عليها.
اكتمل الكورس، صار الدعاة الجدد طبقة، ولاعبو الكرة طبقة، والأغنياء الجدد طبقة، الشخصيات الاجتماعية الجديدة، والممثلون الجدد طبقة، الكورس الذى لا يحب المركزية، ولا الأفكار الكبرى، والأخ الكبير جرب ذلك، ونجح فى حزب العدالة والتنمية التركى، المبرر الجاهز لكل جديد، والدعاة الجدد هم البديل الموازى لجماعة المثقفين، والسياسيين التقليديين والمعارضة التقليدية، والصوفيين التقليديين، ودعك من الكلام الكبير الذى يقول: إنه ينبغى لكل ذى فن أن يتخذه سبيلا إلى النجاة، ومرقاة وزلفى عند الله لا صنعة يتهوس بها، فالله فى ذيل القائمة، وراحة الأخ الكبير أولوية.