حظيت الأزمة الليبية باهتمام دولى خاص أثناء اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، بدا فى أكثر من تطور، كالاجتماع الخاص رفيع المستوى الذى عقد برعاية الأمين العام للأمم المتحدة وحضره العديد من رؤساء الدول والحكومات لبحث تطورات الأزمة الليبية، والكلمة الخاصة للمبعوث الأممى غسان سلامة، والتى طرح فيها تصورا متعدد الخطوات على مدى عام كامل يُنهى التعديلات المطلوبة على اتفاق الصخيرات واعتمادها من قبل مجلس النواب، والتحضير لحوار وطنى وتعديلات دستورية ثم انتخابات رئاسية تنهى الفترة الانتقالية، وبعدها انتخابات برلمانية. إلى جانب الاهتمام الأممى الذى هو دور أصيل يخضع لتفويض من كل الدول الأعضاء ومدعوم بقرارات من مجلس الأمن الدولى، هناك تحركات دولية أخرى متوقع حدوثها فى الأسابيع المقبلة، أهمها اجتماع رباعى سوف يجمع بريطانيا وأمريكا وإيطاليا وفرنسا سيعقد فى لندن ولم يحدد موعده بعد، واجتماع آخر اقترحته فرنسا مع الاتحاد الإفريقى بهدف جمع الفرقاء الليبيين قبل نهاية العام. وهى اجتماعات غير معروف هدفها الرئيسى، اللهم التشويش على خطة عمل الأممالمتحدة، والخروج بقرارات ومواقف تجعل استعادة ليبيا لنفسها أمرا عسيرا، أو ربما تكون اجتماعات روتينية لتبادل الآراء حول آخر تطورات الشأن الليبى، لكنها فى النهاية سوف تثير عقبات غير محسوبة ولا داعى لها.
مصر من جانبها لم تكن غائبة عن هذا الملف الحيوى، فليبيا بالنسبة لمصر أكثر من مجرد بلد جار جغرافيا، إنها بلد شقيق بكل معنى الكلمة يتعرض لمحنة كبيرة منذ ستة أعوام، والوقوف معه للخروج من هذه المحنة ليس محلا للتساؤل أو التردد، إنه الواجب والدور فى آن واحد. ولعل هذه القناعة الرسمية والشعبية السائدة فى مصر، تفسر تلك الجملة القوية التى قالها الرئيس عبد الفتاح السيسى أمام الحاضرين فى الاجتماع الخاص بليبيا، فمصر «لن تسمح بالعبث بأمن ليبيا»، والجملة برغم بساطتها فهى تلخص أمورا كثيرة، ووراءها أيضا تحركات كثيرة وفى اتجاهات متعددة؛ مصرية ليبية مع كل العناصر الفاعلة على الأرض الليبية سواء سياسيين أم عسكريين أم قادة محليين أم قادة قبائل ذات نفوذ. وأخرى مصرية عربية لاسيما مع كل من الجزائر وتونس، وكذلك مع الإمارات العربية، وثالثة مع القوى الدولية لا سيما روسيا والولايات المتحدةوفرنسا.
وفى كل هذه التحركات المصرية كان الهدف واضحا وهو إعداد ليبيا للدخول فى مرحلة استعادة الذات من خلال توافق الليبيين أنفسهم عبر مزيد من المرونة والإقدام على تنازلات متبادلة لصالح الدولة الليبية ومؤسساتها الشرعية، والحد من التدخلات الدولية التى يؤدى تعددها وابتعادها عن أهداف الليبيين أنفسهم إلى تقييد حركة الأممالمتحدة، وإلى إثارة تعقيدات أكثر ومن ثم تأخير التوافق الليبي. وهو الأمر المرفوض مصريا.
وفى الرؤية المصرية التى طرحها الرئيس السيسى أمام الاجتماع الأممى الخاص بليبيا، تم وضع أربعة عناصر متكاملة؛ أولها دعم المجتمع الدولى للجهود التى تقودها الأممالمتحدة لإنجاز تسوية سياسية شاملة فى ليبيا، يتوصل إليها الليبيون أنفسهم دون وصاية عليهم، ومن ثم لا مجال لتعدد المرجعيات فى هذا الشأن، وثانياً العمل على التوصل، بشكل سريع، لتسوية شاملة قبل انتهاء الفترة الانتقالية التى حددها الاتفاق السياسى فى 17 ديسمبر المقبل، وبما يحول دون الانزلاق إلى فراغ سياسى وأمني. وثالثا أن الخروج من الأزمة السياسية يتطلب حزمة واحدة من التفاهمات تتناول قضايا الحكم، بشقيها المتعلق بالمجلس الرئاسى وبحكومة الوفاق الوطني، وإدارة المرحلة الانتقالية، وتوحيد المؤسسة العسكرية تحت قيادتها الشرعية، والتوافق على قانون وطريقة إدارة الانتخابات النيابية والرئاسية، وتضمين كل ذلك فى تعديل دستورى يصدر عن مجلس النواب. وثالثا تشجيع قادة المؤسسات الليبية الشرعية على المزيد من التواصل وإبداء المرونة السياسية والتوصل لتسويات تاريخية فى جميع القضايا، ورابعا زيادة جهود مكافحة الإرهاب فى ليبيا.
الرؤية المصرية على النحو السابق تلخص مجمل الجهود التى بذلت من قبل من أجل تهيئة المناخ الإيجابى لحل توافقى ليبى تدعمه الأممالمتحدة وكل القوى المهمة فى المجتمع الدولى. والعنصر الأكثر أهمية يتمثل فى أن يتحاور الليبيون أنفسهم بعيدا عن التدخلات والإملاءات من هذا الطرف أو ذاك، وهى مهمة تتوافر أسسها الرصينة ممثلة فى اتفاق الصخيرات، الذى يتطلب بعض تعديلات توافق على أغلبها الليبيون أنفسهم من خلال حوارات وتفاهمات تم بعضها برعاية مصرية بدون أدنى تدخل فى مسار المفاوضات، وتم التوصل إلى بعضها الآخر بمساهمات تونسية وجزائرية، مما يجعل مهمة تعديل الاتفاق أكثر يُسرا مما كانت عليه قبل عام.
وتبرز هنا القناعة المصرية بتقوية ودعم المؤسسات السياسية والأمنية. ولمصر رؤية أكثر وضوحا من كل رؤى الآخرين، تنطلق من ضرورة بناء جيش ليبى وطنى موحد، يُرفع عنه حظر السلاح الدولى، ويُعهد إليه بحماية الأراضى الليبية ومكافحة الجماعات الإرهابية وتخليص البلاد والعباد من شرورها، لذا لا تألو مصر جهدا فى مساعدة الليبيين على رفع المهارات القتالية من خلال توفير فرص التدريب فى المعاهد المصرية المتخصصة، وإتاحة الفرصة واحدة تلو الأخرى للحوار بين القادة العسكريين الليبيين من كل مناطق ليبيا لإيجاد الحلول الأمنية المناسبة للدفاع عن بلادهم أرضا وشعبا. فالعبث بأمن ليبيا مرفوض جملة وتفصيلا، لأنه باختصار عبث بالأمن المصرى، وتلك مسئولية كبرى تعيها مصر جيدا ولا تتنازل عنها مهما كانت التحديات.