هذا كاتب مقتدر ومتمكن, متمالك لأدواته, وفوق كل هذا,, ماكر ذلك المكر الفني الذي يمنح عمله حيوية مدهشة, كما أنه ليس ظلا لأحد, ولايكاد القارئ يلمح تأثرا لديه بهذا الكاتب أو ذاك من الأجيال السابقة, ولذلك قدم عملا متفردا, تغريدة أهداها لمدينته الأقليمية الصغيرة القابعة في الدلتا.. أشمون. ربما كانت السطور السابقة في وصف رواية قميص سماوي أمرا عاديا بالنسبة لكاتب متمرس له تجربة, أما إذا كانت تتعلق بالرواية الأولي لكاتب شاب أقرأ اسمه للمرة الأولي هو محمد عمرو الجمال فالأمر مختلف, لأنه ينشر في حدود ما أعلم للمرة الأولي, وروايتهقميص سماويفازت بالجائزة الأولي في المسابقة الأدبية المركزية لهيئة قصور الثقافة, فأغلب الظن أنه في أواخر العشرينيات وعلي أقصي تقدير في أوائل الثلاثينيات وهو ما ضاعف من فرحة كاتب هذه السطور بالرواية وكاتبها معا. من جانب آخر, تكاد قميص سماوي تخلو من الأخطاء العادية والمسموح بها بالنسبة للعمل الأول لأي كاتب, ولغته خاصة للغاية, هدفها توصيل الرسالة, وليس اللعب علي المجاز اللفظي والحواشي البلاغية. أما اقتصار الجمال وتمكنه, فيبدو واضحا ومتحققا في شجاعته في اقتحام مثل هذا العالم المترامي علي مدي 348 صفحة من القطع المتوسط, والذي يقدم في حقيقة الأمر, عوالم وطبقات متضافرة ممتزجة, يرويها جميعها راو واحد بضمير المتكلم, مولع بالشفرات التي يمتد بعضها علي مدي صفحات الرواية, ولا تكشف هذه الشفرات عن نفسها إلا قرب النهاية, مثل شفرة شيماء التي يتزوجها الراوي في أول العمل تقريبا, ولا تلتئم صورتها إلا في الصفحات الأخيرة. لا يكاد الراوي يغادر مدينته الاقليمية إلا نادرا, وحتي لو غادرها الي السعودية مثلا, فهي حاضرة بكل ثقلها وزخمها. بحواريها وشوارعها ومقاهيها وبيوتها وترعها الصغيرة ورائحتها, والأهم بناسها: فنانو المسرح المغمورون ممن يعملون في قصور الثقافة الحكومية, أهل الطريقة الطيبون, العاملون في تسوية الدواء, موسيقيون وراقصات من محترفي الافراح, مخبرون وضباط من أمن الدولة. كل هؤلاء يشكلون, وتتشكل بهم لوحة بانورامية عريضة للمدينة الصغيرة, وحتي يستطيع الكاتب الأحاطة بكل هذا العالم أو العوالم وتقديمه بكل هذا الحب والعشق, وإن كان بلا تورط أو عواطفية ميلودرامية, لجأ الي الاصعب فنيا. لم يلتزم الجمال بالزمن الكروتولوجي المتتابع, وبني روايته أفقيا, ولذلك حفلت بالعديد من الشفرات والثغرات التي تكشف عن نفسها في مواضع أخري تالية, فالعلاقة الملتبسة بين الراوي وغادة زوجة عادل مطرب الأفراح تنكشف أبعادها وتفاصيلها علي مدي صفحات الرواية, ويختلط الوهم بالواقع في علاقة الراوي بفهد الكاشف ضابط أمن الدولة, الذي استطاع أن يجنده مرشدا علي أصدقائه وخائنا لهم, في مقابل أن يسمح له بالسفر ليعمل في تسويق الدواء في السعودية.من جانب آخر, استطاع الكاتب أن ينجو من مزالق السياسة بمعناها الفج المباشر. وإذا كان صحيحا أن أي كتابة لابد أن تكون علي علاقة بالواقع علي مستويات متعددة, فإن المهم آلا تكون هذه الكتابة, انعكاسا ميكانيكيا للواقع, وهو ما فعله كاتبنا الشاب. المدينة الأقليمية الصغيرة أشمون لا يقدمها الكاتب باعتبارها حيلة فنية لترديد افكاره, أو رمزا فجا لمدينة فاضلة ينشدها, بل علي العكس تماما, يقدم ازدهارها وسقوطها علي التوالي, جري عليها ما جري علي كل مدن مصر الصغيرة, والكبيرة علي السواء, ازدادت فقرا, وراحت تطرد أبناؤها المطحونين, ولم تسمح لهم بالتحقق, انقلب الممثلون القدامي الذين أفنوا عمرهم علي خشبة مسرح المدينة الصغيرة الي دمي شائهة ومهانة, يزجرهم عساكر الشرطة, أو يتعرضون لحريق بني سويف الشهير, والذي أودي بحياة العشرات عندما ماتوا حرقا بسبب الإهمال, وهو الحادث الذي عرض له الكاتب بالتصريح وليس مجرد التلميح. لا أريد هنا أن ألخص هذا العمل الفريد والمترامي حقا, لكنني أؤكد أنه رغم صعوبة الحل الذي اهتدي إليه الجمال بتقديم عوالم المدينة الصغيرة علي نحو أفقي, دون تقيد بالزمن الكرونولوجي, أو البناء التقليدي, فإن الحل الأصعب, كان هو الحل الوحيد بالاحاطة بالمدينة الصغيرة والأمساك بها, فهي البطل الحقيقي للرواية. قميص سماوي رواية المدينة الصغيرة الاقليمية, وهي ايضا رواية الأبطال المهمشين من الممثلين والمطربين والحواة والمخبرين والقامعين والمقموعين, وهي أيضا الرواية التي تكشف عن كاتب مهم, لم يلجأ للحلول السهلة أو التقليدية, بل أختار الأصعب, وأمتع القارئ بهذا العمل المبهر الذي يبقي في الذاكرة طويلا.