"أن تمتلك أو أن تكون"، معادلة قد تبدو للوهلة الأولى معادلة ثنائية (Binary distinction)، إما الكينونة المقترنة بالزهد والتصوف، وإما التملك الملازم لتفكك الإنسان من الداخل. مع القهر الذي يمارسه النظام الرأسمالي العالمي، للحفاظ على هذه الثنائية، إلا أن ثمة وجوه أخرى للحكاية سبّبها هو، أن تكون متعلماً أو أن تمتلك العلم، أن تتذكر أو أن تمتلك الذاكرة، أن تحب أو أن تمتلك الحب، أن تمتلك السلطة أو أن تكون سلطة، أن تكون مؤمناً أو أن تمتلك الإيمان. هي ثنائيات أعمق، وإن كانت على صلة بالثنائية الأولى. ومع صخب الأسواق، وضجيج الدعاية، بحث إريش فروم عن وجود للإنسان يحميه من التفكك الداخلي، وجعل من الثنائيات واللغة أسئلة وجودية. الأسماء التي تتغول على الأفعال في لغتنا اليومية. أنا أحب، وأنا أريد، وأنا أكره تخسر حصصها من ألسنة البشر لحساب أنا عندي فكرة، وأنا عندي رغبة، وأنا عندي منضدة، وأنا عندي مشكلة. اللغة تنتصر لعلاقات التملك والاستحواذ عند الإنسان. أنا موجود بقدر ما أستهلك وأمتلك. في التعلم، تجد عدداً كبيراً من الطلاب يجلسون في المحاضرات، وينصتون جيداً، ويدونون ملاحظاتهم، ويحاولون تنسيق الزمن للتركيز بين فعل التدوين، وتذكر ما يقال. العملية بأكملها هي اكتناز للمعرفة، تخزين لها، ملكيتها، كي يتجاوز الطلبة الامتحان بنجاح. كل ذلك فعل حيازة، مؤداه تملك النجاح، التفكير في قمة الجبل أكثر من متعة تسلقه. للتعلم في نمط الكينونة شكل آخر، فطلبة الكينونة من طينة أخرى، هم يثيرون الأسئلة ولا يحضرون شيئاً صفحات الكتب قبل محاضراتهم، يحضرون أسئلتهم الخاصة، هواجسهم المحيطة بموضوع النقاش. لا يفكرون كثيراً في قمة الجبل، لذلك هم أسرع من يصل إليها. يقول باول سامويلسون، وهو مؤلف لكتاب مهم في الاقتصاد " لقد دخلت كلية الاقتصاد لكي أجنب نفسي وأهلي الإفلاس، وبعد المحاضرات الأولى، اكتشفت أنني سأدرس علم الاقتصاد لأجنب أمتي الكوارث الاقتصادية". إن العلم في فعل الكينونة، يجعلنا مختلفين بعده. في التخاطب بين الناس، يعتمل العقل التبريري عندنا إلى أقصى مدى، عندما نختلف في الآراء، كل منا يحاول إبراز كل الحجج الممكنة، لأن رأيه واحد من ممتلكاته التي يخشى فقدانها، إن حالة الفقد هذه تمنعنا من تعلم الجديد، والاستفادة منه، هي الفرق بين تعلم الكينونة والتعلم بالتملك. وفي القراءة أيضاً يعيش البشر فعل الكينونة والتملك، فقراءة الروايات السردية الخالصة، أو روايات المترو، المبنية على الأحداث الغامضة المقبلة في مسيرة البطل، تدفعنا للبحث عن امتلاك معرفة الحدث الغامض. المشاركة الداخلية المثمرة في فعل القراءة شيء آخر، فالكتب التي تغير مسار حياتنا وسلوكنا من طينة أخرى، وهي بالتأكيد ليست التي تدعي إمكانية امتلاك اللغة في سبعة أيام. يحتاج البشر إلى فعل التذكر، فلا يمكن لتحليل الظواهر أن يتم، و لا الاستدعاء الحر للأفكار أن يكتمل دون الاستعانة بقاعدة البيانات التي نبنيها بتراكم طويل وبطيء. منا من يتذكر باستخدام الصور، الصلة بين الكلمة والكلمة التالية بناء على الصوت أو الشكل أو التكرار، ومنا من يتذكر عبر الرسومات والحركات الحية للأفكار، الفكرة في رأس الفئة الثانية هي مشهد مسرحي حي. إن التذكر في فعل الكينونة، هو أن نعيد إلى الحياة الشيء الذي رأيناه أو سمعناه، إن التذكر يأتي في سياقات شعورية متعلقة بما نتذكره، أما الذكريات المودعة في الاوراق فهي شكل من أشكال التذكر المغترب. قد نتمكن من امتلاك سلطة ما، ولكن من الصعب أن نكون سلطة، من السهل أن توصلك السلسلة الوراثية أو الجينات إلى موقع الملك أو زعيم القبيلة أو الطائفة، ولكن الأنبياء وكبار الفلسفة والمفكرين – الذين لم يبحثوا في حياتهم عن سلطة – تحولوا بصدفة البحث وشغف البحث عن الحقيقة إلى سلطات. في الحالة الأولى يعاني الأشخاص من اغتراب السلطة، وفي الثانية تصبح السلطة مكوناً ذاتياً في أعماق الإنسان، إنها ليست موضوعاً، لأنها ببساطة ليست ملكية. بوذا المتطرف في نزعته لانتزاع الرغبة المتأصلة فينا أصبح سلطة لشعوب بأكملها، والمسيح "الحقيقة تجعلكم أحراراً" أصبح سلطة لشعوب أخرى، و كارل ماركس الكاره للأوهام، نادى لخلق الظروف التي تجعل الأوهام غير ضرورية، فتشكلت تحت سلطته تيارات سياسية وأحزاب إلى يومنا هذا. امتلاك الإيمان هو أن نملك الإجابات الجاهزة على أسئلة الوجود، ونتجنب العبث بال"يقين"، وعندما نفقد استقلاليتنا في التفكير، يصبح اليقين يسيراً، أما الإيمان فحال أخرى، هي التوجه الداخلي والموقف، وإن تقاطع ذلك مع مجموع بشري آخر فشكل حزباً أو ديناً أو جماعة. في أزمة الوجود السلعي هذا، قد لا نحب الطرق الوعرة، ونفضل الامتلاك عن الفعل الإيجابي المثمر، المقلق، المثير للاضطراب، والحركة، فعل الكينونة. ولكننا في نهاية المطاف وبعد أن تتحول عناصرنا الحيوية إلى أشياء نهلع لتملكها، بعد أن تتحول الآراء والتعلم والتذكر والقراءة والحب والإيمان والسلطة إلى سلع، سنكون في طريقنا إلى التحلل النهائي و الأخير. سنكون في طريقنا للبحث عن اللذة، ونفقد الفرحة.