كتبت - راوية الصاوي: يشرح الدكتورمحمد الشحات الجندي أمين عام المجلس الأعلي للشئون الإسلامية انه لا يستقيم أمر الفرد ولا حياة الجماعة, ولا يتحقق عمران الكون إلا بتشغيل المال واستثماره" هو انشأكم في الأرض واستعمركم فيها" "هود16", بمعني أن القرآن طلب من الناس عمارة الأرض, والعمل علي تنميتها, يقول القرطبي: استعمركم أي جعلكم عمارها وسكانها, وأمدكم بما تحتاجون إليه من بناء وسكن وغرس أشجار, وقيل المعني: أمدكم ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار وغيرها ويقول الزمخشري: استعمركم فيها, أمركم بالعمارة والعمارة متنوعة إلي واجب وندب ومباح. وسبيل بلوغ ذلك توظيف المال واستثماره في الأنشطة وأوجه الاستثمار الجائزة شرعا وفي ظل الأوضاع الراهنة فإن تشغيل النقود وتنمية المال في مناشط الحياة المختلفة واجب شرعي وتكليف ديني لا يجوز تعطيله ولا التقاعس عنه. هذا الموقف الإيجابي والبناء يؤثم كنز المال, وتداول النقود, لأن في ذلك الكنز أو التعطيل عن التداول والتعامل في المال, ترك واجب شرعي, وإخلال بمطلب اقتصاديواجتماعي, حذرت منه النصوص وأدانت الواقع فيه ممن يبخلون بالمال, ويحرصون علي كنزه في البيوت وتحت أبصارهم وفي حيازتهم, يقول تعاليس هب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم التوبة الآية43. ويبين القرآن قسوة هذا العذاب وشدته, وتحويل هذه النعمة والعطية إلي بلية وشقاء بكنز المال والنقود بقوله: يوم يحمي عليها في نار جهنم فتكوي بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون التوبة الآية.53 وليس أقسي علي النفس من أن يكون الذهب والفضة وهما أصل العملات وعلي شاكلتهما النقود الحديثة, مصدر النقود والأثمان, ومكمن القوة والتفاخر والتباهيفي دنيا البشر أن تكون مصدر بؤس وشقاء وتعاسة, نتيجة الكنز والبخل والعيش في رعب وخوف من أن يفقده المكتنز له, لأنه شغله الشاغل وهمه بالليل والنهار, لا يفارقه في صباحه وممساه, فهو مهووس به مالك عليه أمره كله, كأنه يعبده من دون الله تعالي. ثم فوق ذلك, ينال من اكتنزها, وحبسها عن التداول والاستثمار, أشد العذاب, وأقصي العقاب بأن يحرق بها صاحبها في وجهه وجبهته التي يطالع بها الناس وفي جنبه وظهره وهما مستودع أجهزة الجسم الإنساني وبها كيانه كله, وبهما كان خلقه في أحسن تقويم, إن في هذا لبلاغ مبين. فإذا علم المكتنز البخيل أن الله نهي عن الإحراق للإنسان في الدنيا تكريما له وتقديرا, أيقن أن هذا العذاب الشديد علي هذه الصورة الشنيعة, إنما كانت جزاء وفاقا وعقابا مستحقا علي جرم عظيم هو حرمان الأهل والأقارب والمستحقين فيه والمجتمع بأسره من ثمرات هذا المال بإنفاقه وتشغيله فيالمناشط الحياتية المختلفة وما أكثرها وأيسرها في هذه الأيام. وقد اهتم المسلمون حاكمين ومحكومين بتوظيف الأموال, التزاما بالأوامر التيجاءت بها النصوص في القرآن مما ذكرناه, وفي السنة في مثل قول الرسول صلوات الله عليه ألا من ولي يتيما له مال, فليتجر فيه ولا يتركه حتي لا تأكله الصدقة. وسار علي هذا الدرب الصحابة والخلفاء عندما تولوا مسئولية الدولة, فقد روي عن عمر أنه قال: من كان له مال فليصلحه, ومن كانت له أرض فليعمرها, فيوشك أن يأتي من لا يعطي إلا من أحب. وظل الفقهاء والأمراء يقتفون هذا المسار, فقد جاء في رسالة طاهر بن الحسين لابنه عبد الله لما ولاه الخليفة المأمون أميرا علي مصر كتب له: ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تدخر وتكنز البر والتقوي, واستصلاح الرعية وعمارة بلادهم والتفقد لأمورهم والحفظ لدمائهم والإغاثة لملهوفهم. واعلم أن الأموال إذا اكتنزت وادخرت لاتنمو, وإذا كانت في صلاح الرعية وإعطاء حقوقهم, وكف الأذية عنهم نمت وزكت وصلحت به العامة وترتبت به الولاية, وطاب به الزمان, واعتقد فيه العز والمنعة, فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله.. وتعهد ما يصلح أمورهم ومعايشهم, فإنك إذا فعلت ذلك قرت النعمة لك, واستوجبت المزيد من الله تعالي. وهذا قول فصل يلخص فلسفة الإسلام في النهي عن الكنز ووجوب استثمار المال.