حرب غريبة مباغتة لم أكن أتوقعها عايشتها منذ حللت بألمانيا في الرابع والعشرين من مايو الماضي, ولمدة10 أيام متتالية, طاردتني رحاها من خلال أجهزة الإعلام وفي المطاعم وأسواق الخضراوات في الأربع مدن الألمانية التي زرتها!! انها حرب الخيار أو السلاطة والتي أدت تداعياتها الي شرخ في العلاقات الاقتصادية بين مختلف دول الاتحاد الأوروبي, وبين ألمانيا وإسبانيا علي وجه الخصوص, ودخلت علي الخط روسيا التي أعلنت الحرب علي كل الخضراوات الأوروبية, وحظرت دخولها الأراضي الروسية, تحت ضغط جمعيات حماية المستهلك الروسية. أما رئيس الوزراء الإسباني ثباتيرو فقد طلب اعتذارا رسميا من الحكومة الألمانية بعد ثبوت براءة الخيار الإسباني من التهمة التي ألصقها به الإعلام الألماني وأضرت بسمعته, بل وطلب رد شرف مالي لمزارعي الخيار الإسبان وقدره200 مليون يورو بعد بوار زراعته وتجارته نتيجة لتلويث سمعته من قبل الألمان!!شرارة حرب الخيار الأوروبية انطلقت من هامبورج, تلك المدينة الجميلة في شمال ألمانيا, حيث توفيت امرأة عجوز نتيجة لمضاعفات إصابتها بجرثومة معوية دقيقة تسمي استريكيا إكولي أو آي. اتش. آي. سي وهي فصيلة من البكتريا تتعايش في أمعاء الإنسان والحيوان وتساعد علي الهضم, إلا أنها تحورت فجأة لتصبح شرسة تدمر كريات الدم الحمراء, وتؤدي الي تآكل جدار الأوعية الدموية الكلوية, مما يؤدي الي فشل كلوي مفاجيء وقد تصل سمومها الي الجهاز العصبي فتدمره أيضا, بينما أعراضها الأولية إسهال دموي وقيء شديد, حدث هذا يوم23 مايو الماضي بعد دخول هذه السيدة المستشفي يوم15 مايو طبقا لأجهزة الإعلام الألمانية, ولكن الأوضاع تفاقمت سريعا بعد زيادة أعداد المصابين بهذه الجرثومة في ولايات الشمال الألماني حتي بلغت الاصابات200 في يوم واحد في مدينة في ولاية شلفينج هولشتاين في أقصي شمال ألمانيا وعاصمتها مدينة كييل, وتوفيت امرأة أخري في هانوفر وثالثة في بريمن, وأجمع كل المصابين علي أنهم تناولوا الخيار والسلاطة وشعروا بعدها بالغثيان وأصيبوا بالإسهال الدموي مما حدا بالسلطات في ولايات الشمال الألماني لتحليل عينات من خضروات السلاطة في الأسواق والمطاعم, ويوم24 مايو ظهرت أجهزة الإعلام الألمانية تقريبا كلها بخبر أشعل نيران حرب الخيار مفاده أن الخيار الإسباني الذي تستهلكه ولايات الشمال هو السبب في الاصابات التي زادت علي ألف مريض و14ضحية, وعلي الفور قامت السلطات الألمانية بمطاردة كل الخيار الذي يحمل الجنسية الإسبانية في المتاجر وأسواق الخضراوات, بل والمطاعم أيضا وإعدامه علي الفور, وازدادت الأمور تعقيدا عندما توفيت امرأة سويدية بعد اصابتها بالمرض عقب عودتها من هامبورج الألمانية, وظهرت اصابات في انجلترا وهولندا والدنمارك والمجر والسويد, وأعلن المتحدث الرسمي باسم مفوض الصحة في الاتحاد الأوروبي جون ديلي إن كل المصابين في دول الاتحاد الأوروبي قد زاروا ألمانيا. أما مدينة فرانكفورت فكانت أول محطة لي في ألمانيا, وكنت مدعوا يوم25 مايو من قبل هيئة معارض فرانكفورت علي عشاء للإعلاميين والعارضين المشاركين في أكبر معرض لتكنولوجيا المنسوجات, وفوجئت في حفل العشاء الذي شارك فيه أكثر من3 آلاف, أن بوفيه السلاطة لا يجد إقبالا من أحد, والذي تعودت أن أري زحاما عليه, ولما سألت أحد الصحفيين الألمان عن السبب, قال لي إن19 شخصا في مدينة فرانكفورت أصيبوا أمس بمرض إي إكولاي بعد أن تناولوا أطباق السلطة الخضراء في مطعم احدي الشركات بالمدينة وقيل ان الخيار المستخدم يحمل الجنسية الإسبانية وجاء من ولايات الشمال الألماني. في اليوم التالي26 مايو, تركت مدينة فرانكفورت وتوجهت الي شتوتجارت أحد أهم مدن الجنوب الألماني البعيدة نسبيا عن حرب الخيار, إلا أنني فوجئت أن طبق السلاطة الخضراء الذي كان زينة المائدة الألمانية أصبح غير مرغوب فيه أيضا, فقد طلب المهندس إبراهيم سمك الألماني من أصل مصري وأحد رواد الطاقة الشمسية في أوروبا, من المطعم الشرقي الذي تناولنا فيه طعام الغذاء أن يستبدل السلاطة بفحلي بصل بالخل, من قبيل الاحتياط واجب. أما في مدينتي دوسلدروف وكولونيا وسط المانيا فقد ازداد الموقف سخونة في أجهزة الإعلام وفي الأسواق والمطاعم, عقب الإعلان عن اصابة12 لاعب جولف سويدي بالمرض بعد عودتهم من زيارة شمال ألمانيا, وصارت أخبار حرب الخيار تحتل صدارة النشرات الإخبارية في محطات التليفزيون الألمانية والصحف أيضا, وصار المحللون والمعلقون كما في مباريات كرة القدم نجوم أجهزة الإعلام, وبلغ عدد الوفيات أكثر من18 معظمهم من النساء, وزاد عدد المصابين الي أكثر من1500 في ألمانيا,20 منهم في العناية المركزة بعد اصابتهم بالمضاعفات الخطيرة, أما في الأسواق فقد اختفي الخيار تماما, أما بقية خضراوات السلاطة فلم تجد من يشتريها, إلا أن محلات الخضراوات المغربية في دوسلدروف التي يوجد بها جالية مغربية كبيرة فقد شهدت رواجا, حيث ان معظمها يأتي من المغرب, بينما حرصت المطاعم التركية المنتشرة في المدينة علي تأكيد أن كل ما تستخدمه وارد من تركيا ولا يمت بصلة لمنتجات الاتحاد الأوروبي!! مما زاد من اقبال الألمان عليها, ولكن عبدالله حسين العامل المصري في أحد المطاعم الكبيرة بدوسلدروف حاول أن يقنعني بأن الخضراوات التي لديهم ألمانية أي ليست إسبانية وأنها سليمة. وهكذا أصاب الركود تجارة الخضروات في ألمانيا بل وفي الاتحاد الأوروبي مما ترك أثرا سيئا علي المزارعين, وبعد كل هذا يوم29 مايو أعلنت ألمانيا براءة الخيار الإسباني, حيث لم يثبت بعد التحاليل إلا إصابة ثلاثة فقط من ثمار الخيار الاسباني بميكروب إي إكولاي. وفي محاولة للتهدئة ظهر علماء معهد روبرت كوخ علي أجهزة الإعلام الألمانية وهو أكبر معهد علمي في العالم في علم الميكروبات والطفيليات ويقترن باسم روبرت كوخ العالم الألماني مؤسس علم الميكروبات ومكتشف جرثومة الجمرة الخبيثة والسل وحصل علي جائزة نوبل عام1950 ليدعو الناس الي عدم الرعب من أكل الخضراوات وطبقا للمعهد فإن هذا المرض ليس جديدا علي ألمانيا لأنه يصاب به سنويا من800 1200 مريض سنويا, وينتقل من جرثومة من الحيوان الي النبات عن طريق الأسمدة العضوية أو المياه الملوثة ثم الي الانسان, ويمكن أن يوجد في لحوم الحيوانات وألبانها, ولكن خطورته هذا العام من سرعة انتشاره وتحوره الذي يؤدي الي مضاعفات خطيرة سريعة علي الكلي والجهاز العصبي, هذا ما أكده البروفيسور اينهار يورج مدير معهد روبرت كوخ, في تصريحات للصحافة, أما سوزانة شماخر احدي علماء المعهد فأضافت أن الخطورة تكمن أيضا في عدم وجود علاج للقضاء علي المرض ولكن كل ما يحدث هو التعامل مع المريض لتخفيف الأعراض وليس لعلاج السبب, فالأدوية التي تمنحها المستشفيات للمصابين هي محاليل لتعويض سوائل الجسم المفقودة عن طريق الاسهال الشديد والقيء, وإجراء غسيل كلوي لمن وصلت الجراثيم الي كليته, أما المضادات الحيوية فقد تزيد الطين بلة علي حد تعبيرها, لأنها تزيد من شراسة الجراثيم وافرازها لسمومها مما يودي بحياة المرضي, أو حتي حين تقتل المضادات الحيوية هذه الجراثيم فإنها تتراكم في الأوعية الدموية, وتصبح مواد سامة جديدة, وأوصت مواطنيها بضرورة عدم أكل الخضراوات غير المطبوخة جيدا, وكذلك اللحوم وغسل اليدين بعد استخدام المراحيض وغلي الألبان قبل تناولها, وتعقيم سكاكين قطع اللحوم!! وبرغم محاولات التهدئة الألمانية, إلا أن جرثومة أي إكولاي غير المرئية بالعين المجردة هزت ألمانيا كلها بلد روبرت كوخ مكتشف الجراثيم وتسببت في حرب الخيار بين ألمانيا وإسبانيا التي لاتزال تداعياتها مستمرة, خاصة أن اسبانيا, بعد براءة ساحة خيارها, تتهم ألمانيا بعدم مراعاة قواعد الاتحاد الأوروبي التي تفرض عدم تسريب معلومات عن المنتجات الزراعية للإعلام قبل مناقشتها من قبل المتخصصين في دول الاتحاد. كما أن معظم دول الاتحاد الأوروبي أصدرت تعليمات لمواطنيها بعدم زيارة ألمانيا حاليا. أما المؤشر الاقتصادي الخطير الذي نتج عن حرب الخيار, فهو بدء انهيار اقتصاد جديد في ألمانيا خاصة وأوروبا عموما, وهو الزراعات الحيوية التي تعتمد علي السماد العضوي الذي يدخل فيه غالبا مخلفات الحيوانات, ويسجل نموا كبيرا في ألمانيا,. كما يلقي تشجيعا من الحكومة والمواطنين.. فهل تعجل حرب الخيار بنهاية هذه الزراعات في ألمانيا كما عجلت أحداث مفاعل اليابان بنهاية محطات توليد الكهرباء النووية في ألمانيا؟ وهل تفتح التداعيات الجديدة بين ألمانياواسبانيا, وبين روسيا والاتحاد الأوروبي من ناحية أخري, ملف الدعم الزراعي في أوروبا وتحرير تجارة المنتجات الزراعية الذي كان سببا رئيسيا في فشل جولة الدوحة في إطار منظمة التجارة العالمية؟!