في تاريخ الفنون التشكيلية الحديثة, وفي النحت خاصة, ثمة أسماء طورت هذا الفن علي أنحاء شتي, منهم المثال الفرنسي أوجست رودان(0481 7191), والبريطاني هنري مور(1898-1986), وكونستانتين برانكوزيBrancuse(1876-1957), وهو من أصل روماني لكنه عاش معظم حياته في باريس, ومعه نقف قليلا هنا, ففي مدينة كرايوفا في رومانيا كان برانكوزي يتابع علي نحو غير منتظم محاضرات في الفن في مدرسة الفنون والحرف هناك, ثم درس النحت بعد ذلك في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة, ثم ارتحل إلي باريس عام1904, حيث واصل دراسته لفنون النحت في مدرسة الفنون الجميلة هناك, وفي عام1907 التقي أوجست رودان أشهر نحاتي فرنسا وصاحب تمثال المفكر الشهير وعمل معه لشهر واحد ثم تركه, وألح عليه رودان أن يعود ويعمل معه, ويستفيد من التيسيرات التي سيوفرها له والشهرة, لكن برانكوزي رفض العودة للعمل مع رودان, وقال إن الشهر الذي عمل فيه مساعدا له كان شهرا مهما بالنسبة إليه, فقد ساعده علي تطوير حساسيته الجمالية, ثم قال قولته الشهيرة التي اتخذتها عنوانا لهذا المقال ولكن.. لا شيء ينمو في ظل الأشجار الكبيرة. لقد عرف برانكوزي أن رودان سيظل يلقي بظلال فنه وشهرته عليه, وأن هذه الظلال ستحجب نوره الخاص عن السطوع. هكذا قرر برانكوزي أن يعتبر رودان شجرة كبيرة; ومن ثم قرر أن يغادرها ويزرع شجرته الخاصة, وهكذا أسس اتجاهه الخاص الذي يقوم علي أساس النحت المباشر والحذف والتجريد, وليس الإضافة والتجسيد والتمثيل للأشكال والانفعالات الإنسانية كما فعل رودان. وعبر تطوير إحساسه الخاص بالكتلة والفراغ, وتحديده التعريفات التقليدية للفن, واستخدامه مصادر غير غريبة مستمدة من فنون إفريقيا وآسيا, أصبح برانكوزي أحد رواد فن النحت الحديث, كما أنه مهد الطريق لكثير من الفنانين والتيارات الفنية التي جاءت بعده, ومن خلال استخدامه للرخام والحجر والبرونز والخشب وغيرها, كون برانكوزي تماثيل تجسد الجوهر الحقيقي للأشياء, الجوهر المخبوء خلف التفاصيل والمظهر, وكان يقول لمن يشاهد أعماله: لا تبحث عن أسرار أو غموض في أعمالي, ما أحاول تقديمه لك هو البهجة الخالصة, انظر إلي منحوتاتي حتي تري تلك البهجة, إنه أمر وضعه الله فينا, وأمرنا بالبحث عنه. ونتذكر مقولة برانكوزي هذه ونحن نتأمل الصراع الذي تدور رحاه الآن بين بقايا نظام قديم سقط, أو يسقط, ونظام جديد يقوم بين أشجار قديمة توشك أن تموت, وأشجار جديدة تخرج من باطن الأرض وتنمو, تتبرعم, وتتفتح, وتورق, وتثمر, الأشجار القديمة لا تزال تلقي بظلالها, لكن لا شيء يمكن أن ينمو في ظلها. ليست الأشجار الكبيرة القديمة هي أشجار النظام السابق فقط; بل أشجار الأفكار السابقة أيضا, الأفكار الجامدة, القوالب النمطية الميتة في التفكير والسلوك, لا شيء يمكن أن ينمو في ظلها مهما حاولنا أن نعيد إليها مياه التفسير والتأويل والتغيير, ونرويها بها. الماضي انتهي, والتاريخ لا يكرر نفسه, والمستقبل أفق منفتح علي الكون, لا تجعلوه نسخة من الماضي, فلا شيء سينمو في ظله. كنا نجد ولا نزال توريث المهن في الطب والجامعة والسياسة وغيرها- من الآباء إلي الأبناء, وربما الأحفاد, ولكننا كنا نلاحظ دائما أن نمو الأبناء وبراعتهم ليسا مثل نمو الآباء وشهرتهم, كان الآباء أشجارا كبيرة منعت نمو الأشجار الصغيرة, جعلتها نباتات ضعيفة, وحشائش ضارة. النسق الاجتماعي والتربوي والإبداعي الذي يتيح الفرصة لجميع الأشجار أن تنمو وتلقي بظلالها وثمارها وتصبح كبيرة, هو ما نتمناه ونسعي إليه, أما مجتمع الأشجار الكبيرة, أشجار أفكار الماضي الكبيرة, أصولية كانت أو فلولية, وكذلك شخصياته, فلا يمكن أن ينمو شيء في ظلها, الأشجار الكبيرة ميتة أو توشك علي الموت, هي مجرد ظلال, أشباح, فحم, رموز, أضرحة, أماكن للراحة والتذكر, لكنها تثير الخوف, وترتبط بالموت, لأنها لن تتجدد, ولن تورق, ولن تثمر, ولن تهتز فروعها حتي مع تجدد النسائم, وهبوب الرياح; لأنها كفت عن النمو, ولم تعد قادرة علي مساعدة أي شيء أو إنسان كي ينمو في ظلها. وهذا لا يقلل من أهمية الحكمة المختزنة, ولا الخبرة المشعة, بل أنوه بما يعرفه الجميع بأنه قد تم إقصاء والقضاء علي الجيلين الثاني والثالث في كثير من مؤسسات الدولة ومواقعها تحت ذلك الاسم, ذلك الغطاء الخاص بأهل الخبرة والحكمة والثقة والقدرة, حيث لم ينم شيء في ظل تلك الأفكار أقصد الأشجار القديمة. لا نريد ماضيا يحل مكان الحاضر ويستولي علي المستقبل, ولا خبرة متكررة تستبعد الأفكار الإبداعية الجديدة والمفيدة, وليست المسألة هنا مسألة عمر صغير أو كبير فقط, بل مسألة تتعلق بالاتجاهات والميول والقيم والتفضيلات بحركية الإبداع, وروح الفرق, ونداءات المستقبل. يظل الشاب في مصر يتعلم ثم يسعي في الحياة, آملا أن يشبع حاجاته الضرورية حتي يصل إلي سن الأربعين أو بعدها, وقد ينجح في ذلك أو يفشل, وخلال ذلك كله تتبدد طاقاته الإبداعية, بسبب ذلك الفساد الذي ران علي مصر عقودا عدة. كيف سنبني مصر بكل تلك الأفكار القديمة؟ كيف سنحارب حروب اليوم الثقافية والعلمية والاجتماعية بأسلحة الأمس. لا شيء ينمو في ظل الأشجار الكبيرة... لا شيء ينمو في الظلال.... المزيد من مقالات د.شاكر عبد الحميد