في مقال نشره فى السادس فى يونيو الماضى، تعقيبا على المؤتمر التحضيرى الذى عقد فى باريس فى شهر مايو الماضى للمؤتمر الدولى للسلام، الذى احتضنته العاصمة الفرنسية يوم الأحد الماضى،كتب الباحث والصحفي الفرنسي "آلان جريش " رئيس تحرير شهرية "لوموند ديبلوماتيك" الأسبق، ورئيس تحرير موقع "أوريان 21" الإلكتروني الشهير مقالاً تحليليا، تضمن رؤية موضوعية للمؤتمر والنتائج التي أسفر عنها، فبعد أن أعاد التذكير بشروط السلام التي أجمع عليها المجتمع الدولي، وهي الانسحاب من كل الأراضي المحتلة في يونيو 1967, دولة فلسطينيةوالقدس عاصمة لدولتين، حل "عادل" لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، كتب غريش قائلا:"إذا كان المجتمع الدولي وفرنسا منسجمين مع فكرة الدولتين، لكانا أدركا منذ وقت طويل، أن الوسيلة الوحيدة لدفع إسرائيل إلى التفاوض وتقديم تنازلات، هو من خلال ممارسة الضغط على حكومتها التي يسيطر عليها أقصى اليمين، بعد أن ضم أفيجدور ليبرمان إليها بصفته وزيراً للدفاع". ثم علّق على كلام الرئيس الفرنسي، لدى افتتاح المؤتمر الأول: "إن الدبلوماسية الفرنسية، إذ تتجاهل المسئول (عن إخفاق عملية السلام)، وتدعو للعودة إلى شكل المفاوضات الثنائية –وهو موقف بنيامين نتيانياهو- تعود إلى فكرة تبسيطية مفادها، أن النزاع يدور بين طرفين متعادلين في السلطة والحقوق، وأن الاثنين يتطلعان إلى السلام، ويجب حملهما على أن يكونا عقلانيين.. بيد أن الواقع ليس على هذا النحو كما يضيف فإسرائيل تواصل سياسة الاستيطان الذي لا تحده قيود في الضفة الغربية، وتستمر في تهويد القدس، وظهر انسحابها من غزة عام 2005 على حقيقته، بمعنى استمرار الاحتلال بشكل آخر: فالسجانون، وبدلاً من أن يكونوا داخل السجن، وقفوا على أبوابه". ويخلص إلى أنه:"إذا كانت باريس تريد ضمان تقدم "عملية السلام"، فيتوجب عليها الاعتراف بأن الحكومة الإسرائيلية هي العقبة على هذه الطريق، وينبغي بالتالي إجبارها على تقديم تنازلات". ويتساءل:"فهل الضغوط ممكنة على الحكومة الإسرائيلية ؟"، ثم يجيب:"بكل تأكيد، وهي تشمل مظلة واسعة جداً تمتد من الامتناع عن استيراد منتجات المستوطنات اللاشرعية، إلى فرض عقوبات تجارية لنتذكر أن الاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الأول لإسرائيل مروراً برفض تمويل الأبحاث العسكرية في الجامعات. ويضيف: إن فرنسا، التي تعلن باستمرار احترامها للقانون الدولي، يمكنها تفعيل فتوى سنة 2004 لمحكمة العدل الدولية التي قضت بأن بناء الجدار في فلسطين هو عمل غير شرعي. كما يمكنها أن تتساءل عن حالة مزدوجي الجنسية الذين يؤدون الخدمة العسكرية في الأراضي المحتلة: فقد جاء حادث مقتل فلسطيني على يد جندي فرنسي- إسرائيلي في 24 مارس من العام 2016 الفائت، ليذكرنا بأن مواطنين يمتلكون جوازات فرنسية يسهمون في عمليات تعتبرها فرنسا لا شرعية.. ويمكن لكل هذه الأفعال أن تحظى بدعم المجتمع المدني، المعبأ في حركة "المقاطعة، وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات"، الديمقراطية والسلمية، وهي الحركة التي تسعى السلطات الفرنسية، مع ذلك، إلى حظرها، لتؤكد، في الواقع، رفضها ممارسة أي ضغط على حكومة أقصى اليمين الإسرائيلي، وتثير بذلك أكثر من الشكوك حول رغبتها بالتوصل إلى حل في الشرق الأوسط. تقييم لا يختلف كثيرا ولايختلف تقييم مؤتمر باريس الأخير كثيرا، سوى أنه شارك فيه وزراء خارجية 70 دولة على رأسها الدول الخمس الكبرى فى مجلس الأمن، وأعضاء اللجنة الرباعية الدولية ودول مجلس التعاون الخليجى، إضافة الى الدول العربية جميعا عدا سوريا والجامعة العربية التى مثلها أمينها العام أحمد أبو الغيط، مما وفر غطاء دولياً واسعا يمكن توظيفه، إن إحسن إدارته ليس من باريس فحسب، ولكن من الأطراف العربية بالأساس فى ممارسة الضغوط التى يطالب بها آلان جريش، كما أنه عقد بعد تطورين دوليين شكل كل منهما ضربة لتوجهات الكيان الصهيونى سواء فيما يتعلق بالقدس أم الاستيطان وأولهما إصدار منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونيسكو" فى الثامن عشر من شهر أكتوبر الماضى، لقرارها القاضى بأن المسجد الأقصى وكامل الحرم الشريف هوموقع إسلامي مقدس ومخصص للعبادة ووقف انتهاكات الكيان الصهيونى ضد المسجد. أما التطور الثانى، فيتمثل فى تصويت مجلس الأمن الدولي، على قرار بإدانة ووقف الاستيطان الصهيونى في الأراضي الفلسطينية نهاية العام الماضى، والذى أعلن الكيان رفضه له بقوة، فضلا عن رفض الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، الذى هدد بعد صدوره بما يمكن وصفه بتهديد الأممالمتحدة عبر قوله: الأمر سيكون فى التعامل معها مختلفا، بعد العشرين من يناير، أى بعد تسلمه السلطة فى البيت الأبيض. إعادة الاعتبار السياسى ولاشك أن أهم النتائج التى بلورها مؤتمر باريس، تتجلى فى أنه نجح فى إعادة الاعتبار السياسى العالمى، فضلا عن الإعلامى،القضية الفلسطينية بغض البصر عما يمكن أن يحققه على الأرض والمرهون أساسا بعوامل أخرى وفى هذا السياق، فقد بعث بوضوح رسالة واضحة الملامح إلى كل من الكيان وإدارة ترامب، بأنه لا خيار آخر سوى خيار حل الدولتين. التمسك بالمبادرة العربية وكان لافتا للنظر تمسك المؤتمر بالمبادرة العربية للسلام التى أقرها القادة العرب فى قمتهم التى عقدت فى بيروت العام 2002. ولكن فى المقابل، فإن البيان النهائي للمؤتمر لم يوجه أي انتقاد صريح لخطط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس وذلك على الرغم من الانتقادات الواضحة، التى وجهها وزير الخارجية الفرنسى فى تصريحاته لإحدى القنوات التليفزيونية الفرنسية، عقب كلمته التى افتتح بها أعمال المؤتمر، فقد حذر من "العواقب الوخيمة" لمثل هذه الخطوة، وإن استبعد ترجمتها إلى الواقع فى ظل الخبرة التاريخية لأغلب الإدارات الأمريكية السابقة، والتى كانت تتبنى مثل هذا الطرح، ولكنها عندما تتسلم السلطة سرعان ما تتخلى عنه. الموقف العربى وقد جاءت كلمة أحمد أبو الغيط الأمين العام للجامعة العربية أمام المؤتمر لتحدد أهداف الجانب العربى والتى تتمثل فيما يلى: أولا: ضرورة إنهاء الاحتلال الذي بدأ عام 67 (أي منذ خمسين عاماً) والذي يُعد استمراره وصمة تاريخية بغيضة يجب ويصح ألا تنتمي إلي زمننا الحالي. ثانيا: قيام دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة علي أساس خطوط 4 يونيو 1967 لتعيش جنبا إلى جنب في سلام وأمن مع الدولة الإسرائيلية. ثالثا: تمكين الجيل القادم، من أبناء الفلسطينيين والإسرائيليين، من كسر الدائرة الجُهنمية للكراهية والانتقام والعنف. رابعا: لم يعد بمقدورالعرب، والفلسطينيين بشكل خاص، تقبل أو تفهم مساعي إعادة اختراع العجلة من جديد، فالمنهج القائم علي إحياء العملية التفاوضية من دون إطار زمني واضح أو مُرجعية راسخة يستند إليها، أصبح أمراً لا يمكن القبول به. سادسا: إن ربع قرن من المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بكل ما استقر خلاله من مبادئ وقرارات دولية (يضيق المجال عن ذكر كل منها) ومُبادرات حازت إجماعاً عالمياً، يكفي ويزيد للوصول إلي نهاية المطاف، كما أنه لم يعد في الإمكان الاستمرار في ربع قرن جديد من عملية سياسية بلا أفق زمني واضح ومحدد. سابعا: إن مؤتمر باريس هو نداء من أجل السلام، والغاية الحقيقية مع الشركاء الدوليين تتمثل في إنقاذ حل الدولتين، باعتباره يمُثل المسار الوحيد لاستقرار المنطقة، وتلك هي الرؤية التي تبنتها المبادرة العربية للسلام. وهنا يؤكد أبو الغيط اقتناعه الراسخ بأن الفُرصة ما زالت قائمة لتحقيق الرؤية التي بشرت بها المُبادرة، بشرط وجود قيادة إسرائيلية راغبة حقاً في التسوية السلمية. ثامنا: مطالبة الإدارة الأمريكية الجديدة بأن تكون علي مستوي الجدية المطلوبة من حيث دفع العملية السياسية وإدراك عمق مغزي التوافق الدولي، بشأن حل الدولتين ومُحدداته ومرجعياته، فأى سياسات أو إجراءات يقوم بها أي طرف بشكل أحادي، لابد وأن تنسجم مع حل الدولتين وألا يكون من شأنها إجهاض هذا الحل من خلال استباق نتيجة العملية التفاوضية، أو التسبب في مزيد من تعقيد الموقف، وإثارة المشاعر الغاضبة لدى الفلسطينيين والعرب جميعاً. وتبقى الإشارة إلى أن البيان الختامى لمؤتمر باريس، يفتقر إلى الآليات والخطوات العملية للبدء فى تطبيق حل الدولتين والسقف الزمنى له، وثمة من يرى أن رفض بنيامين نيتانياهو رئيس وزراء «الكيان» لنتائجه، والتى وصفها بأنها عبث وخداع قد يشكل - مع التشدد الذى تبديه إدارة ترامب وانحيازها الأكثر وضوحا إلى سياساته - معوقا رئيسيا، أمام بدء عملية سلام جادة وفاعلة تعيد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى، وإن كان البعض يراهن على تحرك روسى فى هذا الشأن، يهدف إلى جمع الرئيس الفلسطينى محمود عباس مع نيتانياهو، وهو أمر يبدو بعيدا من فرط انشغال موسكو بالأزمة السورية، بعد أن أصبحت الرقم الأهم فيها.