لا شك أن العولمة, كعملية تاريخية, قد جاءت لتبقي. لكن حالة السيولة, التي أحدثتها في العالم, أغرقت معاقل الفكر في القوي الفاعلة في المشهد الدولي, وأمريكا بالذات, أن تطلق بالونات اختبار فكرية, تدرس ردود الأفعال عليها. وترسم استراتيجيات تشكيل العالم في ضوئها, بعض هذه البالونات قدمت صورة لمستقبل العالم كله, وبعضها أختص بمنطقتنا ووطننا, وهنالك العديد من الأمثلة الخاصة بالبالونات التي شغلتنا كثيرا, وكان هذا الانشغال أحد أهدافها. وإليكم أشهر الأمثلة: بالونة الصدام المحتم للحضارات لهنتنجتون, التي قدمت العالم الاسلامي والصين باعتبارهما العدو المحتمل للحضارة الغربية بعد انهيار الكتلة الشرقية. لقد التقط بعض المتطرفين الطعم, وأكدوها في خطابهم, وجعلوا المسلمين الرافضين للصدام في موضع الدفاع المستمر, لنفي ما ليس فيهم. بالونة نهاية التاريخ لفوكوياما, التي أعلنت الانتصار النهائي للديمقراطية والليبرالية الغربية. لقد تراجع فوكوياما عن فكرته, بعد أن أحدثت أثرها, وصارت أمريكا تحدد علاقاتها ومعوناتها علي ضوئها. وظهر من بيننا من يدافع عنها بعد تخلي صاحبها عنها مع أنها تقدم بصورة تلغي السياقات الثقافية, وتدعو إلي القولبة في التطبيق. وهذا ما يبدو أن أمريكا أوباما قد أدكته نسبيا. بالونة الأحادية القطبية والقرن الأمريكي الجديد, التي هلل لها البعض هنا وهناك, وسرعان ما أثبتت الأيام عدم صحتها, وبدأ الحديث عن الشراكة والتعددية القطبية. بالونة الحالة العربية والمصرية, التي أطلقها المهاجر العربي فؤاد عجمي, وأضاف توماس فريدمان تنويعات أمريكية/ اسرائيلية الهوي علي لحنها, لقد نعي عجمي حلم الوحدة العربية, وذكر أن مشكلة مصر تكمن في أن صورتها العظيمة في ضمير أبنائها تنافي واقعها المتواضع. ومرة أخري, أبتلع بعضنا الطعم, رغم أن الأيام أثبتت وستثبت حتمية التنسيق العربي لصالح أمن وتنمية الجميع بصرف النظر عن حلم الوحدة, وأن عظمة مصر حقيقة حضارية لا تحتاج إلي من يؤكدها أو ينعيها, ويكفي بالنسبة لفريد مان أن نذكر حواره مع نقيب الصحفيين في مصر علي قناة الجزيرة, الذي ذكر فيه تضاؤل تأثير مصر. وها نحن نري التكرار الببغائي لذلك علي ألسنة البعض, رغم كونها مفتاح الحرب والسلام والتنمية في المنطقة. ان البالونات السابقة تستخدم مع إسمية لعبة المرايا والعدسات, فعن طريق هذه المرايا والعدسات, المحدبة والمقعرة, تقدم صورة مكبرة ومصغرة, بل ومقلوبة, للواقع. وكلها صور تخيلية مشوهة توظف أهدافا استراتيجية أكثر تشوهها. ولأنها تحمل بعض ملامح من الصورة الواقعية, ينخدع البعض ويقبلونها, دون ادراك تشوهها. فصورة أمريكا تتضخم, بحيث تبدو مسيطرة بشكل كامل علي الكوكب, والمجموعة الشمسية لو أمكن. وصورة المسلمين والعرب كلهم تشوه, بحيث يصيرون جماعة من الارهابيين المحتلين. وصورة مصر تتقزم, بحيث تبدو ضئيلة الأثر. والحقيقة أن أمريكا كبيرة فعلا بما تقدمه من نموذج للتعددية والديناميكية والانجازات العلمية والتكنولوجية, وليس بغطرسة القوة والهيمنة الامبراطورية. والمسلمون والعرب من أكثر الأمم تطلعا إلي السلام والتنمية ومعاناة من الظلم والمعايير المزدوجة. وصورة مصر الحضارة أكبر أن تخضع للعبة المرايا والعدسات. ان ابناءها وحدهم رسموا وسيرسمون ملامحها, في ضوء التعامل الواعي والنوايا الصادقة مع الثوابت والمتغيرات. وهذا ما سنحاول توضيحه. وفي كلمات قليلة وحاسمة يمكن تحديد ثوابت الصورة المصرية, التي نثق فيها بشكل موضوعي غير عاطفي, هي: بعد حضاري غير قابل للمقارنة. امكانية تنموية غير قابلة للانكار. قوة عسكرية حاسمة غير قابلة للهزل. واقع جيواستراتيجي غير قابل للمساومة. قوة ثقافية ناعمة غير قابلة للتجاوز. وكما ذكرنا الثوابت, نحدد أهم المتغيرات التي يجب أن نتعامل معها, وهي: الطفرة النفطية في بعض الدول الشقيقة, وآثارها السياسية والاقتصادية والثقافية. تنامي دور بعض الأطراف الاقليمية في المنطقة( تركيا وايران). الدعم المتعمد لبعض الأطراف الصغيرة, مع توهم تأثير ذلك علي الدور المصري. ضوضاء الاعلام المعولم وتأثيره علي المصريين والعرب. الحاجة الملحة, دون ذوبان أو عزلة, فكلاهما ضار ومستحيل. هذا التكيف يشمل كل الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية, ويستوجب ادارة عالية الكفاءة للتغيير والتطوير. والخلاصة, أن صورة المستقبل التي يجب أن يحدد المصريون ملامحها, حتي لا يتصور أحد أنه قادر علي أن يحددها لنا, تستند علي ثلاث ركائز: الاول: العمل فورا علي صياغة عقد مجتمعي جديد يدعم شعورنا بالمواطنة الكاملة. ونتفق فيه علي الأهداف الوطنية, ونسمح بأكبر قدر من الاجتهاد والتعددية والحوار حول أساليب تحقيقها. الثاني: نقلة نوعية في الحالة البشرية للمصريين, في مختلف المجالات الأساسية كالتعليم والصحة والبحث العلمي والاسكان والبيئة, في اطار تصور ناضج للتنمية الشاملة والمستدامة. والعمل علي تكوين وتنمية الكتلة الحرجة القادرة علي احداث هذه النقلة النوعية في مختلف المجالات, في فترة زمنية معقولة. الثالث: وأخيرا رؤية استراتيجية واضحة لمصر التي نتمناها, نتمكن في ضوئها من صياغة خريطة الطريق التي تحققها.