نحن في هذه الأيام نستقبل ضيفا عزيزا علينا ألا وهو شهر رمضان الذي شرفنا الله عز وجل فيه بنزول القرآن حيث قال سبحانه: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ...} [البقرة: 185]، وللأسف الشديد يحزنني كثيرا أن أرى الناس متكالبة متلهفة على شراء وتخزين الطعام والشراب وكأن هذا الشهر جاء للإسراف والتبذير!! فربنا جل وعلا قال: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ ي مجتمعاتنا استهلاكية!! لا شك أن غالبية مجتمعاتنا المسلمة صارت مجتمعات استهلاكية تصارع تحديات الاستهلاك بل وتضطرها إلى التخلي عن الكثير من تطلعاتها ورغباتها دوليا وإستراتيجيا وأخلاقيا أيضا، بل والتخلي عن كرامتها أحيانا كثيرة!! ولا شك أن الفقراء لديهم الميل الحدي للاستهلاك مرتفع، وبالعكس فهو منخفض لدى الأغنياء، فما إن يحصل الشخص الفقير على جزء من المال حتى يبادر ويسارع إلى إشباع كل حاجة كانت تلح عليه، فلا يبقى لديه من المال شيء، ففي الغالب تكون احتياجاته أكثر بكثير من موارده، والمسألة نسبية، فالغني أيضا تكون احتياجاته أكثر من موارده، ولكن بشكل أقل من احتياجات الفقير لذلك ترى ما هي التحديات التي تواجهها تلك المجتمعات المسلمة؟ الثورة التكنولوجية الهائلة لقد أتاحت الثورة التكنولوجية لجميع بني البشر ما لم يكن يطمح إليه أحد من قبل؛ وهو ما دفع الفقراء إلى الاستمتاع بما كان يستمتع به الغني، وبالتالي تفاقمت مشكلة التقليد والمحاكاة، ومحاولة حصول الفقير على التكنولوجيا الحديثة ليشبع بها النقص في حياته، فقد ترى أن فقيرا يمتلك وسائل التكنولوجيا الحديثة ويحصل عليها وهي ليست من الضروريات بل من الكماليات أو الحاجيات، قبل أن يحصل على الغذاء والكساء والمسكن التي هي من ضروريات الحياة، نرى البواب معها هاتف محمول وكذلك الساعي بل ربما يلجأ بعضهم إلى امتلاك أحدث الموديلات كي يشعر بالتفوق على الآخرين. إغراء الدعاية والإعلان لقد برع المنتجون والمروجون للسلع بالمشاركة مع أصحاب شركات الدعاية والإعلان في ترويج السلع والخدمات، وتزيينها للناس سواء كانوا محتاجين إليها أم لا، وذلك عن طريق الدعايات والإعلانات التجارية التي تعرض أمام الناس في كل زاوية وركن، في طريقه، وفي الصحف والمجلات، وفي المحطات الإذاعية والمرئية، وعلى شاشات الفضائيات؛ حيث برع أصحاب شركات الدعاية والإعلان في ترويج تلك السلع والخدمات وتزيينها للناس عن طريق الدعايات والإعلانات التجارية التي تعرض على شاشات الفضائيات ومحطات التلفزة، والتي يقوم بإعدادها مختصون بارعون في الموسيقى والإخراج الفني والعروض المغرية، مستغلين المرأة في ذلك، ونتيجة لذلك أتقن كثير من أبناء المسلمين ثقافة الاستهلاك؛ فهاهم يتباهون في اختيار أنواع وأشكال أجهزة الجوال، والستالايت والريسفير والسيارات وماركات الملابس العالمية؛ وهو ما يدفع الناس إلى الاستهلاك، ولو لم يكونوا بحاجة ملحة إلى ذلك النوع الذي يروج له، ولكن كثرة العرض والدعاية ترسخ في ذهن المستهلك أهمية السلعة أو الخدمة، فيقدم على شرائها. الاستدانة رضوخا للثورة التكنولوجية قد يضطر رب الأسرة الفقير للاستدانة نظرا لما يتعرض له من ضغوط من شتى أفراد أسرته الذين هيمنت على عقولهم ورغباتهم إمكانات الميديا الحديثة وأصبحت تتحكم حتى في رغباتهم ومتطلباتهم. وكذلك أصبح الرجل العادي -بفضل الثورة الإعلامية الناجمة عن ثورة الاتصالات والمواصلات والتكنولوجيا- يتطلع إلى التقدم والحصول على المنتجات الجديدة والأدوات والخدمات والسلع والأطعمة الجديدة؛ ونظرا لانتشار أطعمة ومشروبات وسلع عالمية أمكن نشر الكثير من عادات الأكل والشرب واللباس الخاصة بكل شعب وأمة، ولقد أدى تفكك الاتحاد السوفييتي إلى أن يسارع الناس إلى مطاعم ماكدونالدز وكنتاكي ويقبلوا عليها كي يتناولوا المشويات ويشربوا المشروبات الغازية. الإنتاج المغري لقد ازداد أمر الاستهلاك سوءًا عندما دخل القمار في عمليات الاستهلاك، من خلال السحب على المنتجات المشتراة، ومن خلال الجوائز اليومية في المسابقات، وكذلك الجوائز الأسبوعية، والجوائز الكبرى الشهرية... إلخ. ويظهر الغرر والتكالب على الشراء عندما يكون الدافع لشراء السلعة أو الخدمة هو الحصول على قسيمة الاشتراك في السحب أكثر من إرادة الاستفادة من السلعة المباعة أو الخدمة المتاحة بصرف النظر عن وجود الحاجة لتلك السلعة أو لا، ويكون الداعي لمن يدخل السحب هو الحصول على المال من غير وجه حق وبطريق الغرر الناجم عن الكسب في مسابقات السحب وغيره. التقليد وتبعية الغير لا ينكر أحد أثر ظاهرة تقليد المغلوب للغالب والفقير للغني وانبهاره به، وهي أمور غريزية ذكرها علماء الاجتماع في كتبهم ومؤلفاتهم، فقد أشار ابن خلدون –رحمه الله- إليها في مقدمته، إذ يقول: "إن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، والسبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه؛ إما لنظره بالكمال بما وفر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتصل لها اعتقادا فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به، وذلك هو الاقتداء، أو لما تراه -والله أعلم- من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس، وإنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب". لا بد من الاعتماد على النفس لا بد للمسلمين من التمسك بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وعدم اتباع أنماط الاستهلاك الغربية البعيدة كلية عن العادات والتقاليد الإسلامية. لقد دعا معظم فقهاء المسلمين ودعاتهم إلى ضرورة أن يقوم المسلمون بأنفسهم، واعتبروا تعلم كل ما هو نافع وضروري للمسلمين فرض كفاية، إذا لم يقم به البعض أصبح واجبا على الكل. إن الأمر يصبح خطيرا جدا عندما يعتمد المسلمون على غيرهم في كل شيء.. في استيراد لقمة الخبز والدواء والكساء وكافة المستلزمات الحياتية حتى فوانيس رمضان صارت تأتي من الصين!!. إن استيراد القمح والكساء والدواء من دول معادية للمسلمين معناه أن تكون رقاب المسلمين بقبضة أعدائهم يتحكمون فيها كيفما شاءوا.. ولذلك يجب أن يحرروا رقابهم بالامتناع عن استهلاك أي سلعة أو خدمة من دولة معادية للمسلمين أو لقضاياهم أو استبدال تلك السلعة بمثيلاتها.. وبدلا من ذلك لا بد من السعي نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي وتحقيق التكامل الاقتصادي، وتفعيل السوق الإسلامية المشتركة. خطورة السلعة المستوردة إن الدراسات والبحوث أثبتت أن هناك مقاييس ومواصفات للسلع المصدرة لدول العالم الثالث لا تقبل بها الدول المتقدمة!!.. وبطبيعة الحال فهي أقل بكثير من معايير ومواصفات الجودة المطبقة في الدول الغربية.. كما أن كثيرا من الأغذية لا تصلح للاستهلاك البشري.. ومن هنا يجب أن يتنبه المسلمون لهذه المخاطر.. ويعملوا على زيادة الوعي والتثقيف الصحي بخطورة استهلاك هذه الأغذية. المزيد من مقالات جمال عبد الناصر