قبل 25 يناير دعا البابا شنودة الأقباط ألا ينزلوا المظاهرات لأن الإخوان سيحكمون من خلالها على الرغم من مرور 5 سنوات على رحيل البابا شنودة الثالث إلا أن مواقفة النبيلة تجاه القضايا الوطنية لا تزال حاضرة بيننا، القمص أنجيلوس جرجس راعى كنيسة المغارة الشهيرة بكنيسة أبى سرجة الأثرية، وكان أحد المقربين من البابا شنودة الثالث يروى ل (الأهرام العربي) جانباً من مآثره وفضائله الكثيرة، حيث يصفه بأنه شخصية تجمع بين العمق والبساطة. وإلى نص الحوار:
منذ متى بدأت معرفتكم بالبابا شنودة الثالث؟
اقتربت منه بصورة شديدة ليس فقط بسبب الكهنوت، ولكن نتيجة صلة قرابة نسب بين عائلتى وعائلته. وأصبحت الأمور منذ ذلك الوقت بيننا شخصية. أول مرة جلست معه بصورة شخصية كان منذ نحو 20 عاما واستمر الحوار بيننا 4 ساعات. العلاقة بينه وبين أى شخص هى علاقة حوار.
فهو شخص موسوعي. أتذكر أننى قلت له جملة: " جيلنا محظوظ أنه اتولد فى العصر الذى أنت المعلم فيه" . فما كان منه إلا أن احمر وجهه وقال لى: " العفو يا أبونا كلنا بنتعلم".
ما أهم المواقف التى تتذكرها من سيرة حياته العطرة؟
كانت كلماته لها تأثير عظيم. كان دائما هو صمام الأمان أمام كل محاولات ومخططات الخارج والداخل لسقوط مصر فى مستنقع الفتنة الطائفية. وأتذكر أنه فى مايو 1994، أقام مركز ابن خلدون مؤتمرا لحماية الأقليات.
فرفض البابا هذا المؤتمر ورفض المشاركة فيه. وقال: " نحن مصريون جزء من شعب مصر ولسنا أقلية ولا يليق بأبناء الوطن الواحد أن يكون فيه أقلية وأغلبية". وفى عام 1998، أرسل الكونجرس الأمريكى فرانك وولف الذى نظم مؤتمرا صحفيا اتهم فيه الحكومة المصرية بتجاهل اضطهاد الأقباط.
البابا شنودة قال: " مشاكلنا تحل داخل مصر وليس خارجها، والأقباط يرفضون وصاية أحد ولا نريد أية دولة أن تتدخل فى مشاكلنا". فى الحقيقة، الكنيسة القبطية دائما وطنية. ودورها الوطنى هو الذى حمى مصر من الانزلاق فى فتن طائفية. حتى فى الأحداث الأخيرة لولا وطنية الكنيسة، كانت مصر دخلت فى مستنقع الطائفية.
ما تقييم البابا شنودة للأحداث قبل وبعد 25 يناير؟
قبل 25 يناير 2011، قال البابا شنودة فى اجتماع يوم الأربعاء للأقباط ألا ينزلوا أية مظاهرات، وعندما وقعت الأحداث، سألته عن سبب تمسكه بعدم مشاركة الأقباط؟ قال إن الإخوان سيحكمون من خلال هذه الأحداث. لكننى أكدت عليه أن الإخوان لم ينزلوا. وكان رأيه أنهم سينزلون. وتدور الأيام لتثبت أن كل كلمة قالها كانت مضبوطة %100. الحقيقة، كان لديه عمق فى التفكير كما أنه كان صاحب رؤية.
حدثنا عن بصماته الإنسانية؟
كانت عنده أبوة، يشعر بمسئولية حقيقية لكل من حوله: بداية من الذى يعد له الطعام والسائق إلى مجموعة من الفقراء كانت تأتى إليه يوميا ويعطى لهم المال. وفى مرة، قلت له: "يا سيدنا المجموعة نفسها وكل يوم "، فكان رده :" المهم أننى اطمأننت أنه جالهم غدوة".
أتذكر وقت أحداث العمرانية التى وقعت قبل أحداث يناير، كان هناك شباب محبوس، وحاول البابا التدخل عند الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك ولم يكن هناك أية إمكانيات للاتصال. وفى يوم من الأيام، وجدناه نازلاً من قلايته وطلب أن نعد له الدير ليعتكف فيه. وإننا يجب أن نبلغ الرئيس طالما لم يسمع لصوت الكنيسة بالإفراج عن الشباب قبل العيد فإنه لابد من الاعتكاف. واعتكاف البابا يعنى
أن الدنيا تنقلب رأسا على عقب، خصوصا أنه سيأتى فى الوقت الذى يغسل فيه الكلى 4 مرات أسبوعيا. وطلب من سكرتاريته أن تنقل أجهزة الغسيل إلى الدير. كما أكد أنه لن يتم الإفراج عن الشباب المحبوس إلا بموقف حاسم. وقال:" أنا معتكف من أجل أولادي". وكانت النتيجة أنه تم ترتيب موعد مع مبارك وتم الإفراج عن الشباب قبل العيد. كان بالفعل يحمل أبوة، وكان له موقف واضح.
وماذا عن أيام البابا شنودة الأخيرة؟
فى آخر أيامه، كان كثيرون قد أخطأوا فى حقه لفظا وفعلا. وفى لقاء شخصى معه فى الدير، قلت له أنه من الضرورى أن يرد وأن هناك حقائق يجب أن تعلن. قال لى جملة غريبة ما زلت أتذكرها حتى اليوم: " فى نهاية حياتي، صرت أشعر براحة حينما يظلمنى البعض ولا أرد " .
وعلى المستوى الصحي، عانى البابا من الفشل الكلوى لمدة 5 سنوات، وإلى جانب معاناته من السرطان وآلام الغضروف. وكان يرفع عينيه إلى السماء ويقول لربه:" أنت تعرف أننى لم أعد أحتمل.. كفي". وفعلا استجاب الله لدموعه وودع عالمنا فى17 مارس 2012 .
كيف استقبلت خبر انتقاله من عالمنا؟
فور علمى بالخبر أسرعت للكاتدرائية ولكننى وقفت على بابه ولم أستطع أن أراه وقد فارق الدنيا من شدة حبى له، وقمت بكتابة قصيدة وسجلتها بصوتي أقول فيها: وهناك فى ظل إحدى الشجيرات .. طائر كان يغنى أحلى النغمات.
برغم الموت الذى أكل كل الكائنات ... برغم العواصف العاتية والأمطار.
ولكننى كنت أسمع صوت غنائى على القيثار .. ولكنه كان قادرا على الطير فى ظل القمر... ولكنه كان قادرا أن يبنى بيتا فوق الشجر.. ولكنه كان قادرا أن يصمد رغم الريح والمطر.
فأغنية الطير ظلت علامة للحياة ... وحياته ظلت تتحدى الموت .. وكنا نسبح معه بأعلى صوت.