فى المقال السابق انتهينا إلى أن انهيار دولة الخلافة المزعومة فى الموصل والرقة لا تعنى انهيار تنظيم “داعش”، فهناك فارق بين تجرية دولة الخلافة التعيسة ووجود التنظيم فى حد ذاته. ورغم أن خسارة الدولة تعنى فشلا ذريعا فى البناء الفكرى والسلوكى للتنظيم، فإن هيكله العام ما زال موجودا، والغالب أن قيادته المركزية سوف تستمر سريا وستكون مُحاطة بدرجة أكبر من الغموض، وقد يشهد الأمر تغيير بعض الشخصيات وبعض المواقع القيادية، لا سيما قيادة التنظيم نفسه فى حال ثبوت موت الخليفة المزعوم أبو بكر البغدادى، كما أن مراجعة “فكرة دولة الخلافة” نفسها والتريث فى بنائها سوف تؤدى بالتنظيم إلى أن يكون نسخة أخرى من “القاعدة” الأم. وفى هذه الحالة يبدو هناك احتمالان؛ الأول أن يعلن التنظيم بعد ثبوت المراجعة اندماجه الكامل فى تنظيم “القاعدة” بعد الدخول فى حوارات ومفاوضات لإعادة بناء قيادة القاعدة لكى تستوعب كما كبيرا من قيادات “داعش” وكما كبيرا آخر من الأنصار. انقسامات وصراعات محتملة
والاحتمال الثانى فهو أن يحدث انقسام داخل تنظيم “داعش”، حيث قد يفضل البعض من القيادات والأنصار البقاء فى التنظيم كبناء سياسى وفكرى مستقبل مع اتخاذ بعض التغييرات الهيكلية فى القيادة وأساليب الانتشار وسبل التواصل مع الفروع التى ستظل تدين بالولاء للتنظيم وقيادته الجديدة. فى حين يفضل قسم آخر الانضمام إلى “القاعدة” بعد أن ثبتت صحة تقديرها فيما يتعلق بالتريث فى بناء الدولة. ومعروف أن كثيرا من أنصار “القاعدة” وبعد إعلان دولة الخلافة فضلوا مبايعة الخليفة المزعوم، وحدث ذلك فى أكثر من جماعة فرعية فى اليمن وليبيا وتونس وأقصى شمال سيناء ومالى والصومال ونيجيريا. والمحتمل أن يكون هناك قسم ثالث وهم من الأعضاء والأنصار يبحث عن طريق جديد غير “القاعدة” أو “داعش” نفسه.
هذا القسم الثالث تحديدا يمثل إشكالية كبرى لكل المتابعين لداعش، خصوصا أن أعداد هؤلاء غير معروفة بدقة، كما أن جنسيات هؤلاء عديدة وتشمل ما يقرب من 80 دولة، وتتنوع تقديرات أجهزة الاستخبارات الكبرى اختلافا كبيرا، ما بين 50 ألفا فى نطاق العراقوسوريا إلى 100 ألف عضو مسلح، إضافة إلى مجموعات تتراوح بين ألف إلى خمسة آلاف تشكل فروعا فى عدد كبير من الدول. والسؤال الصادم والخطير أين سيذهب هؤلاء، وماذا سيفعلون؟
اندماج التنظيمين .. من سيقود؟
من المهم هنا الإشارة إلى أنه فى حالة اندماج “داعش” فى “القاعدة” وأيا كان الاسم الذى يتشكل به هذا التنظيم الجديد، فإنه سيكون تنظيما خطيرا بكل المعانى، ففيه الانتشار وفيه التجربة الغنية فى القتال وفى السيطرة على المجموعات المسلحة والمجتمعات المدنية معا، وفى استخدام الأسلحة، وفى وضع الخطط، وفى القدرة على الانتشار وتوظيف وسائل الاتصال الحديثة. وفى الأخبار الجارية هناك عملية تلميع لحمزة بن لادن، وهو الابن المفضل لوالده أسامة بن لادن، وتصويره باعتباره القائد المنتظر للقاعدة الذى على يديه سيحدث تحول كبير فى قدرات التنظيم، وليس سرا أن اسم بن لادن ما زال يمثل قيمة رمزية كبيرة لكل الذين ارتبطوا بالقاعدة وأفكارها فى السنوات الماضية، خصوصا مبدأ الجهاد المستمر والولاء والبراء وفقا لشروحات فقهاء التنظيم. وغالبا فإن مثل هذا الترويج لحمزة بن لادن يستهدف إقناع العدد الأكبر من أعضاء “داعش” بالانضواء والولاء للقاعدة فى ظل قيادتها الجديدة.
أما فى حال بقاء التنظيميْن الإرهابييْن مستقليْن كل على حدة، فمن المرجح أن تزداد المنافسة بينهما، وقد يحدث اقتتال بين أنصارهما كما حدث بالفعل فى غوطة دمشق وأجزاء مختلفة من سوريا، وفى الحد الأدنى فقد يتوصل التنظيمان إلى نوع من التعاون وتقاسم الوظائف كل حسب المنطقة أو البقعة التى يرتفع فيها نفوذه مقارنة بنفوذ التنظيم الآخر. ونظريا فإن أفضل احتمال هو أن يبقى كل تنظيم على حدة، وأن ينخرطا فى منافسة شرسة فكرية وقتالية، يقضى فيها كل تنظيم على بعض أو كل موارد التنظيم الآخر بشريا ومعنويا، وبما يسهل مهمة القضاء على التنظيميْن معا على المدى القصير.
والملاحظة الجديرة بالانتباه هى؛ أن الخلاف بين التنظيميْن ليس على مبدأ إقامة دولة الخلافة، فهذا هدف نهائى لكل أنصار السلفية الجهادية وأيا كان اسم التنظيم الإرهابى المسلح، وإنما الخلاف هو على التوقيت المناسب فى إقامة هذه الدولة والشروط التى يجب أن تتوافر لها اولا. إنه فارق فى السرعة لا أكثر. فى هذا السياق افترض تقرير نشرته النيويورك تايمز فى يوليو الماضى أن دولة الخلافة يمكن أن تنشأ فى إحدى الدول الموجودة بالفعل لا سيما فى المنطقة الممتدة ما بين إندونيسيا إلى الفلبين إذا ما سيطر “داعش” على هذه الدولة، ولكنه احتمال يبدو ضعيفا للغاية، خصوصا فى ضوء التفاهمات العالمية الراهنة بمكافحة “داعش” فى كل مستوياته الفكرية والتنظيمية.
إن سعى “داعش” إلى التمدد على الأرض والتحول إلى تنظيم عالمى متعدد الجنسيات تسنده بالفعل خبرة فعلية، ففى أثناء إعلانه الدولة الخلافة كانت لديه ثمانية أفرع وإعلانات بإقامة 37 ولاية، ، تنتشر فى منطقة واسعة تشمل شمال إفريقيا حتى أفغانستانوالفلبين وإندونيسيا والقوقاز. بعضها كان مجرد يافطة وبعضها مارس السلطة فى نطاقات جغرافية محدودة ثم اختفت تماما، لكن الخبرة ودروسها تظل قائمة.
أين يذهب أنصار “داعش”؟
وبالعودة إلى أعضاء “داعش” الذين يفضلون تغيير الوجهة بعيدا عن الانخراط فى هيكل تنظيمى محكم، فتتراوح التقديرات وتتعدد الاحتمالات، وما يمكن رصده فى هذا السياق ما يلى: • شق كبير من أعضاء “داعش” الذين عاشوا فى العراقوسوريا قد يهيمون فى مجموعات صغيرة فى المناطق الصحراوية الممتدة على جانبى الحدود العراقية السورية، كما تم رصد نجاح أعداد من عناصر التنظيم بالهروب من الموصل نحو الحدود السورية أو صحراء الجزيرة الواقعة بين محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى، وغالبا سوف يلجأون إلى الهدوء النسبى إلى أن تتضح مسارات الأحداث فى العراق، لا سيما فى المناطق السنية، وقد يشكلون مجموعات للتمرد السُنى مستغلين فى ذلك الأخطاء الجسيمة التى تمارسها ومارستها بالفعل مجموعات الحشد الشعبى العراقية ضد العراقيين السُنة. وقد رصد أحد التحليلات الدورية المقدمة للكونجرس الأمريكى أن كل الجهد العسكرى الأمريكى الذى قُدم للجيش العراقى كان مركزا على عملية تحرير الموصل بالمعنى التقنى، وهذا لم يعد كافيا، وإذا لم تتبع ذلك معالجة السياسات التى أدت إلى تمرد سنى عراقى فى السابق، فإن عودة داعش مرة أخرى إلى مناطق الُسنة، والتعاون مع التنظيمات العراقية الرافضة للحكومة الشيعية مثل حركتى جيش رجال الطريقة النقشبندية، وكتائب ثورة العشرين ستكون مجرد مسألة وقت. وكلتاهما تنظيمات بعثية عراقية ظهرتا فى العامين الأخيرين، وبدأتا عملهما بمهاجمة مسلحى داعش، ثم التركيز لاحقا على مهاجمة قوات الأمن العراقية.
بعبارة أخرى إن عدم معالجة أسباب التمرد السنى الذى قدم بشكل أو بآخر بيئة حاضنة لداعش فى بعض المناطق، وهى أسباب تتعلق بالنزعة الطائفية الاستعلائية التى يمارسها حزب الدعوة الحاكم ضد السُنة العراقيين، سوف يساعد أنصار داعش على الظهور مرة أخرى باعتبارهم الخلاص المُتاح. ووفقا لتقرير أصدره مركز مكافحة الإرهاب الملحق بالأكاديمية الحربية الأمريكية فى يونيه الماضى، فإن مسلحى «داعش» ما زالوا نشطين فى عدد من المدن العراقية المحررة، ويشن الهجمات بين الحين والآخر، وله بنية قيادية سرية ولكنها قادرة على التواصل مع الأعضاء وتكليفهم بالمهام. وفى كل الأحوال يستفيد هؤلاء من أخطاء قوات الحشد الشعبى وانتهاكاتها الإنسانية المروعة بحق السكان السنة فى هذه المناطق.
• شق آخر سوف يفضل الانتقال إلى مجموعات فرعية للتنظيم موجودة فى بيئات آمنة نسبيا تغيب فيها سلطات الدولة مثل غرب ليبيا وجنوبها، ومحافظاتجنوب اليمن والصومال ومالى، حيث يقدم هؤلاء الخبرات فى مجال القتال والدعاية وجذب الأنصار لتلك المجموعات المحلية الصغيرة.
3 - شق ثالث، وهم الذين جاءوا أصلا من مجتمعات أوروبية، قد يفضلون العودة إلى تلك البلدان، على أن يشكلوا إما خلايا نائمة أو ذئابا منفردة، وغالبا سينفذون بعض العمليات الإرهابية فى تلك البلدان تعبيرا عن الانتقام من جانب، وتجسيدا لاستمرار التنظيم فى عمق وقلب الدول الأوروبية من جانب آخر.
• تشير تقديرات أمنية إلى احتمال تمدد بعض عناصر “داعش” فى المثلث السورى السعودى الأردني، ويستند هذا التقدير إلى وجود خلايا سرية جاهزة لم تُرهق قوتها الذاتية نظرا لعدم مشاركتها فى العمليات المسلحة فى الداخل السورى. مع الأخذ فى الاعتبار أن التركيز على هذا المثلث لا يعنى أنه تصرف أو تخطيط داعشى بحت، فقد تدفع إليه أجهزة استخبارات دولية وإقليمية لا تريد لهذه الدول الاستقرار، وتسعى إلى وضعها تحت الضغط دائما.
العمل السرى والخلافة الافتراضية
وأيا كانت وجهة مقاتلى “داعش” المهزومين فى سورياوالعراق، فإن التنظيم واستمرار عمله السرى وعملياته الإرهابية كبيرة أم صغيرة، فسيدعم وجوده فى المجال الافتراضى مستغلا انتشاره فى وسائل التواصل الاجتماعى وآلته الدعائية النشطة، فهو إن خسر دولة الخلافة فى الواقع، فسوف يستمر فى الترويج لها فى شبكة الإنترنت، مُشكلا بذلك وجودا افتراضيا أو دولة خلافة مُتخيلة على الأقل فى عقول وأذهان المقاتلين والأنصار الذين ارتبطوا به، أو هؤلاء محدودى الثقافة والفكر، والذين يُغرر بهم بأن تلك الدولة المنتظرة تحت قيادة داعش هى الحلم الأبدى والعدالة المطلقة. وسوف يستمر التنظيم فى استغلال الفضاء الإلكترونى فى جذب واستقطاب أنصار جدد يتصرفون ويقومون بعمليات إرهابية وفقا لظروفهم المحلية. نعم لقد هُزمت دولة الخلافة المزعومة، ولكن التنظيم وفكره ما زالا نشطين، سواء فى الفضاء الإلكترونى أم فى المناطق التى تغيب فيها سلطة دولة قوية، ففى الدول القوية لا مكان لبقاء التنظيم، أما فى الدول الضعيفة فالأمر ممكن ومحتمل بقوة. وهنا تبدأ مرحلة جديدة من المواجهة الشرسة فكريا وأمنيا.