تتفق أجهزة الأمن في معظم دول العالم في عدد من السمات المشتركة. منها حاجتها لتمرير بعض العمليات القذرة عن عمد أو غض الطرف عنها, لتحقيق مجموعة من الأهداف السياسية وإرسال جملة من الإشارات الأمنية وتغيير وجهة بعض التطورات المحلية الساخنة وجس نبض بعض الدوائر الخارجية. ما حدث في منطقة إيلات يوم الخميس الماضي مليء بالدروس علي مستويات مختلفة. لكن أهم عبره أنه يذكرنا بأسلوب حبيب العادلي وزير الداخلية الأسبق, الذي ترددت معلومات قوية حول استثماره لبعض الأحداث الإرهابية التي وقعت في بعض المدن المصرية لمزيد من فرض سطوته وتوسيع صلاحياته الأمنية. وفي أحيان أخري قيل أنه سمح بتمرير بعض العمليات عن قصد للفت الأنظار بعيدا عن قضايا جوهرية تمس حياة المواطنين. وعلي طريقة العادلي يبدو أن الحكومة الإسرائيلية حاولت الهروب من مواجهة بعض الملفات العاجلة وتوصيل عدة رسائل لمن يهمه الأمر وسعت إلي توظيف حادث إيلات بصورة متقنة. ويمكن رصد سلسلة من الشواهد الأمنية التي تؤكد أن هناك فوائد متباينة حققتها عملية إيلات لحكومة نتانياهو, حتي بدا أن حدوث هذه العملية في الوقت الراهن حاجة سياسية ومطلب رسمي. تعد هجمات إيلات التي أدت لسقوط35 إسرائيليا بين قتيل وجريح, غاية في الجرأة الأمنية وعملية نوعية قامت بها المقاومة الفلسطينية. لأنها حدثت في منطقة حيوية وألحقت الأذي بمؤسسة عسكرية, تتغني دائما بقدرتها التسليحية وخبرتها في صد الهجمات الفدائية. وكشفت عن عمق الخلاف داخل الدوائر الأمنية في إسرائيل. فقد كان من الممكن تجنب وقوع العملية. لو أن هناك انسجاما بين المستويات العسكرية. حيث اعترف الجيش الإسرائيلي أنه تلقي إخطارا قبل أسبوعين من جهاز الأمن العام( الشاباك) أشار إلي الإعداد والتجهيز لهجوم كبير. وأكد الشاباك أنه قام بتزويد الجيش بمعلومات دقيقة عن العملية وحول الخلية التي وصلت إلي ميناء إيلات من غزة. وقبل ساعات من وقوع الهجمات مررت السلطات الأردنية تحذيرا أمنيا لإسرائيل بشأن رصد خلية لتنفيذ هجوم مسلح داخلها. وإذا وضعنا هذه المعلومات التي نشرتها وسائل إعلام إسرائيلية متنوعة جنبا إلي جنب النفي القاطع حول استخدام أراضي سيناء قبل أو أثناء أو حتي بعد تنفيذ العملية, يمكن الخروج بعدد مهم من الاستنتاجات, ربما تفسر لنا جانبا خفيا من التصرفات الإسرائيلية. الواضح أن الهجمات أثرت سلبا علي الحركة الاحتجاجية ضد رئيس الوزراء بنيامين نيتانياهو, والتي وصلت خلال الأيام الماضية إلي ذروتها في الضغط علي حكومته. وأوحت مشاهد المظاهرات والاعتصامات التي انتشرت في عدد من المدن الإسرائيلية بأن الرجل علي وشك السقوط. وأصبح الليكود الذي يقوده في مأزق بين حساباته الحكومية وتقديراته الحزبية. وجاءت هجمات إيلات التي استمرت قرابة الساعة والنصف وقت الظهيرة واستؤنفت ليلا لتلقي بظلالها القاتمة علي حركة الإحتجاجات. وطغت الهواجس الأمنية علي أي مطالب اقتصادية أو اجتماعية. من هنا ذهبت بعض الترجيحات إلي حد القول أن عملية إيلات كانت بمثابة طوق نجاة لنيتانياهو وحكومته ومن خلفه عدد من كبار قيادات الأجهزة الأمنية. كما أن الإصرار علي التركيز علي البعد الخارجي, سواء باتجاه مصر أو غزة, كان بهدف تخفيف وطأة المظاهرات الداخلية والحفاظ علي تماسك حكومة الوحدة الوطنية. الواقع أن إسرائيل كانت بحاجة إلي اختبار عملي لمعرفة النوايا المصرية بعد ثورة يناير. فرغم التطمينات المختلفة التي تلقتها بخصوص حفاظ مؤسسات مصر الرسمية علي الثوابت الإستراتيجية تجاه إسرائيل, إلا أن الأخيرة لم تكن مرتاحة لبعض الإشارات والتلميحات الشعبية, والتي صبت جميعها في زاوية ضرورة تغيير معادلة العلاقات معها وتصويب أوجه الخلل التي نتجت عن بعض التصورات والتصرفات التي قامت بها حكومات مصرية سابقة. وسواء كان اغتيال عدد من أفراد الأمن في سيناء مقصودا أو غير مقصود, فهو في النهاية أدي إلي التعرف علي رد الفعل الرسمي والشعبي. وإذا كان الأول اتسم بقدر من التريث, والحذر الذي وصل إلي حد الارتباك, فإن المظاهرات التي خرجت أمام السفارة الاسرائيلية وفي عدة مدن مصرية أكدت أن أي تجاوز من جانب إسرائيل سيواجه بأدوات ردع مختلفة. الأمر الذي جعل تل أبيب تأسف ثم تعتذر وتسعي إلي احتواء الموقف بطرق دبلوماسية مختلفة. لأنها فهمت الرسائل التي جاءتها من جهات مصرية متعددة, والتي تؤكد حصيلتها أن التصعيد سيؤدي إلي إصابة إسرائيل بأضرار أمنية وسياسية خطيرة. في وقت أصبحت فيه البيئة الإقليمية( عربية وغير عربية) مهيأة لاتخاذ مواقف حاسمة من الانتهاكات الإسرائيلية. من جهة ثانية, اتخذت الحكومة الإسرائيلية من عملية إيلات ذريعة لاغتيال عدد من قيادات المقاومة الشعبية البارزة في غزة. وتجاهلت نفي الناطق بإسمها هناك مسئولية لجان المقاومة عن الهجمات. كما أن حركتي حماس والجهاد لم تعلنا أي مسئولية عنها. وهو ما يعني تعدد الجبهات التي تقاوم إسرائيل. وقد عمدت قوات الاحتلال إلي اتخاذ هذه العملية مبررا لتكرار النيل من النشطاء الفلسطينيين, بصرف النظر عن دورهم في الهجمات, للتأكيد علي أن حكومة نيتانياهو تواجه مجموعة كبيرة من التحديات, هي التي تجبرها علي عدم تلبية المطالب الاقتصادية للإسرائيليين. علاوة علي أن الهجوم علي غزة الذي أعقب العملية مباشرة أدي إلي استنفار جيوب المقاومة في القطاع وقيامها بالرد وقصف بعض البلدات الإسرائيلية. وهو ما يفضي في النهاية إلي مزيد من التوتر في المنطقة. توتر قد يمنح إسرائيل مبررات للرد بقسوة. وبالتالي تضغي المشاكل الخارجية علي نظيرتها المحلية. وتتراجع فرص المحاسبة السياسية وتخمد نيران المساءلة القانونية حول أي إخفاقات اقتصادية أو اجتماعية. وقد نجح العادلي من قبل في تنفيذ مخططاته لفترة زمنية, لكن نهايته كشفت عن كل أخطائه الأمنية. سواء كانت هجمات إيلات نجمت عن تقاعس أمني أو عجز مخابراتي. ففي الحالتين نحن أمام حكومة إسرائيلية تري مصلحتها في زيادة التوتر في المنطقة, باعتباره الباب المنقذ لها من كثير من المشكلات الداخلية. وهو ما يتفق مع رغبة بعض الجهات العربية التي تواجه مآزق سياسية, ربما تحاول الهروب منها عبر اللجوء إلي تسخين الجبهة الإسرائيلية. المزيد من مقالات محمد ابوالفضل