في مجتمعاتنا الشرقية .. فتش عن «الكاريزمات» فبهم نحيا وعلى سيرهم وملاحمهم نموت.. عادل عيسى ليست مجرد منحوتة من إبداعات وحيد حامد وسمير سيف معاً… ولم يظل بعد 35 عاما من إنتاج فيلم الغول وعرضه مجرد أحد علامات «عادل إمام» السينمائية .. لكنها صرخة نبل يحتاجها المجتمع والوطن كل فترة على مدى تاريخه. الحديث عن الفيلم كفيلم لا مناسبة له الآن ، ولا هو مغزى هذه السطور ، لكن تعاقب الأيام والسنوات في مصر يثبت كل يوم أن «عادل عيسى» حالة وثقافة وفكرة لا يجب أن تموت ، ولابد أن يكون شاهدا على كل عصر ، بقدر ما في بلادنا من ملايين من عينة «فهمى الكاشف» على كل الأصعدة والمستويات. عادل عيسى … احتل عادل إمام ، استولى عليه فمحاه حتى غاب في دهاليزه، أراد الممثل أن يتلبس الشخصية فابتلعته ابتلاعاً، ولا أعتقد أن الراحل أحمد زكى بكل روائعه وإبداعاته المتفردة كان سيقدم دور الصحفى عادل عيسى فى فيلم الغول مثلا لو عرض عليه بداية ، بهذا القدر من التماهى والذوبان والانخراط في التفاصيل. قانون «سكسونيا» قانون سكسونيا ليس جديداً ، ولم يكتشفه وحيد حامد ، بل ألقى الضوء عليه على لسان عادل عيسى في كل مشاهده في الفيلم ، هذا القانون يحكم العالم ويسيطر عليه منذ بدء الخليقة ، فهو الظلم السائد والعدوان الطاغى على البشرية التى تعانى منه عبر العصور والأزمنة.. أما في مصر فنحن تقريباً صناع المادة الخام له، أو أصحاب النواة الأولى له ورعاته الأصليين. «سكسونيا» لا ينتهى ولا يمت … فهو قانون راعى للحيتان والكبار والمفسدين في الأرض وعراب لنزواتهم وشهواتهم ، قانون حماية «النفوذ» وتأمينها ، ورعاية المصالح العليا وفي ذات الوقت هو قانون جلد الفقير الضعيف ، وتأديبه ومعاقبته حتى لا يجرؤ ويكرر محاولة الوقوف فى وجه أسياده. استطاع «عادل عيسى» الصحفي الحر الذى يحلم بالعدالة الغائبة في وطنه ، أن يسلط الضوء مجدداً على قانون قديم ، ولكنه مستمر وأزلى ، يحمى ذوي النفوذ ويعاقب الغلابة .. لكن السؤال : كم «عادل عيسى» نحتاجه اليوم ليحقق التوازن في مواجهة هذا القانون المتغول على الحياة والعدالة ؟! الصحفى الصعلوك !! لم يكن عادل إمام في هذا الفيلم كوميدياً ، ضمن أسلوب خاص في مجموعة أخرى من أفلامه لا مكان فيها للإضحاك مثل «حتى لا يطير الدخان» و«الحريف» و «الإنس والجن» ولم يقل في الفيلم كله أى «إيفيه» يذكر ، كانت الحكمة تجرى على لسانه ، وميزان العدالة على عاتقيه طوال الوقت ، حين نصب نفسه مدافعاً عن الحق المطلق مجسداً في «مزيكاتى» فقير يعول أسرة كبيرة ، لأن الذى تغول عليه وحرمه حق الحياة ،هو «فهمى الكاشف» ونجله المدلل «نشأت» ، الذان يمثلا مؤسسة الفساد العملاقة في بلادنا. ورغم أن الفيلم كان مباراة فنية بين عادل إمام وبين العملاق الراحل «فريد شوقى» ، ولكن شمس «عادل عيسى» وطغيان شخصيته أحرق من حوله والتقمهم كالحوت ، بما فيهم عادل إمام نفسه . ملابس هذا الصحفي الصعلوك الذى ليس لديه ما يخشى عليه كانت لا تتغير طوال الفيلم ، لأنه محموم طوال الوقت بالبحث عن حقيقة جريمة الاغتيال ، ولا تملك حيال التفاصيل الدقيقة التى صنعها «سمير سيف» إلا أن تنظر لها بتمعن ، وتتأمل طريقة تدخين سجائره ، ونفثه لدخانها ، ولفة الجرائد التى توجد باستمرار تحت ذراعه ، وحياته البوهيمية ، ونظرات الحب الخاطفة في ملامحه الرثة ل «مشيرة درويش» فتاته التى أحبها من فكرة تحديها ووقوفها ضد ظلم وتجبر والدها. طغيان شخصيته البوليسية حتى على صديق عمره القديم «حسين أبو ضيف» وكيل النيابة ، لدرجة أنه كان يوجهه أحياناً ويقترح عليه استدعاء فلان لاستجوابه، ويحدد له مسار القضية من الجانب التحقيقى. عبارات لا تنسى على لسان عادل عيسى ، جسد وحيد حامد صراعاً أزلياً بين الجبهتين خلال حواره مع أبطال الفيلم ، فسجل عبارات خالدة يستطيع الحقوقيون ونشطاء العدالة الاجتماعية أن يكتبوا بعضها كشعارات ومبادىء لا تنسى. - البلد دي ماحدش له فضل عليها …هى اللي ليها فضل ع الكل !! - أنا معنديش حاجة أبيعها أو أساوم عليها أساساً يا فهمي بيه - تحمى نشأت الكاشف لما يبقى فيه خطر عليه ..لكن ابنك هو اللي خطر على الناس - انتو عايزين الناس كلها تبقي زي جحا .. كل واحد عايش لنفسه وبس وحضراتكم تعملوا فيها اللي عازين تعملوه - دي جريمة ..مش بضاعة تدفع فيها فلوس علشان تخرج م الجمرك بملاليم - مرسى السويفي ما كانش صاحبي ولا قريبى ..لكن من دلوقت بس بقى أبويا وعمي ..والبنت اللي انت خاطفها أختي سالمتها مسئولة منك - ده يبقى العدل بتاعكو انتو يا مشمش ..انما عدل المحاكم حاجة تانية !! - وكأن مهمة مرسى السويفى في الدنيا إنه يجيب فلوس لمراته وعياله ويموت بعد كده ..عياله الصغيرين اللي اتحرموا من عاطفة الأبوة ..زى ما هو كمان اتحرم منهم ..مين هيربي العيال فى غياب أبوهم !! - شوفى أما أقوللك يا آنسة …العدالة ليها رجلين اتنين ..انها تنصف المظلوم وتعاقب الظالم ..انتو عايزين عدالة برجل واحدة بس !! - نشأت الكاشف لو ما أخدش عقابه ممكن يقتل تاني وتالت ..والتمن معروف 50 ألف جنيه في مزاد فهمي الكاشف …يا بلاش !! - فهمي الكاشف عايز يفرض القانون بتاعه ..قانون سكسونيا !! - قانون مقاطعة سكسونيا كان بيتعبر «الموسيقى» ظل …خيال ..فلو مواطن عادى قتل واحد موسيقى يحاكموا خياله … حكمت المحكمة بقطع رقبة خيال فلان الفلاني لزنه قتل الموسيقى فلان الفلاني …اللي هو أصلا خيال …ويمشوا القاتل .. - فهمي الكاشف عايز يحيي قانون سكسونيا من أول وجديد ..عايز يعمل ناس من دهب وناس من طين …الأغنيا ليهم قيمة والفقرا مالهومش!! - د. يونس هلهل شهادة فادية .. بس أنا لو ما وثقتش في العدالة ، الحياة نفسها ما يبقالهاش معنى !! - فهمي بيه كلمة واحدة لو أمكن … سيادتك ما دفعتش الفلوس ليه لعيلة مرسى السويفي …طب سيادتك شفت صورتك في الجورنال …أصل فيه صورة لسيادتك جديدة هتنزل بكره مش هتلحق تشوفها . - سجايرك دي لطيفة أوى يا حسين ..هى اسمها إيه !! أسطورة عادل عيسى عادل عيسى .. ثائر غير إقصائى ، لأنه لم يحاسب نادل «البار» على شهادته الزور وخاصمه واعتبره خائنا ، إنما غفر له خوفه من بطش وسلطان «الكاشف» ، واختار الستر وأكل العيش ، تماما كملايين الناس في مصر ، فثمة مشهد في منتصف الفيلم وهو يحاور النادل حواراً مرحاً لطيفاً. عادل عيسى .. لا يبحث عن بطولات ، وإنما يبحث عن الحق لأجل إحقاقه ، حين سأل فهمي الكاشف قبل أن يسفك دمه بلحظات عن فلوس عائلة مرسى السويفي ضحية ابنه المقتول غدراً. عادل عيسى .. مناضل «عازب» غير متزوج ولا يعول أطفالاً، إلا ابنته التى يراها في النادى كل فترة ، فلا يعيبه إلا أن شجاعته ممزوجة بحالة من الاستبياع ، فماذا لو كان لديه أسرة يخاف على تشردهم ويخافوا عليه ، وفضل مثل ملايين المصريين أن يأكل عيش ويمشي جنب الحيط؟! عادل عيسى .. اختار الدم ليثور على واقع مؤلم لا تتحقق فيه العدالة ، فقرر أن يقتص للعدل بطريقته ، وفقاً إجابته على سؤال صديقه وكيل النيابة : ليه قتلت الكاشف يا عادل؟! … فرد عليه : قلت أريح الناس يا حسين من قانون سكسونيا … - بس انت كده فرضت قانون الغاب يا صاحبى .. كرسالة على ضرورة أن يأخذ القانون مجراه. في مصر … لا تستوى الحياة بدون ذلك الصراع بين الجبهتين … ففي مواجهة مئات من «فهمي الكاشف» نحتاج لملايين من عينة «عادل عيسى».