مستقبل مصر أسود"، هذا الحكم الصادم ليس كل ما يأتي به كتاب "العلامة الدكتور جمال حمدان ولمحات من مذكراته الخاصة" الصادر لدي "عالم الكتب"، بل هو جزء يسير شاءت وكالات الأنباء اقتطاعه من الكتاب الذي أعده شقيق الراحل الدكتور عبد الحميد صالح حمدان في تقارير تداولها لخبر صدوره، تلك النظرة التشاؤمية لحمدان لا تلغي أهمية وقفات أخري عميقة وجادة علي صعيد الأوضاع: داخليا وعربيا ودوليا خلال القرن الماضي، يمنحها صاحب "شخصية مصر" تحليل ومراجعة رجل موسوعي المعرفة وليس جغرافي فقط بحسب تخصصه. لم يتيسر الاتصال بشقيق جمال حمدان المقيم في جينيف، للاستفسار بدقة عن التاريخ المحدد لكتابة هذه المفكرات، وإن اتضح من قراءتها أنها عبارة عن أفكار مبعثرة، كتبها حمدان كما ما وردت إلي ذهنه، دون مشقة ترتيبها وتفنيدها، وفي السطور التالية نعرضها، لكن هنا في هذه المساحة فضلنا الافتتاح بما ختم به حمدان خواطره متسائلا: "القرن ال21 لمن؟"، وذلك بعد أن فند أحكامه الاستشرافية القائلة بأن العالم الإسلامي اليوم يتنازعه أكثر من مركز منافس: تركيا "رأس الحربة" باعتبارها شبيهة أوروبا، مصر "رأس العرب" بحكم صدارتها في المنطقة، إيران والتي يقول عنها: "تحاول وتدعي، ولكنها في الحقيقة خارج اللغة والحلقة والحلبة، لأسباب ليس أقلها أنها شيعية". خواطر، لمحات، سياحة فكرية وعلمية، مسودات ومواد خام، هي العبارات التي جري وصف هذه المذكرات بها، والتي يري شقيق حمدان أنها عبارة عن كتابات ذاتية لجمال حمدان ليست بقصد النشر علي حالها كما هي، بل لتسجيل الأفكار والآراء الخاصة به، بقصد التفاعل مع الأحداث، تمهيدا لإدراجها ضمن عمل كبير عن "العالم الإسلامي في الاستراتيجية العلمية"، ولأنها خواطر فيختلط فيها العام بالخاص والدراسات العلمية الرصينة بالآراء والانفعالات الشخصية. كامب ديفيد بداية النهاية تلقي آراء حمدان الضوء علي قضايا سياسية مازالت ساخنة منها الإسلام السياسي والعلاقة مع إسرائيل، ويشير الكاتب الذي رحل في ظروف غامضة في إبريل 1993 في أوراقه الخاصة أن مصر فقدت زعامتها في العالم العربي، لكن ليس لها وريث "لأن وراثة مصر كانت أكبر من أي دولة عربية أخري منافسة"، وفي موضع آخر يؤكد "مصر هي قدس أقداس السياسة والجغرافيا السياسية"، أما الذي حصل من وجهة نظر حمدان هو أن تركة مصر تاريخيا وجغرافيا قد نهبت، بعد كامب ديفيد وفي حرب العراق أو ما سميت بتحرير الكويت . مقبرة بحجم دولة ومومياء سياسية في الفصل الأول من المفكرات بعنوان "عن مصر والمصريين"، تصدمنا نظرة جمال حمدان التشاؤمية إلي حد قاسي، وإمعانا في التشاؤم يقول: "هذه ليست نظرة متشائمة إطلاقا، إذ لا مجال البتة للتفاؤل، إنما التشاؤم هو الواقعية، والواقع هو التشاؤم". حمدان الذي ولد عام 1928يبدي في مذكراته الخاصة تخوفه من تراجع مساحة الزراعة التي تعني الحياة للبلاد، وفي رأيه من غير الزراعة ستتحول مصر "إلي مقبرة بحجم الدولة"، لكنه يستبعد ما يصفه بمشاريع إسرائيل والصهيونية والغرب لتفتيت مصر. مضيفا أنه بقيام إسرائيل عام 1948فقدت مصر ربع دورها التاريخي ثم فقدت نصف وزنها بهزيمة 1967 ثم فقدت بقية وزنها جميعا في كامب ديفيد، ومن قبيل الأوصاف القاسية التي تمتليء بها مذكرات أو مفكرات حمدان، ما وصف به دور مصر السياسي بعد كامب ديفيد بأنها - أي الاتفاقية - أحالته إلي "خشبة محنطة" و"مومياء سياسية"، حيث يري أن كامب ديفيد كانت تعني "إطلاق يد إسرائيل مقابل إطلاق يد مصر في سيناء». الناصرية قدر مصر داخل نفس الإطار الذي يتحدث فيه جمال حمدان عن أحوال المصريين ومستقبل مصر، يبدي حمدان بوضوح تعصبه الناصري، حيث يري أن الناصرية هي قدر مصر، ولا يملك أي مصري الهروب منه، وهكذا يمجد حمدان الرئيس عبد الناصر ويري أنه يجب علي أي حاكم مصري أن يكون جغرافي مصر السياسي التطبيقي كما كان عبد الناصر، لكن حمدان يفرق بين الإجماع علي عبد الناصر كرئيس وشخص وبين الناصرية كمذهب، يقول "هنا اتحدث عن الناصري وليس ناصر، فمن حق كل مصري أن يرفض جمال عبد الناصر، لكنه لا يستطيع أن يرفض الناصرية"، وذلك علي الرغم من أنها - الناصرية - كما يستدرك حمدان كانت غير محددة في بعض ملامحها وهلامية. الإسلام السياسي والعصابات الطائفية في الأوراق المعنونة ب"دنيا العالم الإسلامي" يقول حمدان إن العالم الإسلامي حقيقة جغرافية ولكنه خرافة سياسية، وإن المسلمين أصبحوا "عبئا علي الإسلام بعد أن كان الإسلام عونا للمسلمين"، وإن الإسلام السياسي تعبير عن مرض نفسي وعقلي، "فلو كان لدي الإسلام السياسي ذرة إحساس بالواقع المتدني المتحجر لانتحر"، واصفا الأحزاب الدينية بالعصابات الطائفية التي هي "مافيا الإسلام"، ويشترط لتقدم مصر والعرب والعالم الإسلامي "شنق آخر الجماعات الإسلامية بأمعاء آخر إسرائيلي في فلسطين"، موضحا أن تلك الجماعات المتشددة، يطلق عليها لقب "المطاريد" و"دراويش القرن ال20"وباء دوري يصيب العالم الإسلامي في فترات الضعف السياسي. ويضيف هدف الإسلاميين الإرهابيين هو "حكم الجهل للعلم"، لأن الدين سلاح ذو حدين، ومنطقهم بسيط وواضح، فلأنهم في قاع المجتمع فليس لديهم ما يخسرونه، فإما أن يضعهم المجتمع في مكانة مقبولة أو فليذهب الجميع إلي الجحيم تحت ستار الدين. الأخطر من بين آراء وأفكار حمدان المبعثرة في أوراقه، هو قوله أن الفتنة الطائفية والتطرف الإسلامي في مصر كلاهما نتيجة مباشرة للاعتراف بإسرائيل.