الجانب الثقافى بين القاهرة وبكين يخضع غالبا لجهود فردية العلاقات السياسية قديمة فلماذا تأخر التبادل الثقافى؟
كانت مصر من أوائل الدول التى اعترفت بالصين الشعبية، وفى عام 1956 بدأت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ومنذ ذلك التاريخ حرص البلدان على التعاون وتبادل المصالح فى شتى المجالات، خصوصا الاقتصادية، بهدف دعم بعضهما البعض فى النهوض القومى، ومما أسهم فى نجاح العلاقة بين البلدين هو اتفاقهما فى السياسة الخارجية، وكبر حجم التعاون الاقتصادى، وفى الستين عاما الماضية اتخذت الحكومتان العديد من الإجراءات لدعم العلاقات الثنائية، وفى عام 1999، تم توقيع اتفاق التعاون الإستراتيجى، وتم فى عام 2006، تم ترسيخ هذه الاتفاقات، وشهد عام 2012 التوقيع على سبع اتفاقيات تعاون، لكن عام 2014 كانت الانطلاقة جديدة فى العلاقات المصرية - الصينية، حيث ارتفعت العلاقات إلى مستوى الشراكة، و شهدت العلاقات حراكا غير مسبوق فى عام 2016، مع زيارة الرئيس الصينى إلى مصر، كل ذلك منصب على العلاقات السياسية فى شقها الاقتصادى، فأين الجانب الثقافى فى الموضوع؟
بنظرة سريعة نجد أن الجانب الثقافى يخضع لجهود فردية مثل «بيت الحكمة» الذى أسسه المصرى أحمد السعيد، وهو فى الوقت ذاته مترجم، ويخضع كذلك لاختيارات مترجمين درسوا اللغة الصينية، ويهمهم تعريف القارئ العربى بالمنتج الثقافى الصينى، وبرغم أن العلاقات الثقافية العربية - الصينية قديمة، وترجع إلى أكثر من ألفى عام، فإن الواقع الحالى لا يدل على هذا الامتداد التاريخى، فما تمت ترجمته فى أكبر هيئة حكومية مصرية للترجمة، وهى المركز القومى للترجمة لا يتجاوز تسعة كتب منذ عام 2008، فى حين أن ما تمت ترجمته، بجهود فردية، بالتعاون مع «بيت الحكمة» تجاوز الخمسمائة عنوان فى ثلاث سنوات، بدأت فى عام 2014، وكانت ذروتها فى معرض الكتاب عام 2016، بالحضور الطاغى للجانب الثقافى الصينى، حيث تمت استضافة الكاتب الشهير «ليوجين يون»، وأقيمت 12 ندوة ضمن البرنامج الرئيسى للمعرض، وخمس حفلات توقيع لكتاب صينيين مع مترجميهم المصريين، وصدر وقت المعرض فقط 14 كتاباً جديداً، وغير ذلك العشرات من الأنشطة، فضلاً عن آلاف الكتب من دعم الصين.
وبالنظر إلى تاريخ الترجمة بين اللغتين، نجد أن الماضى دائما أكثر إشراقا من الحاضر، فى الماضى مثلاً تمت ترجمة الكتب الكبرى من العربية إلى الصينية. وترجمت الأعمال الدينية لأول مرة عندما بدأ المسلمون الصينيون، مثل وانغ دايو، وليو تشى، وهو ينغزو، فى تفسير الإسلام باستخدام اللغة الصينية فى عهد مينغ وتشينغ، بحيث كانت هناك صلة بين الترجمات الأولى للأعمال الأدبية العربية بالدين، لأن معظم المترجمين فى هذه الفترة كانوا من المسلمين، بعد ذلك جاء مسلمون آخرون يحملون آفاقاً ثقافية عربية إسلامية على نطاق أوسع، فبدأ «ناشيون» ترجمة ليالى ألف ليلة فى ثلاثينيات القرن المنصرم، فى حين ترجم «ما زونجرونج» «موت عنترة» 1936، وكان هناك أيضاً بعض المترجمين غير المسلمين الذين أسهموا فى ترجمة الأعمال العربية من اللغة الإنجليزية إلى اللغة الصينية، مثل شى رو، الذى ترجم ليالى ألف ليلة 1930، وبينغ شين، الذى ترجم كتاب «النبى» من تأليف جبران خليل جبران 1931، وعلى الرغم من قلة عدد الترجمات العربية خلال هذه الفترة، فإنها فتحت الباب أمام القراء الصينيين لفهم واقع اجتماعى وثقافى مختلف.
لكن بسبب الثورة الثقافية فى الصين التى أدت إلى ركود مختلف الأنشطة الثقافية فى البلاد، توقفت حركة الترجمة لفترة طويلة، واستمر هذا التوقف حتى حركة الإصلاح والانفتاح. مع نهاية الثورة الثقافية، بدأت العديد من المجالات الثقافية بما فى ذلك الترجمة فى الانتعاش مرة أخرى، ودخلت الترجمات الأدبية العربية عصرها الذهبى، مع عدد متزايد من الأعمال المترجمة مباشرة من اللغة العربية إلى اللغة الصينية، وفى ظل أن الترجمة فى هذه الفترة لم تعد تحت تأثير النزعات السياسية القوية، أصبحت أشكال ومحتويات الأعمال العربية ثرية ومتنوعة. تُرجمت جميع أعمال نجيب محفوظ إلى اللغة الصينية،وترجمت أيضا أعمال جبران خليل جبران وطبعت أكثر من مرة، سواء بالإنجليزية أم العربية.
السؤال الآن: هل تلقى الثقافة الصينية التى بدأنا نتعرف عليها الآن مصير ما جرى مع الثقافة الروسية فى الستينيات زخم وترجمات، ثم صمت تام؟ كيف نتجنب هذا المصير وتستمر علاقتنا بالثقافة والأدب الصينيين، وهل هذه الطفرة حاجة ثقافية حقيقية أم موضة كيف حلت الصين مشكلاتها؟ وكيف نستفيد من ذلك؟ الإجابة فى هذه السطور:
هموم مشتركة وعلاقات ثقافية غائبة
المترجم والمفكر شوقى جلال، ينظر إلى المسألة، بشكل أوسع ، فى نطاق تحديد احتياجات الدولة المصرية ثقافيا وللأسف الدولة المصرية لا تعرف ماذا تريد من العالم، يبدأ شوقى حديثه معنا بالقول: فى تقديرى أن الثقافة الروسية، التى ورد ذكرها فى سؤالك، وجدت دعما وتشجيعا لأكثر من سبب منها أولا، الزخم الثقافى الذى كان سائدا فى مصر قبل الخمسينيات، وهذا الانفتاح الثقافى كان امتدادا لا يزال باقياً، وأبناؤه لا يزالون على قيد الحياة بكل طموحهم من أجل بناء مصر الوطنية الحديثة، وقد عزز هذا موقف السلطة المصرية التى خلقت أملا لدى المصريين من أجل أن تكون مصر بالفعل قوة عربية وعالمية، وذلك قبل هزيمة 1967، لكن الأمر تغير بعد الهزيمة.
الآن، يضيف شوقى جلال، نجد بعض النشاط من جانب بعض المثقفين لعرض كتب روسية، لأحداث روسية ذات علاقة بمصر، وهذا جهد أفراد، عاشوا فى الاتحاد السوفيتى ولهم خبرتهم باللغة الروسية، وليس خطة قومية وضعتها الدولة من أجل تحصيل معارف عالمية متنوعة.
يؤكد شوقى جلال: أننا نجد هذا أيضاً فيما يتعلق بالصين، فالأمر يجرى الآن فى ظروف مختلفة، حيث لا نجد المثقفين المصريين يعيشون بنفس مشاعر الانفتاح والطموح الذى كان فى مطلع الخمسينيات والستينيات، وأعتقد أن الطموح فى المعرفة، والفضول المعرفى غير متوافرين الآن، فأصبحت هناك مسائل أخرى، تشد الاهتمام، وهذا عيب لا يؤثر فقط على الثقافة، بل على أمور كثيرة فى نشاطنا، بحيث يجعل جهودنا مبتسرة، أو تكتفى بالمحاكاة.
هناك علاقات بيننا وبين الصين ثقافية وسياسية، وهى علاقات قديمة، وبيننا أيضاً أمور مشترك، ومصالح مشتركة، وهموم مشتركة، لكن الصين تجاوزتنا فى حل مشكلاتها، القضية هنا: هل توجد لدى القيادة الثقافية المصرية خطة حقيقية لتحصيل معارف وخبرات الصين فى حل مشكلاتها؟ بالعكس لا نجد هذا الطموح بالنسبة للصين، ولا غيرها، والحل هو أن تضع الدولة بحكم توافر نشاط سياسى حر منفتح، رؤية جديدة لمصر، من أجل التقدم فى عصر شبكى، ارتبطت فيه العقول على مستوى العالم فى التفكير من أجل قضايا محلية وعالمية، خصوصا حين تكون هناك مظاهر للتماثل كما بين مصر والصين.
مثلاً: قضية تثقيف المجتمع، نعم نجد بعض الاتفاقات لعرض نماذج من الإعلام وغيره، ليس بناء على خطة الهدف منها تطوير العقل، لكن استجابة دبلوماسية لتوثيق العلاقات، هناك جهود فردية أيضاً، تعمل على تعزيز العلاقات مع الصين، وبعض الأصدقاء ممن درسوا الصينية وعملوا ويعملون على تدريس اللغة الصينية، بدعم من الصين و الحكومة الصينية، يعملون بجد من أجل تنشيط وترويج الترجمة عن الصينية، فإلى أى حد يمكن أن تصبح هذه الجهود تعبيرا عن خطة قومية، ولا تقتصر على الجهود الفردية. الأمل، من وجهة نظر شوقى جلال، أن ترى مصر أنها لكى تمضى فى طريق نهضة حقيقية تحتاج إلى أمرين: أولهما: دراسة تحليلية نقدية للواقع المصرى ومشكلاته.
ثانيهما: فى ضوء هذه الدراسة نحدد اختياراتنا من خلال الواقع العالمى الموجود، والتجارب التى يتعين علينا أن نستوعبها نقديا، بحيث نتلاءم مع واقعنا، وتطوير المجتمع هو الهدف من التعامل الثقافى بين المجتمعات وبعضها بعضا، ومن أجل تغذية الحراك الديناميكى للمجتمع لتحقيق هدف التطوير، تطوير الإنسان ضمن حضارة العصر الجديد، عصر الصناعة والمعلوماتية. بوصلة الترجمة
تتجه نحو المركز الغربى
يقول د. محسن فرجانى الكاتب والمترجم فى تقديرى أسباب هذا التراجع، هناك طبعا، وبدهيا، عوامل واضحة جدًا تتمثل فى ندرة أعداد المترجمين عن الصينية، مع غلبة الدوافع الفردية فى مجمل عملية ترجمة النصوص، بدءا من الاختيار وانتهاء بالعرض على دور النشر أو وحدات الترجمة، فى القطاع الحكومى أو الخاص، فالمترجمون هم الذين يختارون نصوصهم، فُرادى، دون سقف أو خطة واضحة بأولوليات محددة، مما يقلل من فرص الاستجابة للمبادرة الفردية، حال عدم اتفاقها مع خطط النشر الجاهزة، أو حال تقاطعها مع سياسات النشر القائمة، مع الأخذ فى الاعتبار بالفارق فى التقدير بين ما يبدو للمترجم الفرد مناسبًا، وبين ما تراه خطط النشر متفقًا مع جملة شروط مركبة، تدخل فيها تقديرات بعيدة تمامًا عما يراه المترجمون. من ذلك مثلًا، أن ترجمة رواية لكاتب صينى معاصر، مثل “جيا بينوا” بكل رصيده الإبداعى ومكانته فى تاريخ الأدب الصينى المعاصر، لن تجد آذانا مصغية لدى الناشر الذى يرى أن ترجمة أعمال “مويان” أجدى من أكثر من زاوية، أهمها شهرته كفائز بنوبل. أو أن تصبح ترجمة كاتب صينى حاصل على نوبل (دون تزكية وطنية لائقة) مثل “كاو شينغ جيان” مجازفة من جانب المترجمين، الذين سيتبنون وجهة النظرالصينية الرسمية، أملًا فى الحصول على دعم مالى لإنجاز الترجمة، أو الترشح للجوائز التى تمنحها الصين.
لكن ثمة علة تبدو حاسمة، فى رأيي، تكمن وراء هذا التراجع ف الترجمة عن الصينية تحديدًا؛ ذلك أن الخط العام أو إستراتيجيات الترجمة فى مصر، ومنذ بداية العصر الحديث مع رفاعة الطهطاوى حتى اللحظة، فى ظني، تتجه بوصلتها نحو المركز الحضارى الغربي، وتكاد تكون قد انحصرت تمامًا فى مداه، بالدرجة التى بات من الصعب معها استحداث “تنوع” أو “تحول” صوب مراكز الحضارة العالمية غير الغربية، التى بسبيلها إلى التحقق، على أصعدة مختلفة. فاتجاه الترجمة العربية الحديثة عموما، قد يرى ميزة فى “تنويع” لغات المصدر بالنسبة للنصوص المترجمة، إعلاءً لقيمة الترجمة المباشرة عن لغة الأصل، دون نصوص وسيطة، فتلك هى النقطة التى تدخل فى حسابه بشكل أساسى عند تقدير عمل مترجم عن الصينية، مثلاً، دون أن يكون الاعتبار الأهم المتمثل فى تحقيق “انفتاح” ثقافى على الآخر هو المعيار الأول. من ثم تنأى وحدات الترجمة، عمومًا، على المستوى القطرى والقومي، عن احتضان جهود الترجمة عن الصينية، وفق التقدير الأمثل، الذى يراعى تنويع مصادر الاطلاع على الثقافات العالمية، خصوصا البازغ منها والمأمول أن يحقق انتشارًا على نطاق عالمي. وللأسف، لم تدخل الترجمة عن الصينية، فيما أحسب، حيز التقدير بوصفها جزءًا حيويًا من جهود عملية لمواجهة التبعية الثقافية للمركزية الغربية. ولعل كلمتى كمترجم عن الصينية فى هذا المجال، تقوم بمثابة شهادة حية من واقع التجربة، ولست أريد أن أدخل فى تفاصيل محبطة لتطلعات الزملاء من المترجمين عن الصينية، لكنى أؤكد للباحث المدقق أن هناك وقائع ملموسة أدت بى فى أحيان كثيرة، إلى التردد فى مواصلة نشاط الترجمة، والسبب وراءها يكمن فيما يصادفنى من تقديرات لا تلقى بالاً للجانب الثقافى من الترجمة عن الصينية، بوصفها جزءا من إستراتيجية ثقافية (أكاد اقول وطنية أيضا) بقدر ما تنظر إلى النص المترجم ضمن سياق لغوى بحت، يرى أفضلية للترجمة المباشرة عن لغة الأصل!
أما الدكتورة رشا كمال فتحدد المسألة فى عدة نقاط أولا: الثقافة تنقل بصمة حامليها أو مبدعيها، والثقافة الصينية برغم الملامح الفلسفية والروحية بها فى قديمها، فإن حديثها مغرق فى المادية والحقيقة أنه مادامت الحكومة الصينية تسعى لنشر ثقافة بلادها وفى سبيل ذلك تنفق الكثير من الأموال، وتقدم الدعم المادى والتعليمى والمنح الكاملة والنصفية لدراسة اللغة الصينية كتخصص أساسى، أو كأداة لتعلم تخصص آخر داخل الصين، فسيظل هذا الزخم وستكثر الترجمات ولن تتوقف، فقد أصبحت حاجة ملحة وإن لم تقدم اليوم بأيد مصرية، لأن المصريين أول من درسوا الصينية من العرب نتيجة لتأثير المد الاشتراكى الروسى من ناحية، ولعلاقات ناصر وماو شى دونغ وسوهارتو من ناحية ثانية، فستقدم قريبا من دول عربية أخرى، وهى فرصة سانحة ومجال بكر يمكن أن يقدم فرص عمل وإسهامات كبرى للدولتين.
ببساطة نمط الحياة المادى هو من سيقف عائقا أو داعما، إذا استمرت الحكومة تقدم دعمها المادى والثقافى سيظل الزخم موجودا، ولن أندهش من درجة تأثير الثقافة الصينية فى العشرين عاما المقبلة فى إفريقيا ككل وليس مصر فقطوهنا هل سنقلق أو نتشكك فى خطط الحكومة الصينية.
إنها حكومة تتمتع برؤية مستقبلية، لذا نشر الرئيس الصينى مبادرته للحزام والطريق منذ نهاية عام 2013، وهى مبادرة تعاون ثقافى اقتصادى تجارى إنسانى على أسس من تبادل المصلحة العادلة للدول الواقعة فى طريق الحرير الصينى القديم، وهى ببساطة آسيا الوسطى ودول الشرق الأوسط وعلى رأسها الدول العربية، وفى مقدمتها مصر وصولا حتى إسبانيا، فوفقا لهذه المبادرة أو الإستراتيجية ينبغى أن نتفاءل ونضمن فرصا لتعميق العلاقات الثقافية والعلاقات على المستويات كافة مع الصين، فالصين دولة سعت للإصلاح والانفتاح لمدة ثلاثين عاما وتطورها فيما بعد لن يكون داخليا وإنما خارجيا ويمكننا أن نكون شركاء تعاون، ونستغل مثل هذه الفرصة لصالح بلادنا وثقافتنا. لذا أتمنى أن يقرأ المسئولون بعضا من الكتب التى نترجمها التى نرهق فى تنميقها، حيث سيتفهمون أين يجب أن يضعوا أقدامهم فى الخطوات القادمة (الطفرة الصينية - الحزام والطريق - الزلزال الصينى)