د. ياسر ثابت من شقته المتواضعة فى البناية رقم 25 بشارع أمين الرافعى فى حيّ الدقى، كان عالم الجغرافيا د. جمال حمدان يرنو ببصره إلى شريان الحياة فى مصر: نهر النيل. فى تلك الشقة التى تتكون من غرفة واحدة، والتى انعزل فيها عن العالم حتى قضى فيها محترقًا يوم 17 إبريل عام 1993، أطلق صاحب "شخصية مصر: دراسة فى عبقرية المكان" لخياله العنان، كى يستقرئ المستقبل ويدرك أوجاع النيل وأهل المحروسة.. ولو بعد حين! قضى هذا الباحث الرصين سنوات طويلة من عمره منزويًا، ينقب ويحلل ويعيد تركيب الوقائع والبديهيات، حيث تفرغ للبحث والتأليف بعيدًا عن مغريات الحياة. اهتم بحاضر مصر ومستقبلها، وانطلق من هذا الاستقراء النابه إلى رؤية أشمل للعالم العربى وآفاق مستقبله. ووسط مناخ ملبَّد باليأس ولعق الجراح وروح الانهزام، كتب جمال حمدان بعد شهور من هزيمة 1967 كتابه "شخصية مصر: دراسة فى عبقرية المكان". وقد طوَّر لاحقًا الكتاب نفسه ليصبح فى أربعة مجلدات . كان جمال حمدان بهذا الكتاب يقاوم الهزيمة، ويضخّ فى شرايين أمته دماء الشعور بالعزة والكرامة والانتماء لوطن عريق. لم يفعل ذلك بالخطب الحماسية والبلاغة العاطفية والشعارات، بل فعله بالدراسة الشاملة والوعى العلمى العميق بحقائق الجغرافيا والتاريخ وعلوم الاجتماع والسياسة وطبقات الأرض والمناخ والنبات والري... إلخ، وبالكشف عن العلاقة بين موضع مصر على خريطة الجغرافيا، وموقعها على امتداد التاريخ. ولئن انطلق حمدان فى كتابه الاستثنائى من الجغرافيا البشرية أو البلدانيّات، بالتعبير العربى القديم، إلا أنه لم يكتفِ بوصفه الدقيق للمكان، بل تعدّاه إلى فلسفة المكان. فمن النظرة التحليلية فائقة الدقّة إلى النظرة التركيبية واسعة الأفق، لذاك المكان البهيّ: مصر أو "متوسِّطة الدنيا"، وفقًا لتعبير المقريزي. فهى لم تكن قطّ مجرّد "تعبير جغرافي" وحسب، بل كانت دائمًا تعبيرًا سياسيًا، حسب تعبير حمدان. وهى مصر التى تجمع بين أمرين: "الموقع والموضع". فالموقع: قلب العالم، والموضع: هبة النيل، وبينهما مفكّر جغرافيّ فذّ، آثر الانعزال بعد أن رأى بحقّ أن "الناقد المثقَّف والمفكِّر الوطنى الحقّ يجد نفسه محاصَرًا بين قوسين من الإرهاب والترويع الفكرى والجسدي: الحاكم الطاغية المغترّ من جهة، والشعب المكبّل المقهور المغلوب على أمره من جهة أخرى". العالِم المنعزل لم يكن جغرافيًّا عاديًّا، وإذ قيل "إنما الجغرافيّ الجيّد فيلسوف"، فلعلّ هذا القول لا ينطبق على جغرافى مثلما ينطبق على جمال حمدان. فى هذا الكتاب، قال جمال حمدان: إن قَدَر مصر أن تظلّ دائمًا فى حالة انتظار لفيضان النهر وطمى النيل وهندسة الرى وأوامر الحاكم الإله. ويبدو أن مصر المنبسطة بلا جبال أو غابات، لا تُعين على مقاومة الحاكم الظالم؛ ولذا فقد أجبرت الجماهير على الخنوع والاستسلام لطغيان الحاكم، يتساوى فى ذلك أن يكون الحاكم مصريًا أو أجنبيًا. ولكن هل كانت مصر حقًا ضحية الجغرافيا؟ إن جمال حمدان من خلال ما سطّره من كتابات مثل: الموسوعة العبقرية شخصية مصر، والقاهرة، والعالم الإسلامى المعاصر، واستراتيجية الاستعمار والتحرير، كلها تؤكِّد أولاً نظرته العميقة للمستقبل، وكأن ما سطّره كان أشبه بصيحات التحذير لما نحن فيه الآن من أزمات ومثالب سياسية واجتماعية. فمكانة مصر التاريخية والاستراتيجية الراهنة تجدها فى هذه الكتابات المتميزة: التحذير من فوضى التعصُّب والتطرُّف تلمسها فى سطور متناثرة خطّها بقلمه حينما تحدَّث عن وسطية هذا الوطن العظيم، فهو يقرِّر أن مصر، لموقعها الجغرافى المتوسط بين قارات العالم، اتخذت لها موضعًا أكثر وسطية، ونجحت، بالفعل، لسنوات بعيدة فى أن تحافظ على هذه الخصوصية التى تحتوى متناقضات ومتضادات عجيبة فى صورة أعجب وأبلغ. يشير عبقرى المكان إلى أن هذه الوسطية التى تمَيَّزت بها مصر حفظت لها وحدتها السياسية حتى الآن. وإذا ما قلبنا فى صفحات كتاب "جمال حمدان.. صفحات من أوراقه الخاصة"، سنجد حالة نادرة من نفاذ البصيرة والقدرة الاستراتيجية على استقراء المستقبل، متسلحًا فى ذلك بفهم عميق لحقائق التاريخ ووعى شديد بوقائع الحاضر. فى مجمل أعماله، يقرِّر العالم الكبير أن مصر محكوم عليها بالعروبة والزعامة، وأن من قدرها أن تكون رأس العالم العربى، وقلبه، وضابط إيقاعه. وفى هذا الصدد يقرّ حقيقة بالغة الأهمية فى ظل ظروفنا السياسية الراهنة، وهى أن مصر أكثر من عضو ضخم فى الجسد العربى، بل هى رأسه المؤثر، وجهازه العصبى المركزى الفعّال والنشط والمحرِّك. ولم ينس الباحث العبقرى مرحلة أكتوبر بانتصاراتها المجيدة، فنجده يعتبر مصر أكتوبر دليلاً قاطعًا على الشعب المحارب وتكذيبًا دامغًا لنظرية الشعب غير المحارب. وهو يقول فى "شخصية مصر": "إننا كلما أمعنّا فى تحليل شخصية مصر وتعمَّقناها استحال علينا أن نتحاشى هذا الانتهاء، وهى أنها فلتة جغرافية لا تتكرَّر فى أى ركن من أركان العالم، فالمكان، الجغرافيا كالتاريخ لا يعيد نفسه أو تعيد نفسها، تلك هى حقيقة عبقريتها الإقليمية". لم يكن جمال حمدان مبالغًا ولا متشائمًا تمامًا، حين سجل فى مذكراته الخاصة التى نشرها شقيقه عبدالحميد أن مصر مرشحة لأن تختار ليس بين السيىء والأسوأ، بل بين الأسوأ والأكثر سوءًا، لتتحول فى النهاية من مكان سكن على مستوى وطن إلى مقبرة بحجم الدولة. كتب حمدان فى مذكراته بين عاميّ 1990 و1993 يقول: "مصر اليوم إما أن تحوز القوة أو تنقرض، إما القوة وإما الموت، فإذا لم تصبح مصر قوة عظمى تسود المنطقة فسوف يتداعى عليها الجميع يومًا ما كالقصعة، أعداء وأشقاء وأصدقاء، أقربين وأبعدين". أدرك جمال حمدان مخاطر الشح المائى الناتج عن الاستراتيجية الجديدة لدول منابع النيل. فى مذكراته، يقول: "من المتغيرات الخطرة التى تضرب فى صميم الوجود المصرى، ليس فقط من حيث المكانة لكن المكان نفسه، ما يلي: لأول مرة يظهر لمصر منافسون ومطالبون ومدعون هيدرولوجيًا (مائيًا)". "كانت مصر سيدة النيل، بل ملكة النيل الوحيدة. الآن انتهى هذا، وأصبحت شريكة محسودة ومحاسبة ورصيدها المائى محدوداً وثابتاً وغير قابل للزيادة، إن لم يكن للنقص. والمستقبل أسود، ولت أيام الغرق بالماء وبدأت أيام الجفاف من الماء، لا كخطر طارئ ولكن دائم "الجفاف المستديم" بعد الرى المستديم". تنبؤات وكأنها كانت حين تسطيرها قبل نيف وعشرين عامًا قراءة فى كتاب المستقبل. فالجميع يتداعون ضد مصر الآن تمامًا مثل "القصعة"، فى حين حاولت دول حوض وادى النيل فرض الاتفاقية الإطارية الجديدة لحوض النيل، التى وقعت عليها الدول المعنية، باستثناء مصر. بحصافته وبُعد نظره، نبَّه د. جمال حمدان إلى مكمن الخطر، بعد أن رأى أن النظام لا يستطيع دفع فاتورة احتباس حصة مصر من مياه النهر؛ لأنه يحكم بذلك على نفسه وعلى الشعب كله بالإعدام. وها هى إثيوبيا تبنى سد "النهضة" وتخطط لإقامة عدة سدود أخرى على النيل الأزرق بهدف حجز الطمى خلف هذه السدود لتخفيف الإطماء على السد الحدودى الضخم، وسيكون خلف كل سد بحيرة بما سيصل بمجموع المياه المحتجزة خلف هذه السدود إلى نحو 200 مليار متر مكعب، ولتذهب مصر والسودان إلى العطش. إن الدور المصرى فى بُعده الإفريقى مهددٌ أيضًا؛ لأنه يتعرض اليوم لتحديات هى الأولى من نوعها فى تاريخ أرض الكنانة؛ إذ تتحرك دول منبع النيل لتقليص حصة مصر من مياه النهر، الأمر الذى يعنى خنق الاقتصاد المصرى عطشًا، وتحويل مصر من قوة زراعية- صناعية إلى اقتصاد خدمات، أى اقتصاد ريعى - سياحى يتناقض تمامًا مع طبيعة الاقتصاد المصرى التاريخية. لقد بح صوت جمال حمدان وهو ينبه ويحذر من خطر داهم، يهدد مصر وشعبها بالعطش ونقص الماء، أساس الحياة للبشر والأرض على حد سواء. وإذا كان جمال حمدان قد تنبأ بثورة 25 يناير 2011، فإن هذا العالم الكبير "هرم من أجل هذه اللحظة" التى لم تشأ الأقدار أن يعيشها. فى الفصل 42 , قرع الرجل أجراس الخطر، وقال إننا نقترب سريعًا من نقطة الانفجار، طلبًا للتحرر والانعتاق، والتغيير. "وما من شك وما تخفى النذر، أن مصر المأزومة المهزومة المجروحة الجريحة الكسيرة الأسيرة ليست بعيدة جدًا عن تلك المرحلة.. مرحلة حتمية الانفجار، فلقد أصبحت من قبل بمثابة مرجل ضخم يغلى ويفور ويمور بعشرات التيارات العاتية والتقلبات العارمة والتفجيرات المكبوتة المكتومة. ولأن التغيير هكذا أصبح شرط البقاء، والاختيار الأخير صار بين التغيير والموت، فإن تلك المرحلة هى بلا ريب مرحلة الخلاص". ترك جمال نبوءاته ورحل فى صمت، حزينًا على وطن مهدد بمخاطر لا تنتهى، وأمة تواجه عواصف عاتية من كل اتجاه. وهذا وحده كافٍ للعزلة حتى الموت.