فى العاشر من يوليو الماضى، أعلن حيدر العبادى، رئيس وزراء العراق تحرير الموصل وهزيمة «داعش» وسقوط دولة الخلافة المزعومة التى أعلنها الخليفة المختفى أبو بكر البغدادى قبل ثلاث سنوات فى أحد المساجد التاريخية فى الموصل. وفى سوريا تقترب الآن عدة قوات تابعة للجيش السورى وحلفائه ومن ورائهم الدعم الجوى الروسى، وقوات أخرى لقوات سوريا الديمقراطية ذات الأغلبية الكردية والمدعومة أمريكيا، تقترب من زوايا وجهات مختلفة نحو الرقة، التى تعد بمثابة العاصمة الصيفية لدولة الخلافة المزعومة، والأمر قد يتطلب عدة أسابيع حتى يتم تحرير الرقة من مسلحى «داعش»، وعندها ستكون صفحة تلك «الدولة» قد طويت كاملة بالمعنى المادى والمعنوى. انهيار تجربة «دولة الخلافة» التى لم يعترف بها أحد وشارك الكثيرون فى إسقاطها يمثل علامة فارقة فى التاريخ المعاصر سواء للعراق أم سوريا، ولكل المنطقة وللنظام الدولى الذى حافظ على نفسه، وعلى المحور الرئيسى فيه وهو الدولة الوطنية المندمجة فى الأممالمتحدة ومنظماتها المختلفة. هذا الانهيار وإن شكل ضربة كبرى لتنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام، إلا أن التنظيم نفسه ما زال موجودا، والمؤمنون بأفكاره الرئيسية ما زالوا منتشرين فى أكثر من بقعة فى العالم، وهنا يبحث الجميع عن إجابة مقنعة للسؤال المركزى والُمقلق فى ماذا سيفعل هذا التنظيم وكيف سيتصرف المنتمون إليه وإلى أين سيذهبون؟
الأعمدة الأربعة للتنظيم السياسى
من المهم القول إن أى تنظيم سياسى أو دينى أو يمزج بين الأمرين يقوم على أربعة أعمدة رئيسية؛ أولها قيادة كاريزمية يخضع لها الجميع غالبا ما تؤسس هذا التنظيم وتقوده لفترة، وفكرة محورية تتضمن تبشيرا بمجتمع مثالى بعد حين، وإستراتيجية للعمل تستهدف تسويق الفكرة والترويج لها، وأنصار يقتنعون بالفكرة ويقبلون التضحية من أجلها وينتظرون العائد أو المكافأة ولو بعد فترة من الزمن. ومع مزج عنصر الدين فى مثل هذه الفكرة المحورية، يصبح من اليسير جذب الكثير من الأنصار نتيجة ترويج الاعتقاد أنهم يضحون من أجل رفعة كلمة الله سبحانه وتعالى، ويتوقعون أفضل الجزاء وهو الفردوس الأعلى بعد الممات أو الانتصار والسيادة فى الحياة الدنيا. ليس المهم هنا صحة الفكرة التى يتم الترويج لها من الناحية الدينية الحقة، بل المهم هو إقناع الأنصار بأنهم على الطريق الصحيح، وأن تضحياتهم ليست هباء منثورا. ويُعد هذا الجانب الأخطر فى نشأة أى تنظيم دينى- سياسى وفى استمراره، كما هو الجانب الأهم فى المواجهة لمثل هذه التنظيمات القادرة على ممارسة الخداع باسم الدين.
تنظيم «داعش» ومن قبله القاعدة وتوابعهما من التنظيمات الأقل عددا وأقل شهرة، يشتركون جميعا فى هذه العناصر الأربعة. ما يزيد «داعش» على غيره من التنظيمات أن لديه خبرة بناء دولة ومؤسسات وسك عملة، وتنظيم الموارد واستغلالها وإدارتها فى مناطق جغرافية ذات موارد طبيعية ومتنوعة، ويسكنها عدد من البشر، بعضهم تفاعل إيجابيا مع الدولة الجديدة ومؤسساتها وانضم إليها عن قناعة أو إجبار وكراهية، والغالبية قنعت بقبول الأمر الواقع وافتقرت إلى قدرات الرفض والمقاومة، والبعض القليل انخرط فى أشكال من الهروب أو المقاومة السرية. هذه الخبرة تختلف عن خبرة تنظيم القاعدة حين كان فى كنف دولة طالبان فى أفغانستان، التى تشكلت منذ العام 1994 وانتهت عمليا فى ديسمبر 2001. وفى تلك الفترة كان تنظيم القاعدة يتمتع بحرية الحركة فى أفغانستان وأجزاء من شمال باكستان ومناطق حدودية متداخلة، وينال حماية دولة طالبان، ولم يكن مسئولا عن شئون الدولة والسكان والمؤسسات ومتطلبات الدفاع والأمن وغير ذلك من الأمور. فتلك كانت مسئولية طالبان، ما أتاح مجالا واسعا لنفوذ القاعدة التى أعلن مؤسسها وقائدها أسامة بن لادن آنذاك الولاء لزعيم طالبان الملا محمد عمر باعتباره خليفة للمسلمين. وفى المقابل وفر الملا محمد عمر، الحماية السياسية والمعنوية للقاعدة على الرغم من الضغوط العاتية التى مارستها إدارة الرئيس الأمريكى بوش الأبن بعد أن حدث الهجوم على نيويورك وواشنطن فى سبتمبر 2001.
رؤى مختلفة لدولة الخلافة
هاتان التجربتان؛ للقاعدة ولداعش، وإن بديتا لعين غير خبيرة أنهما متقاربتان، إلا أنهما مختلفتان جذريا، ولكل منهما أصل فكرى، فبالنسبة للقاعدة فترى أن التصدى لشئون الحكم يتطلب شرطا جوهريا، وهو أن يكون المجتمع مؤمنا بأفكار التنظيم أو على الأقل غالبيته العظمى تتعاطف مع أطروحاته الرئيسية عن الولاء والبراء والجهاد المستمر والشامل واستهداف غير المسلمين وبناء دولة الخلافة التى تشمل العالم بأسره. ولما كان الوصول إلى هذا المجتمع المتعاطف يتطلب وقتا طويلا، فتصبح مهمة بناء دولة الخلافة مؤجلة إلى زمن مقبل، وبالتالى تصبح الأولوية للقاعدة هى الانتشار الفكرى والسلوكى عبر مجتمعات العالم الإسلامى أولا، والمجتمعات غير المسلمة ثانيا.
الرؤية المركزية لتنظيم «داعش» اختلفت عن تصور القاعدة فيما يخص بناء دولة الخلافة، فداعش متأثرا برؤية أبو بكر البغدادى رأى أن بناء المجتمع المتعاطف أو المقتنع ليس شرطا بالضرورة لبناء الدولة الإسلامية، وأن الأمر يحتاج سلطة قادرة حتى يمكن بناء هذا المجتمع المتعاطف، وأن هذه السلطة عليها أن تضع يدها على جزء من الأرض، التى تعد أرض تمكين وفقا لأطروحاته، ومن ثم تشرع فى بناء المؤسسات، وأن تمارس كل صنوف القهر والإذعان على سكان هذه الأرض، حتى يشكلوا نواة المجتمع الإسلامى، وأن هذه السلطة يمكنها أن تستعين بأى مسلم من أى بقعة أو بلد آخر طالما أنه عبر عن ولائه للتنظيم ولأفكاره، من أجل استكمال مهمة بناء تلك الدولة والدفاع عنها. وبالتالى تصبح مهمة التنظيم المُنشئ لهذه الدولة أن يجذب الأنصار من كل المناطق الأخرى، وأن يضمن الانتشار المادى والمعنوى من خلال بناء علاقات تنظيمية مع الجماعات والتنظيمات التى تتشكل فى مناطق مختلفة من العالم وتدين بالولاء لمركز الدولة الخلافة الإسلامية ولخليفة المسلمين، وبذلك تصبح الدولة فى حال انتشار أفقى ورأسى فى آن واحد.
بيد أن البغدادى لم يضع فى مخيلته أن مثل هذه الدولة ستكون بمثابة كائن نشاز فى المنظومة الدولية والقانونية التى تحكم النظام الدولى، وأن دولته المزعومة لن يُترك لها فرصة البقاء تحت أى ظرف كان، حتى ولو استمرت بضع سنوات، فضلا عن أن المسلحين القادمين من مجتمعات مختلفة وإن جمعتهم فكرة قتال نظام الرئيس بشار، نظرا لوحشيته تجاه شعبه، فقد وجدوا أنفسهم لاحقا فى قتال مع الغرب والعالم كله، وكانوا فى واقع الأمر غير مندمجين فى البيئة المحلية، وكانوا يُكلفون بمهام قذرة وقاسية شكلت حاجزا إضافيا مع السكان المحليين، ولذا كانت مهمة البغدادى مستحيلة، إذ جمعت بين انتشار التنظيم، وبناء دولة مكروهة من الجميع، ومهمة الدفاع عن تلك الدولة. وهى مهام ثبت أنها أكبر من طاقة التنظيم، لا سيما أن الأساليب الوحشية التى مارستها مؤسسات الدولة المزعومة فى طورها البدائى تجاه السكان، أفقدت التنظيم وأفكاره الرئيسية أى احتمال لبناء مجتمع متعاطف ولو فى الحدود الدنيا، ومن ثم أصبحت الدولة المزعومة مُحاطة بالرافضين من كل الاتجاهات.
مع انهيار دولة «داعش» ثبت أن تصورات أبو بكر البغدادى تصورات مريضة غير قابلة للتطبيق، وأن الأساليب الوحشية وخلق حالة فوضى تنهك أبناء المجتمع وتقتل فيهم رغبة المقاومة أو الرفض، وصولا إلى السيطرة الكاملة على تحركاتهم وسلوكياتهم الدينية والإنسانية العادية، هى فكرة تتصادم مع النزعة الإنسانية الطبيعية، وأن تقبل المجتمع لحالة استبدادية مقرونة بالقوة المفرطة والعنف، هى حالة مؤقتة لا تلغى احتمال التمرد والمقاومة فى مرحلة تالية. ووفقا لبعض تقارير خاصة، فإن كبار قادة التنظيم بدأوا يعيدون على أنفسهم طرح السؤال على النحو التالى: هل أخطأنا فى التسرع بإعلان دولة الخلافة، أم أن الخطأ يكمن فقط فى اختيار أرض التمكين التى تُبنى عليها دولة الخلافة؟ وتشير المعلومات القليلة المُسربة من حوارات قادة التنظيم على وقع الهزائم العسكرية فى الموصل والرقة وغيرهما أن الانتقادات قد وجهت بقوة لفكرة بناء الدولة قبل توافر الشروط المناسبة، ولأنها أدت بالتنظيم إلى الانهماك فى شئونها، وبالتالى التخلى عن الأعمال الإرهابية الكبرى ضد العراقيين فى بغداد والمدن الأخرى، وأن الاتجاه الجديد بات يقر بالعودة إلى العمل السرى، والقيام بهجمات ضد السلطات العراقية فى كل مكان ممكن، وتكثيف العمليات العسكرية. وفى الإجمال يقترب قادة «داعش» من رؤية تنظيم «القاعدة» الداعى إلى التريث فى موضوع إعلان دولة الخلافة والتعامل معه بصبر وأناة من خلال نشر أفكار التنظيم ورؤاه الشرعية أولا، ثم تشكيل المجتمع المتعاطف دون اللجوء إلى أساليب القهر والإذعان كالتى لجأ إليها البغدادى، بل من خلال بناء القدوة وجذب الأنصار ثانيا، ثم دولة الخلافة ثالثا والتى ستأتى كنتيجة حتمية لاحقا حسب قناعات التنظيم.
وفقا لهذه الرؤية القاعدية أصلا، والمستوحاة من فكر حسن البنا فى رسائله العشر، التى قد يتبناها تنظيم «داعش» وإن بطريقة مختلفة، تصبح مهمة مواجهة أفكار التنظيم ومحاولات الانتشار الأفقى فى المجتمعات العربية والإسلامية هى المهمة الرئيسية فى احتواء هذا الخطر، وهى مواجهة دينية - فكرية بالأساس، تتطلب تحصين المجتمع من تلك الأفكار حال التعرض لها بأى شكل كان لاسيما إلكترونيا وعبر شبكة الإنترنت، وهو ما ثبت أنه مجال براعة دعائية للتنظيم وأنصاره. وتُعد مهمة المراصد التابعة للمؤسسات الدينية فى الدول العربية والإسلامية، وفى مقدمتها الأزهر ودار الإفتاء المصرية، التى تتبع كل كبيرة وصغيرة لما تطرحه «القاعدة» و»داعش» من استنتاجات يعدونها شرعية أو فتاوى، مسألة فى غاية الأهمية، وأن يتبع الرصد طرحا فكريا دينيا مضادا ومستندا إلى صحيح الدين. فالمهم ألا تبقى المجتمعات الإسلامية مُعرضة لحملات فكرية ودينية مغلوطة ولا تجد من يفندها ويشرح أسس فسادها الشرعى ويقدم الرؤية الوسطية الصحيحة. فمعركة الأفكار هى الأساس لاستكمال هزيمة القاعدة وداعش وكل من يفكر أو يعتقد فى أفكارهم التعيسة وشروحاتهم الفاسدة.