« إبريل أقسى الشهور» هكذا وصفه الشاعر ت. س. إليوت في قصيدته الشهيرة « الأرض الخراب» ولو كان يعلم أنه سيشهد الرحيل المفجع لعلامة مصر بكل ما تحمله جينات العبقرية الفكرية والتفرد العلمي والرقى القيمي والأخلاقي والإنساني منذ آلاف السنين، متجسدا فى أسطورتها العاشقة والعارفة بسر عبقريتها «جمال حمدان».. لبحث «إليوت» عن وصف أكثر قسوة ودلالة يناسب هذا الجرح العميق، الذي لا يزال نازفا، وسيظل، فى قلب «مصر وشرفائها» مادام ظل بها قلب نابض، وفيها شرفاء.. مصر التي أصبحت المعادل الموضوعي لوجوده، فأوقف مشروعه الإنساني ونبوغه العلمى عليها..وصار موقدا لضوئها حتى فى أحلك لحظات تراجعها وعزلتها، واستغنى بها «وحدها» عما عداها حتى نفسه، فصارت له «وحده» وطنا فى عزلته.. يشعله ويشتعل فيه ، لكى يضئ لنا الطريق..تحاور معها، لتحمله على خاصرة نيلها وتبوح له بأسرار عبقرية موقعها، وموضعها وهى فى ذلك كله تحمله مسئولية تحريضنا، بعبقرية رؤاه وأفكاره وإبداعاته، على اكتشاف خارطة «موقعنا» وجوهر «موضعنا».. والأهم أن يمنحنا حلما لا يملك «أحد»، من أعداء الداخل أو الخارج ، أن يمنعه مهما احتشد واقعنا بالارتباك أو الاختلال، أو انهمرت علينا موبقات تكريس، التخلف، والظلامية، والتبعية، وتداعيات الأطماع من هنا وهناك فى الأرض والدور والمكانة والحضارة حتى التاريخ ..على قساوتها.. وفداحة أثمانها. وهكذا فى أقسى الشهور «أبريل» أغلق ( قوس الرحيل) مبكرا للغاية على وجع الوطن .. واستراح القلب الرقيق من عناء الجحود ..وكف الطائر البهى عن التحليق فوق خرائط التفرد ..معلقا عينيه على آخر نجمة حازت مساءه الأخير.. مات « جمال حمدان» تاركا للشرفاء من أمته «ذاكرة الجمر» .. وللتاريخ « أزمنة مسفوكة الأحلام» ..وللجغرافيا «أماكن مهجورة الأمنيات» .. لكن هل يموت من ظل، برغم روحه الجريحة، حتى اللحظة الأخيرة، ممسكا بقلمه .. مقاتلا.. يفجر بكل حرف يكتبه، غضب الوعى والتنوير فى بحيرة أمته الراكدة، حتى لو ارتدت الحروف أحجارا ورصاصات وحرائق إلى صدره.. إدراكا منه أن دوره الحقيقى هو نقل فعل الحركة والحلم إلى الإنسان العربى، من خلال جرأة امتلاك الخروج على الجمود والعدمية، ورفض انطفاء الآمال مهما كانت الإحباطات، والأهم استشراف آفاق المستقبل ومخاطره وكيفية مواجهة تحدياته . وإذا كنا نستعيد عبر هذا الملف ذكرى رحيله، فإننا نذكر وسنظل بأن عالمنا العربى الآن فى أشد الحاجة الى الاقتراب منه وتأمل مشروعه، هذا المشروع، الذى يحتاج إلى آلاف الدراسات والأبحاث بما يليق بضخامته وعمقه واتساع روافده وخصوصيته.. وفرادة وعبقرية صاحبه «موقد الضوء» الذى أشعل عالمنا العربى واشتعل فيه ليدلنا على الطريق.