ما زال من المبكر القول بأن المصالحة الفلسطينية الشاملة قد تحققت، والقول الأكثر دقة إن الطرفين الأكبر فى الساحة الفلسطينية، حركة فتح وحماس، قد اتخذتا خطوة أولى جيدة على طريق يمكن أن يكون طويلا وبلا نهاية كما حدث فى محاولات سابقة، ويمكن أن يكون طريقا قصيرا ينتهى بما هو مأمول ومنطقى ويتلخص فى تحقيق الوحدة الوطنية وترسيخ التعددية السياسية فى آن واحد، والدخول بقوة فى متطلبات بناء دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشريف. الفارق بين الطريقين المرجحين هو الفارق بين الإرادة وبين التراخى، بين المسئولية الوطنية وبين العبث السياسى بمصير الأمة والوطن معا. لقد أعلنت حماس فى بيان شهير فى 17 سبتمبر الجارى أنها استجابة للجهود المصرية فقد أبدت استعدادها لحل اللجنة الإدارية التى شكلتها فى مارس الماضى لإدارة قطاع غزة، وتسليم الأجهزة المختلفة لحكومة التوافق الوطنى، وتفعيل اتفاق المصالحة للعام 2011، والمشاركة فى الانتخابات العامة المقبلة. مثل هذا الموقف له أسبابه كما له آفاقه الطيبة إن خلصت النيات من كل القوى الفلسطينية الفاعلة. السلطة الوطنية من جانبها رحبت بموقف حماس، وأعلنت على لسان المفوض بالحوار مع حماس عبر الإدارة المصرية عزام الأحمد أن الأيام المقبلة سوف تشهد خطوات رسمية لتفعيل هذه الاستحقاقات، وعن استعداد حكومة التوافق الوطنى للذهاب إلى غزة واستلام مهام الإدارة هناك وفق القانون الفلسطينى.
بشكل عام ثمة ما يدعو إلى التفاؤل ولو جزئيا، فهناك ضمانات مصرية قوية قُدمت للطرفين من أجل إنجاح المصالحة فى صورتها الشاملة، وهناك دعم عربى للدور المصرى ودعم روسى وترقب أمريكى. والطرفان الرئيسيان وباقى الفصائل الفلسطينية يؤمنون جميعا بأن رعاية مصر تنطلق من دورها القومى والعروبى، وجديتها غير المشكوك فيها بأنها ترعى المصالح الفلسطينية، كما ترعى المصالح الوطنية المصرية، استنادا إلى إيمان عميق بأن أمن فلسطين هو مكون أساسى من أمن مصر القومى. وهو دور يختلف عن كل الأدوار التى سعت إليها قوى إقليمية أخرى، سواء فى جدية هذا الدور وفى عروبته وفى صدقه وفى قدرته على المتابعة، وصولا إلى مصالحة شاملة تنهى معاناة الفلسطينيين فى غزة وتنهى عزلتهم عن العالم. أما الآخرون فلم يتعد هدفهم الدعاية السياسية الجوفاء. لكن تظل هناك مسئولية رئيسية على كل القوى الفلسطينية الفاعلة بأن تتمسك بهذه الفرصة، وأن تقدم المرونة اللازمة فى مواقفها من أجل تثبيت المصالحة، والدخول فى استحقاقات المرحلة المقبلة بموقف وطنى فلسطينى موحد ينهى كل تلك المقولات الإسرائيلية الفاسدة بأنه لا يوجد طرف فلسطينى يصلح للتفاوض معه، ويُظهر الفلسطينيين كأمة موحدة رغم تعدد التيارات السياسية لشعبها، وقادرة على بناء دولة وإدارتها، وأن تكون عنصرا مهما فى الاستقرار والسلام فى الشرق الأوسط كله.
لقد أقدمت قيادة حماس الجديدة ممثلة فى اسماعيل هنية رئيس المكتب السياسى ويحيى السنوار رئيس الحركة فى قطاع غزة على خطوة مهمة بتخليها عن الإدارة المنفردة للقطاع وتسليمها لحكومة التوافق الوطنى برئاسة رامى الحمد، والعودة مرة أخرى لاتفاق المصالحة المفصل فى بنوده للعام 2011، متسلحة فى ذلك بالوثيقة السياسية التى صدرت مايو الماضى، وفيها عّرفت حماس نفسها بأنها فصيل وطنى فلسطينى ذو مرجعية إسلامية، وبالتالى ليست جزءا من حركة الإخوان المسلمين التى حددها القانون المصرى حركة إرهابية، كما قبلت فى الوثيقة ذاتها ما يعرف بالحلول المرحلية من أجل تحرير فلسطين ممثلا فى قبول دولة فلسطينية على حدود 1967. ويشار هنا إلى ما يُعرف عن يحيى السنوار، وهو الأسير المحرر من سجون الاحتلال الإسرائيلى بعد سنوات طويلة فى الأسر، وارتباطه العضوى بهموم أهل القطاع، فإنه يرى حماس كحركة معارضة سياسية ومقاومة للاحتلال وليس حركة حكم، وأن العقد الذى أدارت فيه القطاع منفردة أثر على شعبية الحركة بين أهل غزة خصوصا فى ضوء غياب الموارد الذاتية للقطاع، وفى ظل حصار الاحتلال الإسرائيلى، فضلا عن الضغوط التى مارستها السلطة الوطنية، ممثلة فى وقف التحويلات المالية إلى القطاع، وخفض رواتب موظفي السلطة، ورفت ما يقرب من ستة آلاف موظف، والتوقف عن دفع فاتورة الكهرباء التي تزود بها إسرائيل القطاع. الأمر الذى يجعل تحرر حماس من تلك الضغوط بمثابة تصحيح لوضعية الحركة تجاه نفسها أولا، وتجاه الشعب الفلسطينى كله ثانيا.
وثمة من يقول فى قطاع غزة بأن الاعتراضات الأمريكية على المصالحة الفلسطينية قد توارت، وأن هناك فى الآفق ربما القريب استعدادات لمفاوضات فلسطينية إسرائيلية برعاية أمريكية، وبالتالى فهناك فرصة لكى تبدأ حماس مرحلة جديدة فى إطار الاصطفاف الوطنى الفلسطينى. وإذا كانت البداية تتمثل فى التخلص من أعباء حكم غزة والشراكة مع حركة فتح وباقى الفصائل الفلسطينية، فإن قناعة قيادة حماس الجديدة تنتظر المكافأة فى صورة تحقيق نتيجة إيجابية فى الانتخابات التشريعية المنتظرة قريبا بنسبة لا تقل عن 30 فى المائة، مما يجعلها رقما مهما فى أى تطور فلسطينى سواء بالنسبة لعملية التسوية السياسية أو بالنسبة لتشكيل حكومة جديدة بناء على نتائج الانتخابات، تدير مجمل الشأن الفلسطينى داخليا وخارجيا. والظاهر أن مثل هذا التفكير ليس مقتصرا على يحيى السنوار، وإنما هو قناعة عامة بين قيادات حماس الجديدة، الأمر الذى يساعد على اتخاذ خطوات أخرى جريئة على طريق المصالحة الشاملة.
الوضع المقابل لحركة فتح، والسلطة الفلسطينية وكلاهما برئاسة الرئيس محمود عباس، وإن كان مرحبا بالتعهدات التى أعلنتها حماس وبالدور المصرى، فإن الصورة الكلية لا تنفى وجود من يشكك فى التزام حماس بمتطلبات المصالحة، وتبرير ذلك لديهم يستند إلى ما يعتبرونه تهرب حماس المتكرر من كل الاتفاقات السابقة، وهؤلاء يتخوفون من أن يحدث الشىء نفسه فى هذه الحالة. وثمة من كان ينتظر تعنتا من جانب حماس، وبالتالى لم يكن يتوقع موقفها الجديد، وحين أعلن على النحو المعروف، حدث قدر من الارتباك لدى فتح والسلطة فى آن. لكن سرعان ما تم تدارك ذلك. وبعيدا عن تلك المواقف الأولى نعتقد أن السلطة وبرغم شكوكها فى أن تكون حماس شريكا ملتزما بالوثائق الفلسطينية المعلنة والخاصة بالتسوية السياسية، فإنها أصبحت فى موقع يتطلب منها استثمار الفرصة، لاسيما أن أحد أسباب مرونة حماس الأخيرة هو الضغوط التى مارستها السلطة كما تمت الإشارة سابقا، وهو ما يعنى أن السلطة لديها الكثير من الأوراق التى يمكن أن تساعد على تصحيح الكثير من المواقف والأخطاء.
وكما أن المرونة مطلوبة من حماس فى شأن تسليم الأجهزة التابعة للسلطة مقاليد الإدارة فى القطاع، بما فى ذلك قطاع الأمن مع مراعاة هواجس وتخوفات حماس، والالتزام بالقانون الفلسطينى، والدخول فى حوارات مع السلطة وباقى الفصائل تحدد تفاصيل المرحلة الجديدة، وتسهيل مهمة الانتخابات التشريعية المقبلة، وتشكيل حكومة تعبر عن توجهات الفلسطينيين الحرة، فإن السلطة أيضا مطالبة بأن تكون ذات أفق أكثر مرونة وأكثر اتساعا فى التعامل مع الأمور الشائكة من قبيل الوضع القانونى بالنسبة للموظفين الذين عينتهم حماس فى أجهزة السلطة المختلفة، لا سيما الأمنية منها، ويقترب مجموعهم من 40 ألف موظف، وفى العودة سريعا عن الضغوط التى مورست كقطع المرتبات ورفت الكثيرين، وفى سرعة تمويل محطة الكهرباء الوحيدة فى غزة. ففى ظل المصالحة لابد من التعامل مع الفلسطينيين فى القطاع بنفس القدر من المسئولية الوطنية مع أهل الضفة.
والمرونة الأكبر المطلوبة من الجانبين تتعلق بالشق الأمنى، لا سيما المنتسبين لحماس فى تلك الأجهزة، والذين يمكن ضم بعضهم إلى هيكل الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، وإعادة تنظيم تلك الأجهزة على قاعدة وطنية وليست حزبية أو فصائلية، وتعويض البعض الآخر بعمل فى إدارة أخرى، إن ملك المهارات المطلوبة، أو الحصول على تعويض مالى مناسب يساعد على بدء عمل تجارى أو اقتصادى بدلا من تركهم وأسرهم فى العراء، وبما قد يسبب ارتباكات غير محسوبة فى المستقبل. وهناك أيضا الإجراءات الأمنية التى يمكن التوصل إليها لإفساح المجال لفتح منتظم لمعبر رفح وبالتنسيق بين السلطة وبين الحكومة المصرية وفقا لاتفاق العام 2005، وبحيث لا تُستبعد حماس تماما من تلك الإجراءات فى الفترة الانتقالية، التى ينتظر ألا تزيد على ستة أشهر بأى حال من الأحوال أو أقل، وحتى تشكيل حكومة جديدة بعد الانتخابات التشريعية المقبلة، بل تكون تلك الإجراءات بالتنسيق معها فيما يخص داخل القطاع، وبعد المرور من المعبر الذى ستديره أجهزة تابعة للسلطة الوطنية أو الحرس الرئاسى التابع للرئيس الفلسطينى مباشرة، وهى الصيغة المعمول بها بالفعل فى معبر إريتز بين القطاع وإسرائيل.
ومن القضايا الشائكة التى تتطلب خطوات تدعم الوحدة الفلسطينية ما يتعلق بالأسرى والمسجونين المحسوبين على حماس أو فتح، ولعل تشكيل لجنة قانونية من ممثلين للطرفين ما يساعد على التوصل إلى حلول عملية وقانونية تدعم فى النهاية التماسك الوطنى المطلوب الآن أكثر من أى وقت مضى. فضلا عن أن الرئيس عباس لديه صلاحيات قانونية بالعفو العام، ويمكن أن يكون أحد الحلول المرضية للجميع.
كذلك فالمرونة مطلوبة أكثر فى تنظيم الانتخابات العامة المقبلة، ولتكن البداية فى انتخابات تشريعية، تليها انتخابات رئاسية ثم انتخابات المجلس الوطنى لمنظمة التحرير. وبحيث تكون الفوارق الزمنية مناسبة ونتيجة لحوار فلسطينى عام. والأمل أن تتفق القوى الفلسطينية على جدول زمنى مناسب لهذه الاستحقاقات الوطنية، وبحيث يصبح مرجعا للجميع، ويرسل رسالة للعالم بأسره أن الشعب الفلسطينى وسلطته الوطنية على الطريق الصحيح. هناك فرصة بالفعل لكى يتقدم الفلسطينيون جميعا خطوة كبرى إلى الأمام، والأمل أن لا تضيع مثل سابقاتها.