الثورة زلزال يمحو الساقط ويسقط الهش, ويحدث شروخا في الضعيف من بنيان الدولة ومؤسساتها ويزيح الشرعية عنها وعن الأسس التي قامت عليها, لتشكل الأهداف الجوهرية للثورة قواعد المشروعية لبنيان جديد ينهض عليها ويجسدها... وبهذا المفهوم فإن الثورة اقتلاع وبناء, سقوط ونهوض, وإزالة وتشييد... جوهرها أشد عمقا وأبعد أثرا وأكثر اتساعا وشمولا من مجرد التغيير أو الإصلاح. وإذا سلمنا بأن السقوط بالحدث المزلزل, كليا أو جزئيا, أمر سهل يقع ويتزامن مع إيقاعات الثورة, فإن أعمال التشييد والبناء وإقامة الصرح الجديد, بعد إزالة الأنقاض, ليس فقط استجابة لمتطلبات حاضر متعطش يعاني من القسوة والقهر بل أيضا تخطيطا لمستقبل تطلعات مشروعة لأمة تغوص حضارتها في أعماق التاريخ, هي بالضرورة ليست بنفس القدر من السهولة ولا يمكن أن تحدث بذات الدرجة من الإيقاع. فالثورة بمفهومها الحقيقي لا تقع ولا تحقق النصر بمليونية أو أكثر من المتظاهرين أو المحتجين أو الرافضين بدون أن يكون الهدف الجمعي لهؤلاء ومنها هو اجتثاث القديم من جذوره وليس الاكتفاء بمجرد استبدال للأشخاص أو تغير في المواقع أو إحداث ترقيعات جزئية أو إجراء رتوش تجميلية هنا وهناك.. فتلك الأخيرة من خصائص' الانقلاب' لا' الثورة'. كما يمكن أن تتآكل الثورة من داخلها أو تجهض نفسها وتتحول إلي مجرد' انقلاب' إن وجهتها نزعات الانتقام أو سيطرت عليها حالات التشرذم أو الانقسام وتعدد القيادات والصراع فيما بينها ليس فقط حول الرؤي بل أيضا فيما يتصل بالطموحات والتطلعات الشخصية أو القفز عليها وسرقتها أو إذا لم يتفهم الثوار جوهرها ويلتزموا بتنفيذ أهدافها أو إذا لم يدركوا المعطيات الموضوعية والمتطلبات الإجرائية والإمكانيات الضرورية لهذا التنفيذ.. تلك المعطيات والمتطلبات والإمكانيات التي تصطدم عمليا وبالضرورة بفكرة' الفورية' ولا تستقيم مع' العجلة' في إزالة الأسباب التي فجرت الثورة, أو إصلاح ما هو قابل للإصلاح منها. كما أن سهولة تعميم الأحكام علي البشر بدون مشقة الفرز والتجنيب ظلم بين, فتعميم الظلم, مثل تخصيص العدالة, يرفضهما مبدأ اليقين بالحق. إذا تجاوزنا هذا التعميم وابتعدنا عن فكرة تحجيم' الثورة' أو اختزالها إلي' انقلاب' بالمفهوم الذي أشرنا إليه, فإن اجتثاث نظام من جذوره وبناء نظام جديد يليق بمصر القيمة والقامة يستحيل أن يستقيم تحقيقه مع الإصرار علي فكرة الفورية أو التعجيل خصوصا إذا لاحظنا ما يلي: أن الحكومة الحالية انتقالية محكومة بطبيعة المرحلة ومقيدة بمحدداتها, ومن ثم فهي في الحقيقة ليست مطالبة بتحقيق الأهداف' الكلية' للثورة, ولا تستطيع ذلك في إطار الفترة الزمنية, ومن يقول بغير ذلك, فضلا عن كونها توقعات غير واقعية, فإنه يحمل الحكومة فوق طاقاتها وأبعد عن إمكانياتها... إن المهمة الأساسية لهذه الحكومة, إضافة إلي اتخاذ الإجراءات والقرارات المتصلة بالمسائل العاجلة نسبيا, هي الإعداد لبناء المؤسسات التشريعية للدولة واتخاذ الإجراءات المتعلقة بإعداد دستور جديد للبلاد والاستفتاء الشعبي العام عليه وإصداره, وإجراء الانتخابات لاختيار رأس الدولة, والعمل علي تلبية المطالب الملحة والممكنة وبصفة خاصة ما يتصل منها بإعادة هيكلة المؤسسات الأمنية ومواجهة حالة الانفلات الأمني, والسعي إلي استرداد الأموال المنهوبة والمهربة, واتخاذ الإجراءات الموضوعية والشفافة لتقديم الفاسدين والمفسدين لمحاكمات طبيعية علنية وعادلة وتطهير مؤسسات الدولة من الفساد وتجفيف منابعه, والعمل علي إرساء قواعد العدل الاجتماعي. كما أن هذه الحكومة مطالبة بالعمل علي عودة دوران عجلة الإنتاج ومضاعفته وتشجيع وجذب الاستثمارات وعودة السياحة وغيرها من مهام تمهد الأرضية وتوفر المناخ لانطلاقة كبري في نهاية الفترة الانتقالية, للمؤسسات والسلطات المنتخبة علي المستويين المركزي والمحلي للدولة المصرية. حتي هذه المهام, علي محدوديتها, كيف يمكن لحكومة, أية حكومة, تحقيقها في مناخ تسوده حالة من الفوضي والانقسام ويغلب عليه تعدد الرؤي واحتكار الرأي والميل إلي تخوين الآخر أو إرهابه وعدم الواقعية مع نزوع البعض إلي إحداث شلل في بعض قطاعات الدولة وأنشطتها وممارسة أعمال وسلوكيات هي أبعد ما تكون عن خصائص' الثائر الحق' ولا تتفق مع روح وأهداف الثورة... إن الإمعان في هذه السلوكيات والتهاون حيالها من شأنه أن يجهض الثورة ويدخل الوطن في نفق مظلم. لقد حددت الثورة أهدافها وبلورتها في ثلاثية أساسية متكاملة هي العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية, بها وحدها تكون الشرعية وبدونها يصبح كل شيء عاريا عن الشرعية مفرغا من المضمون... ويتعين أن يكون تحقيق تلك الأهداف متوازيا ومتزامنا وليس متتابعا أو فرادي في معزل عن بعضها, كما أن الوصول إليها هو بالضرورة أمر متدرج بحكم متطلباتها التراكمية ومن ثم يلعب عنصر الزمن دروا رئيسيا فيها. فإذا تحدثنا عن' العدالة الاجتماعية', بوصفها القاعدة الأم, والتي يمكن تلخيصها في توفير حياة كريمة لكل مواطن بما في ذلك, وعلي الأخص, الحق في التعليم الجيد الذي يؤهل لفرصة عمل حقيقية, والرعاية الصحية الآدمية والعمل المناسب في مناخ يبعث علي الإنتاج, والأجر أو المعاش الذي يتناسب طرديا مع مستويات الأسعار والتضخم, وتوفير الخدمات الأخري وتقديمها علي أساس المواطنة بغير تمييز مهما كان نوعه أو شكله, ومحاربة الفساد في جميع صوره, فإن ذلك يتطلب بالضرورة إمكانيات وخططا متدرجة للتنفيذ... فمثلا, فإن مشكلة البطالة وقضية التعليم والأمية موضوعات مترابطة تشكل مشروعات قومية يتعين أن تحظي بأولوية مطلقة في اتجاه إصلاح التعليم ومعالجة البطالة والقضاء علي الأمية الهجائية فضلا عن أمية القرن الحادي والعشرين. وهذه وتلك تتطلب التخطيط لمشروعات تسير في اتجاهات متوازية ومتزامنة. ونحن نتحدث هنا عن خريطة طريق وخطة زمنية لا تقل عن خمس سنوات علي أفضل تقدير ومع حسن التفاؤل. وإذا تحدثنا عن' الحرية والديمقراطية', وعلي ما بينهما من ترابط عضوي, كقاعدة أخري في بنيان الدولة المنشودة, فإننا أمام متطلبات أخري يحتاج تحقيقها إلي وقت مثل بناء الهيكل التشريعي للدولة بداية بوضع دستور جديد يليق بالقيمة والقامة التاريخية والحضارية والسياسية لهذا البلد العظيم, والقوانين المكملة للدستور وغيرها من تشريعات, منوطة بمجلسي البرلمان المرتقب, يتعين استحداثها أو إخضاعها لمراجعات شاملة في ضوء الدستور ومقتضيات الثورة وتطلعات الأمة... ومن ناحية أخري, فإن ثمة متطلبات لتحقيق الحرية والديمقراطية هي بطبيعتها تراكمية أساسها الممارسة التي تشكل الثقافة الحاكمة لها والتي تستلزم مجتمعا ديمقراطيا يقدر حرية التعبير ويحترم الحوار ويتقبل الرأي الآخر ولا يسفه الخلاف أو الاختلاف أو يخونه وتسوده ثقافة المشاركة ولا يحتكر الحقيقة فيه أي فرد أو طائفة أو جماعة أو حزب أو قوي أو قطاع... مجتمع يؤمن بالتعددية وبالحق في الاختيار المجرد ويتقبل بل ويشجع تداول السلطة. لقد انتقلت الثورة بالمصريين من الأحلام إلي الحقائق والتوقعات... وهذا رصد موجز لأبرز المحددات والتحديات الموضوعية والإجرائية والزمنية التي يتوقع من الجميع استيعابها واحترامها حتي تبقي هذه الثورة المتفردة عند قامتها محققة لأهدافها بعيدا عن التحجيم أو الإجهاض أو الدخول في نفق مظلم أو تعريض الأمن القومي المصري لمخاطر نحيكها أو نصنع فرصها بأيدينا...