تحرص الأمم كل الحرص علي التمسك بمقوماتها, وثوابتها من خلال مؤسساتها التربوية, ومناهجها الدراسية, تلك المقومات المتعلقة بعقيدتها وفكرها وفلسفتها وخصائص مجتمعها, فهي أساس وجودها ودليل أصالتها ورمز هويتها, وعلامات تميزها عن غيرها من الأمم. لذلك تحرص الدول علي قومية النظم التعليمية وقومية مناهجها, وهذا يعني أن وجود أي نظام تعليمي أجنبي قد يمثل تهديدا صريحا لمقومات وثوابت المجتمع, ومن هذا المنطلق كان رفضي وكثير من التربويين انتشار المدارس التي تتبني مناهج أجنبية في مصر, ولقد أشرت في مقالات سابقة إلي كيف ظهرت هذه المدارس, وأسباب انتشارها, وعلي حد علمي أن وزارة التربية والتعليم تملك ملفا كاملا عن هذه المدارس, ولكن ما قرأته منذ أيام من تصريحات لوزير التربية والتعليم, عن أن الوزارة تجهز لإصدار قرار وزاري متعلق بالمدارس الدولية, وأن هذا القرار لايتعدي وضع ضوابط علي المصروفات, بالاضافة الي تدريس اللغة العربية والدراسات الاجتماعية.. تعجبت كثيرا!! كيف لايعلم سيادة الوزير أن هناك قرارا صدر منذ عام 2006 بتدريس اللغة العربية, والدراسات الاجتماعية بالمدارس الدولية, وأن هذه المواد تدرس بالفعل منذ صدور القرار الوزاري. والقضية ليست قضية تدريس اللغة العربية والدراسات الاجتماعية.. ولكن كيف يتم تدريسها؟.. فهي مواد لاتدخل في المجموع, ويرجع ذلك الي أن هذه المدارس تقوم بتدريس منهج أجنبي وتعتمد شهادتها من جهات أجنبية, فالمدارس الأمريكية علي سبيل المثال تتبع احدي هيئات الاعتماد الأمريكية, وبالتبعية لا يوجد معايير قياس أداء لمادة اللغة العربية أو الجغرافيا, أو التاريخ المصري لدي هذه الهيئات, ولذلك فهي لاتدخل ضمن مواد التقييم النهائي للطالب, ولا في المجموع أيضا.. وهذا يعني أن طلاب هذه المدارس يدرسون المواد العربية, كما يدرس طلاب الثانوية العامة التربية الوطنية. لنا أن نتخيل كيف ينظر هؤلاء الي هذه المواد..؟ كما أن موجهي المقررات العربية لديهم خطة متابعة لهذه المدارس, ولكن كيف تتم المتابعة؟ وكيف يتم الامتحان في هذه المواد..؟ ولن أدخل في تفاصيل مايتم في هذه المدارس, بل سوف اكتفي بعبارة قالها لي أحد المتابعين لهذه المدارس عندما سألته عما يحدث من تجاوزات سواء في المناهج الأجنبية التي تدرس أو المناهج العربية, فأجابني: كل مايمكن أن تتخيله من تجاوزات يحدث أضعافه. لنتخيل أيضا أثر ذلك علي الأطفال في مراحل التعليم الأساسي, لقد كانت هذه المدارس حتي وقت قريب تقتصر علي المرحلة الثانوية, ولكنها بدأت في التوسع لتشمل المرحلة الاعدادية ثم الابتدائية ورياض الأطفال, ولقد توقف منح التصاريح لهذه المدارس لفترة قصيرة, ثم عادت بشكل كبير هذه الأيام حتي إن أحد المدارس الأزهرية الخاصة, تفكر في فتح فصول دولية! لا أعرف ان كان ذلك نتيجة للتجاوزات التي تحدث في كثير من الأمور استغلالا لانشغال المجتمع بقضايا أخري أو بالمطالب الفئوية, أم انها السياسة الجديدة للوزارة؟ هذه هي القضية الأكثر خطورة, انتشار المدارس الأجنبية في مرحلة التعليم الأساسي.. فإذا كان هناك إتاحة لتعدد أنظمة في مرحلة التعليم الثانوي أو الجامعي فان انتشار هذه المدارس في مرحلة التعليم الأساسي يشكل خطورة علي وحدة النسيج الاجتماعي.. هذه المرحلة هي أهم مراحل التعليم المنوط بها إعداد المواطن وهي مرحلة قابلية تشكيل الطفل حسب الصورة التي يقدمها المجتمع له.. ومن هذا المنطلق كنت أتصور, ونحن علي أعتاب مرحلة جديدة بعد الثورة ان يصدر سيادة الوزير قرارا باقتصار هذه المدارس علي المرحلة الثانوية فقط, وأن تخضع الجهة التي تعطي تصاريح لهذه المدارس لرقابة صارمة, حيث إنني حتي الآن, وبالرغم من قيامي بعدد كبير من البحوث عن التعليم الأجنبي منذ أكثر من عشر سنوات لم أنجح في التعرف علي القوانين التي بموجبها يتم إعطاء تصاريح لهذه المدارس.. وما هي المعايير التي تضعها الوزارة لافتتاح فصول للتعليم الدولي داخل بعض المدارس الخاصة؟.. وهل هناك لجان متخصصة لتقييم أداء هذه المدارس..؟.. وما مدي وعي القائمين علي إعطاء هذه التصاريح بطبيعة المدارس الأجنبية..؟.. أرجو أن ننظر الي التعليم علي أنه شأن آخر, ولانرضي أن تترك مثل هذه القرارات للموظفين كغيرها من الأمور الادارية الأخري. اذا كنا نسعي لنجاح ثورتنا والحفاظ عليها, فإن ذلك يبدأ من اصلاح منظومة التعليم, ولا يكون ذلك من خلال إضافة أو حذف بعض الدروس أو تغيير بعض القرارات, وإنما تكون بمواجهة كل التعديات التي نالت فئات الشعب المصري ومن أهمها طبقية التعليم. وأخيرا: أتوجه بسؤال للقائمين علي العملية التعليمية هل تدركون ان أي نظام تعليمي دخيل علي المجتمع, لابد أن يحدث خللا في المستقبل لايجدي فيه الاصلاح. هل يقف التربويون في مصر التي هز شبابها العالم عاجزين عن ايجاد نظام تعليمي يحقق لهذه الأمة أهدافها ويرسي مبادئها علي قواعد سليمة وأصول ثابتة راسخة, وينتج لنا أجيالا قادرة علي البحث عن الجديد النابع من تاريخهم وقيمهم ومبادئهم.. ان هذا ماتطبقه دول العالم حفاظا علي الهوية الثقافية لأجيال المستقبل.