تشتيت الاهتمامات وتسميم الرأي العام هما من أهم أدوات الثورة المضادة في مصر هذه الأيام, والمثال الأوضح علي ذلك هو تصعيد قضية إصدار قانون موحد لبناء دور العبادةإلي قمة أولويات الحكومة. وأجندة الإعلام الرسمي وفي المسافة بين عملية التصعيد والأداء الإعلامي في هذا الموضوع يجري تسميم الرأي المصري وإشعاره بأن كل شيء معرض للانهيار مالم يصدر هذا القانون, باعتباره المفتاح السحري لحل مشاكل البلاد!ولنناقش المسألة بالمنطق والقانون وبمبادئ المصلحة وبمعيار المواطنة. بداية: ما الذي تحتاجه مصر الآن: أهي بحاجة إلي الأمن واسترداد ثقة المواطنين في القانون؟ أم هي بحاجة حياة أو موت لتنظيم بناء دور العبادة؟ أم أنها بحاجة إلي تنظيم وتدعيم بناء دور للتربية والتعليم وورش للتدريب والتأهيل والتصنيع؟.سؤالنا لايعني لاسمح الله أننا ضد بناء دور للعبادة, ولكنه يعني فقط إثارة التفكير في أيهما أولي بالرعاية الآن: الأمن أم بناء دور العبادة أم بناء دور العلم ومنشآت العمل؟ ما ألحظه هو أن العلاقة باتت طردية بين وقوع حادثة يكون النصاري طرفا فيها وبين المطالبة بصدور هذا القانون حتي لو كانت الحادثة لاصله لها من قريب أو من بعيد ببناء أو بهدم دار عبادة. هذه العلاقة الطردية باتت تثير الريبة. فأحداث إمبابة المؤسفة التي وقعت السبت7 مايو2011 كانت نتيجة مسألة خاصة بأحوال شخصية. وسرعان ماتصاعدت, وسارعت عدة جهات بترديد مطلب القانون الموحد لبناء دور العبادة بما فيها الحكومة المصرية. تماما كما حدث في كل المناسبات التي سبقت أحداث إمبابة الأخيرة, وكلها لاصلة لها بمسألة وبناء دور العبادة. لست ضد صدور قانون موحد لبناء دور العبادة, وأظن أن أغلبية المصريين( مسلمين ومسيحيين) سيوافقون علي صدوره إن كان سيحل المشكلة. وحتي لو كانت من المتفقين علي توقيت الحديث عنه أو إصداره الآن, فأتصور أنه لكي يكون فاعلا فإنه لابد ان يصدر وفق معيار واضح وميزان عادل. أما المعيار الواضح فهو المواطنة التي تعني المساواة التامة بين المصريين كافة في الواجبات والحقوق, وأيضا في تحمل المسئولية الاجتماعية. إذا أخذنا المواطنة بالمعني السابق معيارا تبني عليه مواد مشروع القانون الموحد, فميزان عدالتها في مسألة بناء دور العبادة سيكون فقط هو العدد والمساحة فلو قلنا مثلا إن الترخيص سيصدر لبناء دار عبادة بمساحة200 متر مربع, كلما توافر في المنطقة عشرة الآف مواطن من أتباع دين معين أكرر علي سبيل المثال علي ألا تكون هناك دار عبادة قائمة فعلا وتستوعبهم في نفس المنطقة وما عدا ذلك فلا تمنح تراخيص البناء. وفي جميع الحالات يجب ان يحدد نصيب المواطن/ الفرد بالتساوي من مساحة دار العبادة للمسلم وللمسيحي, بلازيادة أو نقصان, وألا يتجاوزها أي منهما إعمالا لمبدأ المواطنة وحتي نعالج مشهد المساجد يوم الجمعة وفي رمضان الذي يثير الأسي من ضيق مساحتها وعجزها عن استيعاب المصلين مما يدفعهم الي افتراش الشوارع المحيطة بالمساجد الي حد إغلاقها وتعطيل المرور فيها, بينما لاتعاني الكنائس في وضعها الراهن مثل هذه المشكلة. إن تطبيق معيار المواطنة هنا يعني بالضرورة أن تعلن الحكومة الإحصاءات الرسمية بأعداد كل من المسلمين والمسيحيين, وأن يقبل المسيحيون ذلك ولاتكون لديهم إحصاءات كنسية خاصة بهم, فالكل مواطنون في دولة مدنية واحدة يحكمها قانون واحد. وعلي السلطات الرسمية أن تقوم بتحديث هذه الإحصاءات دوريا كل سنة مثلا, وأن تعلنها وتكون معروفة للرأي العام وللجهات المسئولة عن إصدار تراخيص البناء. الخطوة الأولي هي ان يتم طرح مشروع القانون للنقاش المجتمعي العام لا أن يتم تدبيره بليل ثم نفاجأ به علي طريقة سلق القوانين في العهد السابق, وفي تقديري أن أهم المسائل التي يجب ان تتضمنها مواد القانون المقترح هي: 1 تعريف المقصود ب دار العبادة تعريفا جامعا مانعا. 2 تحديد معايير إعطاء ترخيص البناء علي سبيل الحصر. 3 تحديد الجهة الرسمية المسئولة عن إعطاء ترخيص البناء, وهل ستكون مركزية في العاصمة فقط أم تكون لها فروع في كل محافظة من محافظات الجمهورية؟ 4 تحديد مصدر تمويل بناء دار العبادة, وهل يجب ان يكن محليا فقط أم يكون أجنبيا أيضا؟ وإذا أجاز القانون تلقي أموالا أجنبية فكيف سيتم تنظيم تلقيها؟ وما الجهة المخولة بالموافقة أو عدم الموافقة علي تلقيها؟ وما الجهة المسئولة عن أعمال المراجعة والمحاسبة القانونية لهذه الأموال ؟ ولمن تقدم تقاريرها؟ وما الجزاءات التي يجب توقيعها عن وجود مخالفات؟ 5 أعمال الصيانة والترميم, يجب أن ينظمها القانون المقترح أيضا, وأن يحدد جهات الاختصاص ومصادر التمويل التي ستتكفل بتغطية نفقات هذه الأعمال. 6 أن يربط قانون البناء الموحد عملية بناء دور العبادة بنظام الأوقاف: لأنها هي الصيغة القانونية الأساسية لتمويل البناء وصيانته تمويلا وطنيا خالصا. فينص القانون علي توحيد نظام إدارة الأوقاف تحت هيئة مصرية واحدة, بدلا من الوضع المقسم حاليا الي قسمين: قسم للأوقاف المسيحية وتختص به هيئة الأوقاف القبطية بموجب قانون264 لسنة1960 الذي خولها إدارة أوقاف الكنائس والأديرة واستثناها من احكام المصادرات والتأميمات في الستينيات من القرن الماضي, وحافظ عليها للكنائس, والقسم الثاني تختص به هيئة الأوقاف المصرية بموجب القانون80 لسنة1971 الذي خولها مهمة استرداد أوقاف المساجد وغيرها من الأوقاف الخيرية التي كانت قد صودرت ووزعت بموجب قوانين التأميمات وقوانين الإصلاح الزراعي في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي, ولم تتمكن هذه الهيئة حتي اليوم إلا من استرداد مايساوي سدس الأصول الموقوفة والباقي تم نهبه. هذا الوضع الشائن الذي تحياه الأوقاف المصرية إسلامية ومسيحية يتناقض تناقضا جذريا مع مبدأ المواطنة, وينعكس سلبيا علي بناء وصيانة دور العبادة ويؤسس لانقسام طائفي خطير لايتسق مع منطق الدولة المدنية ولامع مبدأ المواطنة, ولايجوز السكوت علي هذا التمييز المشين والمتحيز ضد أوقاف المساجد ولصالح أوقاف الكنائس. ومواد القانون الموحد المقترح لبناء دور العبادة يجب ان تعالج هذه المشكلة, وإلا فإنه سيكون مدخلا لزيادة تفاقمها, وسيصب مزيدا من الزيت علي نار الفتنة التي لايستفيد منها إلا صناع الثورة المضادة في الداخل والخارج. أستاذ العلوم السياسية