"آفة حارتنا النسيان".. ويبدو أنها حارة، لن تصل إلى حقها فى العيش الكريم والحرية والعدالة بكل تجلياتها، طالما أن البعض يحاول أن ينسيها هويتها وكينونتها ومزيجها الحضارى الفريد... النسيان الذى جعل المصرى يسأل عن لحم الجن، لا عن رسالته الإنسانية، ولا يستطيع أن يوفر لقمة عيشه، واكتفاءه الغذائى وهو الذى علم البشرية الزراعة، ويعجز عن تنظيف شارعه، وهو الذى كان “كان لا يزنى ولا يسرق ولا يلوث ماء النيل"، .. نسيان جعل الصحراء تغزو روحه، والصقيع يحاصر قلبه، والجمود يحدد عقله، وكأنه ليس ابن أعظم حضارتين تزوجتا هما الحضارة الفرعونية والإسلامية، كما وصف نجيب محفوظ نفسه، وهو يتسلم أعظم جوائز الإبداع فى العالم . أنصح أعضاء اللجنة التأسيسية للدستور، بل كل من يظنون فى أنفسهم اشتغالا بالشأن العام، أن يعودوا إلى كلمة نجيب محفوظ، فى حفل تسلمه جائزة نوبل، فهى لم تكن احتفالية أو بروتوكولية أو ظرفية، وإنما كانت تعريف بهوية وحقيقة الإنسان المصرى، وعلاقته بنفسه وبالعالم، وتحمل إجابات وحلولا لكل الإشكاليات – الحقيقى منها والمفتعل – التى تجعلنا نغرق فى التفاصيل ونترك الأصل، حتى ينفرط كل ما هو حضارى فينا وبيننا . يقول محفوظ: أنا ابن حضارتين تزوجتا فى عصر من عصور التاريخ زواجا موفقا، أولاهما عمرها سبعة آلاف سنة، وهى الحضارة الفرعونية، وثانيتهما عمرها ألف وأربعمائة سنة، وهى الحضارة الإسلامية. ولعلى لست فى حاجة إلى تعريف بأى من الحضارتين لأحد منكم، وأنتم من أهل الصفوة والعلم، ولكن لا بأس من التذكير ونحن فى مقام النجوى والتعارف. وتحمل كلمة محفوظ الجوهرين الأعمق للحضارتين، وهما القانون الذى يؤدى إلى العدل، ويجعله ظلا ودرعا، والعلم والمعرفة التى لولاهما لا يتأكد الطموح الإنسانى واقعيا بل يتحول إلى جهل وأوهام وبحث عن لحم الجن ..يقول مخفوظ فى رؤيته للحضارة الفرعونية: لن أتحدث عن الغزوات وبناء الإمبراطوريات، فقد أصبح ذلك من المفاخر البالية التى لا ترتاح لذكرها الضمائر الحديثة والحمد لله. ولن أتحدث عن اهتدائها لأول مرة إلى الله سبحانه وتعالى وكشفها عن فجر الضمير البشرى. فلذلك مجال طويل فضلا عن أنه لا يوجد بينكم من لم يلم بسيرة الملك النبى أخناتون. بل لن أتحدث عن إنجازاتها فى الفن والأدب ومعجزاتها الشهيرة الأهرام وأبو الهول والكرنك، فمن لم يسعده الحظ بمشاهدة تلك الآثار فقد قرأ عنها وتأمل صورها. دعونى أقدمها الحضارة الفرعونية بما يشبه القصة طالما أن الظروف الخاصة بى قضت بأن أكون قصاصا، فتفضلوا بسماع هذه الواقعة التاريخية المسجلة. تقول أوراق البردى: إن أحد الفراعنة قد نما إليه أن علاقة آثمة نشأت بين بعض نساء الحريم وبعض رجال الحاشية. وكان المتوقع أن يجهز على الجميع فلا يشذ فى تصرفه عن مناخ زمانه. ولكنه دعا إلى حضرته نخبة من رجال القانون. وطالبهم بالتحقيق فيما نما إلى علمه، وقال لهم إنه يريد الحقيقة ليحكم بالعدل. ذلك السلوك فى رأيى أعظم من بناء إمبراطورية وتشييد الأهرامات وأدل على تفوق الحضارة من أى أبهة أو ثراء. وقد زالت الإمبراطورية وأمست خبرا من أخبار الماضى. وسوف يتلاشى الأهرام ذات يوم ولكن الحقيقة والعدل سيبقيان مادام فى البشرية عقل يتطلع أو ضمير ينبض ..ثم يفيض حديثا مركزا ومعمقا عن الحضارة الإسلامية فيقول :فلن أحدثكم عن دعوتها إلى إقامة وحدة بشرية فى رحاب الخالق تنهض على الحرية والمساواة والتسامح، ولا عن عظمة رسولها. فمن مفكريكم من كرمه كأعظم رجل فى تاريخ البشرية. ولا عن فتوحاتها التى غرست آلاف المآذن الداعية للعبادة والتقوى والخير على امتداد أرض مترامية ما بين مشارف الهند والصين وحدود فرنسا. ولا عن المؤاخاة التى تحققت فى حضنها بين الأديان والعناصر فى تسامح لم تعرفه الإنسانية من قبل ولا من بعد. ولكنى سأقدمها فى موقف درامى مؤثر يلخص سمة من أبرز سماتها. ففى إحدى معاركها الظافرة مع الدولة البيزنطية ردت الأسرى فى مقابل عدد من كتب الفلسفة والطب والرياضة من التراث الإغريقى العتيد. وهى شهادة قيمة للروح الإنسانى فى طموحه إلى العلم والمعرفة. رغم أن الطالب يعتنق دينا سماويا والمطلوب ثمرة حضارة وثنية ثم يضع خريطة لإنقاذ الإنسانية كلها وهو يقول: وفى هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ الحضارة لا يعقل ولا يقبل أن تتلاشى أنات البشر فى الفراغ. لا شك أن الإنسانية قد بلغت على الأقل سن الرشد. وزماننا يبشر بالوفاق بين العمالقة ويتصدى العقل للقضاء على جميع عوامل الفناء والخراب. وكما ينشط العلماء لتطهير البيئة من التلوث الصناعى فعلى المثقفين أن ينشطوا لتطهير البشرية من التلوث الأخلاقى. فمن حقنا وواجبنا أن نطالب القادة الكبار فى دول الحضارة كما نطالب رجال اقتصادها بوثبة حقيقية تضعهم فى بؤرة العصر. قديما كان كل قائد يعمل لخير أمته وحدها، معتبرا بقية الأمم خصوما أو مواقع للاستغلال. دونما أى اكتراث لقيمة غير قيمة التفوق والمجد الذاتى. وفى سبيل ذلك أهدرت أخلاق ومبادئ وقيم. وبرزت وسائل غير لائقة. وأزهقت أرواح لا تحصى. فكان الكذب والمكر والغدر والقسوة من آيات الفطنة، ودلائل العظمة. اليوم يجب أن تتغير الرؤية من جذورها. اليوم يجب أن تقاس عظمة القائد المتحضر بمقدار شمول نظرته وشعوره لمسئوليته نحو البشرية جميعا. وما العالم المتقدم والثالث إلا أسرة واحدة، يتحمل كل إنسان مسئوليته نحوها بنسبة ما حصل من علم وحكمة وحضارة. ولعلى لا أتجاوز واجبى إذا قلت لهم باسم العالم الثالث: لا تكونوا متفرجين على مآسينا، ولكن عليكم أن تلعبوا فيها دورا نبيلا يناسب أقداركم. إنكم من موقع تفوقكم مسئولون عن أى انحراف يصيب أى نبات أو حيوان فضلا عن الإنسان فى أى ركن من أركان المعمورة. وقد ضقنا بالكلام وآن أوان العمل. آن الأوان لإلغاء عصر قطاع الطرق والمرابين. نحن فى عصر القادة المسئولين عن الكرة الأرضية. أنقذوا المستبعدين فى الجنوب الإفريقى. أنقذوا الجائعين فى إفريقيا. أنقذوا الفلسطينيين من الرصاص والعذاب بل أنقذوا الإسرائيليين من تلويث تراثهم الروحى العظيم. أنقذوا المديونين من قوانين الاقتصاد الجامدة. والفتوا أنظارهم إلى أن مسئوليتهم عن البشر يجب أن تقدم على التزامهم بقواعد علم لعل الزمن قد تجاوزه. * [email protected]