غرفة عمليات المؤتمر: المرأة الصعيدية لها دور محوري في تغيير موازين الانتخابات بدائرة الفتح    إسكان الشيوخ توجه اتهامات للوزارة بشأن ملف التصالح في مخالفات البناء    نقابة المهندسين تحتفي بالمهندس طارق النبراوي وسط نخبة من الشخصيات العامة    انطلاق أعمال لجنة اختيار قيادات الإدارات التعليمية بالقليوبية    هيئة سلامة الغذاء: 6425 رسالة غذائية مصدرة خلال الأسبوع الماضي    تكثيف حملات النظافة حول الكنائس بالشرقية    وزير الإسكان: مخطط شامل لتطوير وسط القاهرة والمنطقة المحيطة بالأهرامات    نائب محافظ الدقهلية يتفقد مشروعات الخطة الاستثمارية بمركز ومدينة شربين    أمين عام حزب الله: نزع السلاح مشروع إسرائيلي أمريكي    "القاهرة الإخبارية": خلافات عميقة تسبق زيلينسكي إلى واشنطن    وزيرا خارجية تايلاند وكمبوديا يصلان إلى الصين لإجراء محادثات    كأس مصر، الزمالك يحافظ علي تقدمه أمام بلدية المحلة بهدف بعد مرور 75 دقيقة    ميلان يرتقي لصدارة الدوري الإيطالي بثلاثية في شباك فيرونا    ضبط شخص في الجيزة بتهمة بالنصب على راغبي السفر للعمل بالخارج    وزارة الداخلية تضبط سيدة وجهت الناخبين بمحيط لجان قفط    وداع هادئ للمخرج داوود عبد السيد.. علامة بارزة في تاريخ السينما المصرية    رحيل «دقدق» مؤدي المهرجانات الشعبية.. صاحب الأغنية الشهيرة «إخواتي»    تأجيل تصوير مسلسل «قتل اختياري» بعد موسم رمضان 2026    أكرم القصاص للأحزاب الجديدة: البناء يبدأ من القاعدة ووسائل التواصل نافذة التغيير    من مستشفيات ألمانيا إلى الوفاة، تفاصيل رحلة علاج مطرب المهرجانات "دقدق"    رسالة من اللواء عادل عزب مسئول ملف الإخوان الأسبق في الأمن الوطني ل عبد الرحيم علي    صعود مؤشرات البورصة بختام تعاملات جلسة بداية الأسبوع    البورصة المصرية تربح 17.5 مليار جنيه بختام تعاملات الأحد 28 ديسمبر 2025    عاجل- هزة أرضية عنيفة تهز تايوان وتؤدي لانقطاع الكهرباء دون خسائر بشرية    بابا لعمرو دياب تضرب رقما قياسيا وتتخطى ال 200 مليون مشاهدة    قضية تهز الرأي العام في أمريكا.. أسرة مراهق تتهم الذكاء الاصطناعي بالتورط في وفاته    وليد الركراكي: أشرف حكيمي مثل محمد صلاح لا أحد يمكنه الاستغناء عنهما    الزمالك يصل ملعب مباراته أمام بلدية المحلة    وزارة الصحة: غلق مصحة غير مرخصة بالمريوطية وإحالة القائمين عليها للنيابة    من مخزن المصادرات إلى قفص الاتهام.. المؤبد لعامل جمارك بقليوب    صاحب الفضيلة الشيخ / سعد الفقي يكتب عن : شخصية العام!    " نحنُ بالانتظار " ..قصيدة لأميرة الشعر العربى أ.د.أحلام الحسن    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : حينما نزل الغيث ؟!    رئيس جامعة قناة السويس يتفقد اللجان الامتحانية بالمعهد الفني للتمريض    لتخفيف التشنج والإجهاد اليومي، وصفات طبيعية لعلاج آلام الرقبة والكتفين    أبرز مخرجات الابتكار والتطبيقات التكنولوجية خلال عام 2025    انتظام حركة المرور بدمياط رغم سوء الأحوال الجوية    الداخلية تقضي على بؤر إجرامية بالمنوفية وتضبط مخدرات بقيمة 54 مليون جنيه    دار الإفتاء توضح حكم إخراج الزكاة في صورة بطاطين    أزمة السويحلي الليبي تتصاعد.. ثنائي منتخب مصر للطائرة يلجأ للاتحاد الدولي    وصول جثمان المخرج داوود عبدالسيد إلى كنيسة مارمرقس بمصر الجديدة    بدون حبوب| أطعمة طبيعية تمد جسمك بالمغنيسيوم يوميا    «ليمتلس ناتشورالز» تعزز ريادتها في مجال صحة العظام ببروتوكول تعاون مع «الجمعية المصرية لمناظير المفاصل»    ولادة عسيرة للاستحقاقات الدستورية العراقية قبيل عقد أولى جلسات البرلمان الجديد    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم فى سوهاج    هيئة الرعاية الصحية تستعرض إنجازات التأمين الصحي الشامل بمحافظات إقليم القناة    أمم أفريقيا 2025.. تشكيل بوركينا فاسو المتوقع أمام الجزائر    وزير الصناعة يزور مقر سلطة الموانئ والمناطق الحرة في جيبوتي ويشهد توقيع عدد من الاتفاقيات    مد غزة ب7400 طن مساعدات و42 ألف بطانية ضمن قافلة زاد العزة ال103    أحمد سامي: تعرضت لضغوطات كبيرة في الاتحاد بسبب الظروف الصعبة    لافروف: روسيا تعارض استقلال تايوان بأي شكل من الأشكال    الناخبون يتوافدون للتصويت بجولة الإعادة في 19 دائرة ب7 محافظات    أول تعليق من حمو بيكا بعد انتهاء عقوبته في قضية حيازة سلاح أبيض    الزمالك يخشى مفاجآت كأس مصر في اختبار أمام بلدية المحلة    2025.. عام المشروعات الاستثنائية    2026 .. عام الأسئلة الكبرى والأمنيات المشروعة    عبد الفتاح عبد المنعم: الصحافة المصرية متضامنة بشكل كامل مع الشعب الفلسطينى    يوفنتوس يقترب خطوة من قمة الدوري الإيطالي بثنائية ضد بيزا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«البناء» فى مواجهة «الهدم».. 100 شخصية صنعت تاريخ مصر «1-4»
نشر في الأهرام العربي يوم 04 - 06 - 2017

تتويج على محمود إماما للمنشدين وحكم السكندرى تترجم إلى كل لغات الدنيا

مظاهرات حاشدة لمنع السيدة نفيسة من الرحيل عن القاهرة.. والطهطاوى يبهر الفرنسيين ويبدأ النهضة بالتعليم

صوت محمد رفعت يشعل الحرب بين إنجلترا وفرنسا وألمانيا

فى مقدمة المشهد، حفل ألعاب نارية يعيد ر سم خريطة العالم العربى بآلاف القنابل الذكية وصواريخ توماهوك، التى تدوى فوق جبال اليمن وبين هضاب ليبيا، وداخل حارات سوريا وعلى ضفاف بلاد الرافدين، ولا تختار أهدافها إلا من بين الأبرياء من المدنيين الذين تحولوا إلى ملايين من الجوعى والمشردين الذين لا حول لهم ولا قوة، ولا يملكون إلا أشلاءهم للمشاركة فى حفل تقسيم المنطقة، ليتناثروا على حواف خرائط برنارد لويس على أيدى الصهيو- أمريكية ومخالبها الإجرامية من جماعات إرهابية، وذئاب جماعية ومنفردة تنهش فى لحم أوطانها وأمتها، وبالتوازى مجموعات فاسدة أو تابعة أو خاضعة أو طامعة تمارس الدور نفسه على الضفة المقابلة فى تفكيك مقدرات أوطانها ومقومات أمتها، هذا هو مشهد الهدم العظيم الذى تمر به أمتنا العربية، وفى القلب منها قلبها النابض مصر، ومحاولة شيوع ثقافة العنف والفساد والتطرف عبر آلة إعلامية باعت نفسها ومقدرات أوطانها للبيزنس الإعلامى، و غياب «مشروع بناء حقيقى للوطن» .
التاريخ يصنعه البناءون العظام وحدهم، ومن ثم يدخلون بأوطانهم وأمتهم أوسع أبواب الحضارة، ولأن مصر هى فجر الحضارة وضمير التاريخ، فقد قدمت على مدار عصورها النصيب الوافر لأمتها والإنسانية كلها من البنائين العظام فىشتى المجالات، فمن الأهمية بمكان استعادة ذاكرة البناء فى مختلف المجالات، فهؤلاء البناءون العظام هم الإجابة الوحيدة عن عشرات المخاوف والالتباسات، ومن هنا أيضا تتجلى أهمية هذا الكتاب الذى بين أيدينا «100 شخصية صنعت تاريخ مصر»، لنخبة من الكتاب هم: ماهر الشيال ومحمد الصبان ومحمد الطناوى، وهيثم أبو زيد، الذى صدر حديثا عن دار البديل للطباعة والنشر والتوزيع، الذين يقدمون من خلال أوراقه مائة شخصية اختاروها من بين آلاف البنائين العظام لنطالع من خلالهم حقيقة مصر، ونستلهم من مسيرتهم أملا ومجدا، وندرك أن الفجر، فجر البناء والحضارة والتقدم، لابد أن يطلع مهما طال ظلام الهدم، هكذا تقول سيرة هؤلاء العظماء، وهكذا هى دائما مسيرة مصر الدولة الحضارية العظمى، صانعة التاريخ على مر العصور.
كريمة الدارين
إنها صبيحة يوم السبت السادس والعشرين من شهر رمضان المعظم من العام الثالث والتسعين بعد المائة للهجرة، يحتشد عشرات الآلاف من المصريين عند حدود مدينة العريش الشمالية بسيناء العزيزة لاستقبال «السيدة نفيسة» التى قدمت إلى مصر مع أبيها وزوجها.
حشود المصريين التى لا تترك على أرض العريش موضعا لقدم، لا تصدق أن الحسيبة النسيبة العابدة الزاهدة التقية النقية العالمة العابدة حفيدة نبى الأمة صلى الله عليه وسلم، ابنة الحسن الأنور، وحفيدة على بن أبى طالب كرم الله وجهه، قدمت إليهم، واختارتهم لتعيش بينهم، بعد أن قاربت الخمسين لتغدق عليهم من بحر علمها، وخضم فضلها، ليشعروا إلى جوارها بدفء محبة الحبيب المصطفى ويتنفسوا العطر المبارك، عطر آل بيت النبوة الأطهار المطهرين.
تغمر السيدة نفيسة المصريين جميعا بعطفها وحنانها، مسلمين ومسيحيين ويهودا كان لهم من الأنوار نصيب، فلم يستطع المصريون الالتفات عنها، لا يريدون مبارحة دارها، فخصصت يومين فى الأسبوع يزورها الناس فيهما، يلتمسون منها العلم والنصيحة وصالح الدعوات وآثار البركات، على أن تخلو لربها بقية أيام الأسبوع، وحين ساءت أحوال البلاد، وشحت الأرزاق، وزادت معاناة المصريين بسب ظلم بن طولون وتجبره، وفرضه الضرائب الباهظة، فشحت الأقوات وارتفعت الأسعار وأصبحت البلاد والعباد فى شر حال، إلى السيدة نفيسة ذهبوا، يلجأون إليها فى الملمات، واشتكوا إليها ابن طولون الذى ملأ خزائنه من كل شىء على حساب حيا ة المصريين الذين أصابهم الضنك، وكاد يطير صوابهم، أرادوا الثورة عليه، لكنه فى منعة وقوة يستطيع بهما أن يخمد ثورتهم، وإذ بالسيدة نفيسة تطلب من جموع المصريين أن يتجهزوا لقطع طريق موكب ابن طولون، وبالفعل تقدمت صفوفهم وهم فى بؤس حالهم، بعد أن بلغ بهم شظف العيش مبلغا، وهنا يذكر المؤرخ أحمد بن يوسف القرمانى أن ابن طولون عندما رآها فى مقدمة صفوف المصريين ترجل عن فرسه، ومشى إليها، وعندما اقترب دفعت إليه السيدة نفيسة - رضى الله عنها - رقعة كانت قد كتبتها ومما جاء فيها: «ملكتم فأسرتهم، وقدرتم فقهرتم»، ورُدت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار عريتموها، فمحال أن يموت المظلوم، ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم فإنا إلى الله منظلمون، وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون.
ولم يستطع ابن طولون ردا لما قرأ، فرجع عائدا إلى قصره ذى الأربعين بابا، واستدعى كاتبه، وأملى عليه أوامره برفع جميع المظالم، وإلغاء كل قوانين الظلم، وأن تقوم الدولة بما تستطيع لمحاربة الفقر والبؤس، وما هى إلا أيام قلائل حتى تحسنت الأحوال، وظل ابن طولون عادلا فى حكمه حتى مماته.
وظلت السيدة نفيسة نورا ومنارة للمصريين، تسجل بعلمها وحكمها وورعها أنصع الصفحات فى تاريخ مصر حتى فاضت روحها الطاهرة فى شهر رمضان من العام الثامن بعد المائة الثانية من الهجرة، وقد عم حزن فريد جموع المصريين، وبعد وفاتها أراد زوجها إسحق المؤتمن بن الإمام جعفر الصادق أن يحملها إلى المدينة المنورة لتدفن بالبقيع، فعرف المصريون ذلك فهرعوا إلى الوالى ليرد زوجها، فأبى، فجمعوا مالا وفيرا ليدفنها فى مصر، فأبى أيضا، فباتوا فى ألم عظيم، لكن صباح اليوم التالى وافق لرغبتهم، فلما سألوه أخبرهم أن رسول الله أخبره فى المنام بأن يدفنها فى مصر، ومازال المصريون حتى اليوم يؤمون مسجدها طلبا للسكينة.

قيثارة القرآن
الشيخ محمد رفعت هو نجم تلاوة القرآن المتفرد، الذى خشع لصوته أصحاب القلوب القاسية، وأسلم لتلاوته حتى من لا يفهمون العربية، متأثرين بجلال الآيات الكريمة، وهى تعانق جمال أوتار قيثارة السماء التى لا نظير لنوعها أو لونها أو أو بهاء ترتيلها، حتى أصبحت بلا أدنى شك إحدى آيات الله للإنسان على مر الأزمان.
فى التاسع من مايو فى حى المغربلين بالدرب الأحمر بالقاهرة الفاطمية، ولد طفل جميل، تتلألأ عيناه الواسعتان ببريق يخطف الأبصار، لكن لم يتم العامين حتى أصيب بمرض أذهب نور بصره، دون أن ينال من بصيرته، وفى كتاب مسجد فاضل باشا بدرب الجماميز بالسيدة زينب حفظ الطفل الموهوب القرآن الكريم قبل أن يتم العاشرة، ونذر نفسه للقرآن العظيم تلاوة ومعنى وتصديقا، فبدأ مرحلة بناء قدراته بتعلم أحكام التجويد، ثم أتقن علم القراءات، ولما بلغ عامه الخامس عشر عين قارئا فى ذات المسجد، وكان يوم الجمعة لقاءه الأسبوعى مع الجمهور الذى كان يأتيه من شتى أنحاء العالم العربى والإسلامى، فنغلق الطرقات والشوارع المجاورة تماما من زحام الحشود التى جاءت تستمع لهذا الصوت المعجز والآداء الراقى المؤثر وينطلق بمستمعى الذكر الحكيم فى أجواء قدسية، تحفها ملائكة السماء.
وفى عام 1934 ومع انطلاق أول إذاعة مصرية رسمية، كان رفعت أول صوت ينطلق من الإذاعة مرتلا قوله تعالى: «إنا فتحنا لك فتحا مبينا»، وكان هذا الصوت وراء الإقبال الواسع على شراء أجهزة الراديو وازدحام المقاهى وبيوت الأثرياء، وأطبقت شهرة الشيخ رفعت الآفاق إلى حد أن تنافست الإذاعات العالمية الكبرى فى لندن وباريس وبرلين وغيرها على إذاعة القرآن الكريم بصوت أشهر قراء القرآن الكريم فى القرن العشرين، الذى جاب صوته آفاق الكرة الأرضية مقدما خدمة جليلة للإسلام والقرآن الكريم ولأمته العربية والإسلامية ولوطنه مصر باعتباره أحد أبرز أسلحتها الناعمة، وبنائيها العظام.

صانع النهضة
الانحياز للمستقبل، والتماس روح العصر، وتغليب العقل على الخرافة، وتحديد الموقع والموضع من الآخر، هى أبرز سماء بناء آخر من بنائى مصر العظام، الذى يضعه ما سطره التاريخ فى صحيفة أعماله فى مقدمة الرواد العظام، ويجعل رفاعة الطهطاوى صانع النهضة الحديثة لمصر بلا منازع.
ولد رفاعة الطهطاوى بمدينة طهطا بسوهاج جنوب مصر، والتحق بالأزهر ليعمل إماما وخطيبا للجمعة، وقد ألحقه محمد على، والى مصر بأول بعثة طلابية لفرنسا كإمام لطلاب البعثة فى الصلاة، وطوال الرحلة من الإسكندرية إلى مرسيليا التى استمرت 40 يوما، لم يترك الشيخ رفاعة كتاب كيف نتعلم الفرنسية من يده، وقد كان هذا مثار تندر طلاب البعثة، لكن لدى وصولهم إلى فرنسا، كان الإمام الشاب رفاعة الطهطاوى هو الوحيد من بينهم القادر على التفاهم مع الفرنسيين بحصيلة رحلته الطويلة، ولأن الفتى الصعيدى أظهر تفوقا ونبوغا فى تعلم اللغة الفرنسية، ورغبة شديدة فى المعرفة، مما شجع مسئول البعثة على طلب ضمه إليها على أن يتخصص فى الترجمة، وقد كان، فحقق نتائج أبهرت أساتذته الفرنسيين، وأشادوا بترجماته، وبمخطوط كتابه «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز»، وهو الكتاب الذى أعجب به محمد على، وأمر بترجمته وتوزيعه على مسئولى دولته باللغتين العربية والتركية، وبدأ الحلم الذى بدأه التنويرى الأول رفاعة الطهطاوي فى باريس، يتحول إلى واقع على أرض الوطن، وكانت الانطلاقة من التعليم، فأسرع الخطى ليفتح المدارس على مصراعيها أمام الناس، فإلى جانب عمله رئيسا للتراجم، بدأ بإنشاء مدرسة التاريخ والجغرافيا، وترجم لها فصولا فى الجغرافيا، بعدها أنشأ مدرسة الترجمة وافتتحها عام 1835، ليتبدل اسمها إلى مدرسة الألسن، تلاها تأسيس مدرسة الفقه والشريعة الإسلامية، ثم مدرسة المحاسبة، تلاها مدرسة الإدارة الإفرنجية عام 1844، لتعليم الإدارة والعلوم السياسية، كما أنشأ مدرسة الإدارة الزراعية الخصوصية 1847،، كما أنشأ قلم الترجمة وقسمه إلى أربعة أقسام: قسم لترجمة الرياضيات، وآخر لترجمة العلوم الطبية والطبيعية، وثالث لترجمة العلوم الاجتماعية، ورابع للترجمة إلى التركية، وقد أتاح ذلك تدريس كل هذه العلوم باللغة العربية، كما حول جريدة الوقائع الرسمية من جريدة خاصة بالدواوين الحكومية، إلى صحيفة عامة مقروءة تنشر المقال السياسى، وتتلقى الأخبار من مراسليها، كما قام بطباعة مجموعة كبيرة من كتب التراث على نفقة الدولة لإحيائه، إلى جانب ريادته العظيمة فى مجالى التعليم والصحافة. يعد رفاعة الطهطاوى هو أبو الديمقراطية المصرية عبر ترجمته للدستور الفرنسى وقوانينه، إضافة إلى كتاباته التى تناولت شروط تأسيس الدولة الحديثة ومبادئها فى كتابه «مناهج الألباب»، وهو ما مهد الطريق لقيام «الجمعية التشريعية» أول مجلس نيابى فى مصر، وكان آخر أعماله إنشاء جريدة «روضة المدارس» قبل سنوات قليلة من رحيل صانع نهضة مصر الحديثة رفاعة الطهطاوى فى مايو 1873، تاركا لنا معادلة النهوض متمثلة فى مجتمع يصنع أساساته الوعى، ويعلى قوائمه الجهد والإصرار، ويدفع تطوره كفاءات تنحاز انحيازا غير مشروط للمستقبل، تلك المعادلة التى صنعت نهضة الماضى، لكن تجاهلناها فى الزمن الحاضر، فأصبحنا فى حفلة تنكرية يمشى فيها الغراب مشية الطاووس، وكانت النتنيجة تراكم الأزمات، وتراجع البناء فى مواجهة الهدم والنور مقابل الظلام.

صاحب الحكم
ابن عطاء الله السكندرى، هو قطب العارفين وترجمات الواصلين، الجامع لأنواع العلوم من تفسير وحديث وفقه وتصوف ونحو وأصول، وقد حظيت حكم ابن عطاء الله باهتمام عدد كبير من العلماء، كما ترجمها إلى الإنجليزية المستشرق البريطانى آرثر إربرى، كما ترجمها إلى الإسبانية المستشرق الإسبانى ميجيل آسسن بلا سيوس.
رحل من الإسكندرية مسقط رأسه إلى القاهرة للتدريس بالجامع الأزهر، وفيه علا شأنه، وبرز نجمه، والتف حله المريدون وطلاب العلم من كل أرجاء العالم الإسلامى، ينهلون من معينه ومن أنوار حكمه، والتى جمعت فى كتابه الأشهر «الحكم العطائية الذى اشتهر فى ديار الإسلام.

شيخ المنشدين
حينما ينطلق صوت الشيخ على محمود المقرئ والمؤذن وإمام دولة الإنشاد الدينى فى مصر والعالم الإسلامى فى هدأة الليل، يغص مسجد الإمام الحسين بالرواد الذين انسابوا من مختلف أرجاء القاهرة العتيقة، ليستمتعوا بالسحر الحلال، من ذلك الشيخ الذى يكاد يذهب بالعقول طربا وهو يرسل تواشيحه بطريقته الفريدة، موظفا طاقته الصوتية التى لا نظير لها فى إبراز معانى الذكر، والمدائح النبوية، وقد حباه الله لينا فى الصوت، وامتدادا فى النفس جعله أعجوبة فى أدائه، مرجعا فى إبداعه، إماما لكل من جاء بعده من أرباب الإنشاد الدينى، حيث أطبقت شهرته آفاق العالمين العربى والإسلامى، وذاع صيته فى المحافل والمساجد الكبرى، ليترك لنا تراثا يمثل جزءا عبقريا غاليا من ذاكرة هذه الأمة.

إمام المصريين
الليث بن سعد هو إمام المصريين، كان صاحب مذهب فقهى يبارى المذاهب الأربعة المعروفة لأهل السنة، لكن تلاميذه المصريين قصروا فى حمل مذهبه ونشره، كما فعل أقرانهم مع المذاهب الأخرى، حتى إن الإمام الشافعى قال عنه:«الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به» ولو أنصف التاريخ وأهل العلوم الدينية، بل لو أنصف المصريون أنفسهم، لكن المذهب الليثى، فى مقدمة المذاهب الفقهية المعتمدة، وقد جمع الليث أربع خصال لم يكملها عالم هى العلم والعمل والزهد والكرم.
والليث بن سعد من مواليد طوخ بالقليوبية، وكانت لديه ضيعة كبيرة هناك، وقد أتقن اللغتين العربية والقبطية، وعرف الكثير من العلوم المصرية القديمة التى تركها الأجداد، وقد بلغ شهرة واسعة وهو فى العشرين من عمره، وجلس للتدريس والفتوى فى جامع عمرو بن العاص أكبر مساجد المحروسة وقتها حتى سمى بمفتى أهل مصر.
ومن أشهر آثار الليث إضافة إلى كتبه وآرائه الفقهية عظيمة النفع للعالم الإسلامى كله، تصديه لبعض ولاة مصر المتطرفين، ممن هدموا الكنائس وفقا لآراء بعض الفقهاء المتشددين، فكتب إلى الخليفة العباسى المنصور، مطالبا بإعادة بنائها، وكان له ما أراد بعد أن وقف بالمرصاد لعمليات الهدم، وكان من أشهر من روى عنه مؤلفات وآراء تؤكد المساواة بين الناس، وتحمى حقوقه أهل الديانات الأخرى فى ديار المسلمين، كما كان مشهورا بكراهية التشدد والتضييق على الناس.
إن المصريين اليوم فى أشد الحاجة لإحياء مذهب الليث الوسطى، وتناقل فقهه والاستفادة من علومه، لمواجهة التشدد والتطرف والغلو، ولو أن مذهبه انتشر بما يليق باجتهاده لكسب العالم الإسلامى كله مذهبا فقهيا ينشر الوسطية والتسامح، ويكفى أن اثنين من أصحاب المذاهب الأربعة الكبرى شهد لإمام المصريين بأن فقهه لا يقل عنهما، وهما الإمام مالك والإمام الشافعى.

إمام التقريب
الشيخ محمود شلتوت هو سليل مدرسة أستاذه الإمام محمد عبده ذات المنهج الإصلاحى الذى يسعى التقريب والتوفيق ولم الشمل، وهو ما جعل الحضور بمؤتمر لاهاى للقانون الدولى المقارن عام 1937، ينبهرون بالآراء البحثية التى طرحها هذا الشيخ الأزهرى المعمم القادم من مصر، عن المسئولية المدنية والجنائية فى الشريعة الإسلامية، ليقر أعضاء المؤتمر الدولى فى توصياتهم النهائية بأن الشريعة الإسلامية مصدر من مصادر التشريع الحديث متأثرين بحجية الشيخ شلتوت مندوب الأزهر فى المؤتمر.
لم تكن هذه الدراسة هى الجهد الأبرز الذى قدمه شلتوت، بل قدم عشرات الأعمال العظيمة فى مختلف المذاهب التى تقلدها بداية من الخطابة والتدريس بمسجد الأمير محمد على، وصولا إلى تولى منصب الإمام الأكبر شيخ الأزهر، حيث عمل على تجديد مناهج الأزهر، وأنشأ مجمع البحوث الإسلامية ليجمع علماء العالم الإسلامى فيه ومن مختلف المذاهب، كما جاء بقانون تنظيم الأزهر عام 1961، وكان له الفضل فى إضافة تخصصات جديدة للدراسة بالأزهر مثل الطب والهندسة والزراعة والإدارة، كما سمح لأول مرة بالتحاق الفتيات بمعاهده، كما أسس معهد القراءات ومعهد البعوث الإسلامية وأدخل اللغات الأجنبية للمعاهد الأزهرية، ليحمل خريجوها رسالة الإسلام للعالم أجمع.

مؤسسو التصوف المصرى
يعتبر ذو النون المصرى ابن أخميم بصعيد مصر، هو المؤسس للتصوف المصرى بلا منازع.. يروى ذو النون نفسه بداية قصته «أنه كان يوما واقفا على شاطىء النيل فى بلدته أخميم قائلا: رأيت عقربا فأردت قتلها فهربت وركبت على ظهر ضفدعة، فعبرت بها الجانب الآخر، وأنا أتابعها حتى نزلت عن ظهرها، فإذا برجل نائم وهو سكران بينما ثعبان قد أقبل ليلدغه، فأسرعت العقرب نحو الثعبان فلدغته، لينفق فى الحال، فسارعت إلى الرجل النائم فأيقظته، فنهض مذعورا وقد شاهد جثة الثعبان فأخبرته بما حدث، فأطرق فى الأرض ثم قال: يارب هكذا رحمتك على من عصاك فكيف بمن أطاعك، فوعزتك لا أعصينك أبدا، ومن وقت هذه الحادثة وذو النون قرر الارتحال لطلب العلم والتفرغ لعبادة الله، وقد ترك ذو النون لأهل مصر تراثا زاخرا من العلوم المختلفة من بينها علم المصريات، حيث كان يتقن الهيروغليفية، كما قدم العديد من المشروعات فى الفقه والفلسفة، وغيرها من علوم الدين، لكن إنجازه الأهم هو تأسيس التصوف المصرى الذى يقوم على اعتزال النفس وليس اعتزال الحياة، وقد بلغ من الشهرة أن استدعاه الخليفة المتوكل ليعلم الناس فى بغداد باعتباره أحد رموز الزهد والعلم والعشق الإلهى فى عصره.
من هنا نبدأ
كانت نفس هذا الأزهرى غير المعمم خالد محمد خالد نزاعة للصدق، يمتلك رؤى تتضافر فيها العلوم الشرعية والأفكار العصرية، وهو ما تجلى فى مؤلفه الأول «من هنا نبدأ» وكتابه الثانى «مواطنون لا رعايا» والثالث «الديمقراطية أبدا»، وقد تفرغ للكتابة بروح حرة مستقلة، فقدم لمصر والأمة العربية والإسلامية 40 كتابا على مدار 76 عاما كان أبرزها دفاعا عن الديمقراطية، إنه الإنسان، رجال حول الرسول، ليسطر اسمه واحدا من أبرز مفكرى العصر.

المنشد العبقرى
هو منشد عبقرى، ومقرى فذ، من أبناء المدرسة المصرية فى فنون التلاوة والإنشاد التى أسسها أستاذه الفذ على محمود، وقد بدت علامات النبوغ على الشيخ طه الفشنى منذ ميلاده فى بلدته الصغيرة الفشن، ببنى سويف بصعيد مصر، وكانت المدرسة الكبرى التى تعلم فيها هى مدرسة الشيخ على محمود الذى سمح له بأن يجلس مكانه ويقرأ القرآن فى حى الحسين ومع صعود نجمه، والإجماع على عظمة صوته دعى الشيخ طه الفشنى للقراءة فى القصر الملكى طوال شهر رمضان المعظم، واستمر فى ذلك طوال 9 سنوات متنقلا بين قصر عابدين، وقصر رأس التين بالإسكندرية، وقد ترك ثروة كبرى من التسجيلات لتلاوة القرآن، أما كنزه الأكبر فكانت تسجيلاته من التواشيح والابتهالات والمدائح النبوية، مما جعل الباحثين ومحبى التراث يجرون العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه فى تراثه، وكان آخر منصب تولاه حتى رحيله فى ديسمبر 1971 هو رئاسة رابطة قراء القرآن الكريم.

زعيم دولة التلاوة
الشيخ مصطفى إسماعيل ابن قرية ميت غزال بطنطا، هو صاحب التأثير الأكبر فى قراء مصر والعالم، كان فى دولة التلاوة أمة وحده، وصوته لا يكاد ينتمى إلى عالم البشر، وكأن صوته يدرب على القراءة الطويلة، وكلما زادت ساعات التلاوة، ازداد صوته حلاوة وقوة ومقدرة وتمكنا، وهو ما جعله نجم التلاوة الأول بالقصور الملكية طوال شهر رمضان المبارك وقد زار كل الدول العربية، وكثير من دول العالم الإسلامى والغربى حاملا نور القرآن الكريم، وكان أول قارئ للقرآن الكريم تكرمه الدولة، حيث منحه الرئيس عبد الناصر وسام العلوم والفنون عام 1965، كما نال العديد من الأوسمة من الدول العربية والإسلامية، منها وسام الأرز من لبنان ووسام الاستحقاق من سوريا، ووسام الفنون من تنزانيا، كما حصل على أعلى وسام من ماليزيا والبحرين والأردن وتونس والمغرب وباكستان التى قرأ القرآن فى استادها الرئيسى حتى يمكن استيعاب الجماهير المحتشدة بالآلاف للاستماع إليه، وقد كانت آخر تلاوة له قبل رحيله بأربعة أيام، لكن سيظل صوتا مصريا خالدا فى سمع الزمان.

شمس الشموس
سيظل أبو الحسن الشاذلى محفورا فى ذاكرة أهل مصر، باعتباره رمزا مصريا خالصا، وعلما شامخا، فهو أستاذ العلماء والمشايخ، وهو مقصد أهلها من كل حدب وصوب كان من دعاة العشق الإلهى، لكنه لم يكن ذلك الحب الفارغ من مضمون العمل والاجتهاد، أو الاستسلام والزهد فى العمل، وقد اشتهر عنه نصرة الحق والدفاع عن المستضعفين، وقد أسس مدرسة علمية هى المدرسة الشاذلية، وكان يطلق عليه علماء عصره مثل العز بن عبد السلام والقشيرى والشعرانى، قطب الزمان الحامل فى وقته لواء أهل العيان، وقد شارك فى معارك مقاومة المعتدين ومنها معركة المنصورة.
ترك لنا تراثا علميا وفقهيا عظيما، ملأ أرجاء العالم الإسلامى على أيدى تلاميذه ومنهم أبو العباس المرسى، وابن عطاء الله السكندرى والشيخ الصبان المصرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.