أظنني أخرت هذه السطور بأكثر مما ينبغي، أو خضعت منصاعا إلي ما فرضه ازدحام أجندة كتابة تعمد إلي تلبية احتياجات مهنية، والتزامات إزاء القارئ، تكاثرت وتناسلت بفعل التداعيات المتسارعة. كما أطعت همس نداء داخلي سألني تأجيل مؤاخذة المهنيين من الإعلاميين والصحفيين، ليضبطوا خطاباتهم من تلقاء أنفسهم، علي نحو تفرضه الضرورات الأخلاقية والوطنية، فيعتدل المسار، وتسقط مبررات العتاب، أو المؤاخذة، أو الادانة، أو الاتهام. بقول واحد.. الصحافة والإعلام المصريان تسببا في الاضرار بالوضع العام، وخلق حالة من عدم الاستقرار، وتسميم الحياة العامة، وترويع الناس، وتشويه صور مؤسسات وطنية، واشعال نزوعات الحقد، والرغبة في الاحتكاكين الطائفي والاجتماعي، وسيادة البلطجة، والعنف، وزعزعة أركان الدولة القضائية والأمنية، وغيرها . بعد ثورة يناير ساد وضع من السيولة، كنتيجة لسقوط مؤسسات النظام السابق، واهتزاز مصداقية كل شيء بعدما تكشف حجم الفساد المذهل الذي فاق تصورات الجميع. وفي توصيف وضع السيولة، انتشرت ظواهر الانفلات الأمني، والفوضي، والتغول، وعدم الاعتداد بالسلطة المعنوية لمؤسسات الأخلاق والقانون. وربما كانت الصحافة والإعلام أكبر الفضاءات التي شهدت تجليات تلك الظواهر، وعلي نحو أسهم بشكل مباشر وقوي في تعظيمها واشتعالها. لا بل وكان الإعلام والصحافة، هما القاطرة التي سحبت المجتمع كله إلي جو كئيب معتم، ومتأزم أعقب الثورة، ومازال مستمرا حتي الآن، فيما كان المفترض سيادة مناخ فرح، متفائل، ورغبة متواصلة في الابداع الاجتماعي والثقافي والسياسي الخلاق، وبما يؤدي إلي البناء، وليس الاستسلام إلي روح الهدم والانتقام، والمطاردة. وأجمل خطايا الإعلام والصحافة المصرية لمرحلة ما بعد الثورة في الانساق الثلاثة التالية: أولا: عدم الدقة الكاملة، والانسياق وراء تملق غوغائية الشارع، وكتابة ما يروق له، ويفضي إلي زيادة التوزيع، الأمر الذي أدي إلي مجموعة من الخروقات المروعة في النظام القيمي، أو الأكواد الأخلاقية للصحافة والإعلام. وفي هذا السياق أشير إلي ما أسميته قبلا (المحاكمات الإعلامية). إذ استبق الإعلام والصحافة عمل مؤسسة النيابة العمومية، أو أحكام القضاء، وقاما بتصنيع حالة حددت التهم، وأصدرت الأحكام بالوكالة عن مؤسسة القانون. وعلي رغم اداناتنا المعنوية لسياسات النظام السابق ورموزه وتوجهاتهم العامة التي من وجهة نظرنا ونظر الثورة أضرت بالوطن والمواطن إلي آخر مدي، فإن ذلك أمر مختلف عن الادانة الجنائية. الالتجاء لمؤسسة القانون هو الملمح الحضاري الحقيقي لثورة يناير المجيدة، ومن ثم فإن محاولة نسخ أو نسف مسوغات ذلك الالتجاء، أو استباق الأحكام بادانات ذات طابع قطعي، يسلب الثورة حضاريتها، وانسانيتها، وتقدميتها. صار التعليق علي أحكام القانون سهلا، وباتت التصفيات البينية، وتوجيه الاتهامات العسفية الظالمة والكاذبة، تمرينا صحفيا وإعلاميا يوميا، لا بل وأصبحت الأوعية الصحفية ساحة للانتقام المتبادل، ولآيات الكراهية المريرة يتم ابداعها وتجويدها يوما وراء آخر. تدمرت أسر، وحوصرت شخصيات (معنويا) حتي الموت ( ماديا)، وتحول البلد إلي ميدان رماية مفتوحة حرة، تصوب فيه الطلقات إلي صدور الجميع من بنادق الجميع. ثانيا: عمدت الصحافة، ونزع الإعلام إلي الاحتفاء بالممارسات الشاذة (عنفا وبلطجة وقسرا وقهرا) وتحويلها إلي ما يشبه الأمثلة الملهمة، لا بل إن بعض صفحات الجرائد وموجات الإعلام قدمت لنا شخصيات قالت عنها إنها من ثوار يناير، فيما تبدت لنا نموذجا للتطاول، والتجاوز، والاستبداد علي المجتمع، وعلي الخصوم السياسيين، فضلا عن الاستعلاء والغطرسة بغير حدود، الأمر الذي دفع بعض القراء والمشاهدين إلي القول بأن استبداد النظام القديم كان أقل وطأة! كما خلقت الجرائد وقنوات التليفزيون (حكوميا وتجاريا)، (قومية وخاصة) حالة من التطبيع مع مفهوم اختراق القانون، إذ نتيجة الأولويات المهنية المختلة، وتصغير ما ينبغي تكبيره، وتكبير ما ينبغي تصغيره، صارت الأخبار الأولي بالرعاية هي قطع شريط سكك حديدية، أو احراق مؤسسة حكومية، أو تبادل اطلاق النار بين جماعتين، أو احتجاز رهائن في مجلس محلي، أو محاولة هروب من سجن أو قسم، وتحولت تلك النوعية من الأنباء مع تكرارها وابرازها المغالي فيه، إلي عادة وثقافة سائدين.. ومن ثم صار اختراق القانون (طبيعيا)! وبالترافق مع ذلك التطبيع، بدا أن الهدف عند معظم الجرائد وقنوات التليفزيون هو التحريض علي العنف، باعتباره المؤثر الأول في تصنيع البيئة الإعلامية والصحفية المطلوبة، التي تقتات عليها الجرائد والتليفزيونات، وتجد في استمرارها حالة تجارية تؤدي إلي الازدهار وسعة الانتشار، وملعون أبو المصالح الوطنية، أو أمن وسلامة الناس. وفي هذا السياق فإن الدور الخطير الذي استمرأته الصحافة، واستعبط الإعلام متماديا فيه، لم يأبه أو يلق بالا إلي تسويقه وترويجه لمفاهيم التطرف والطائفية، والاحتكاك الاجتماعي، في غمار اندفاعه نحو التجارية والتوزيع، ونسب المشاهدة. صحافة وتليفزيونات هذه الأيام تحتفل بفكر التطرف، وتعطيه أكثر من حجمه، علي حساب الوسطية، واعتدال القوي الوطنية التي تزخر بها الساحة وهي تؤجج لنار الفتنة الطائفية، وتساعد علي انتشار ثقافتها وخطابها.. ونظرة واحدة تقول بذلك من دون أي التباس. ثالثا: أخطر ما أدت إليه ممارسات الصحافة والإعلام هو ما يعرف باختراق محددات الأمن القومي، ويدخل في ذلك السياق الاثارة ضد القوات المسلحة (الحامي الأول لثورة يناير والعمود الفقري لكيان الدولة) ومحاولة رسم صور نمطية كاذبة وتآمرية عن حمايتها لرموز النظام السابق، بغية تأليب الناس علي الجيش. وبمرافقة ذلك فإن تخويف الشرطة، وتنميطها، وتحويلها إلي هدف للضرب، يظل ملمحا حاضرا في الأيقونات التي تقوم أجهزة الإعلام والصحافة بتسويقها تحت أغطية سياسية وثورية تسحبها علي أداءاتها. وتتضح الصورة إذ أضفنا تصعيد النزعات العرقية في سيناء والنوبة، أو تصعيد التحريض علي العصيان المدني وتعطيل الانتاج، أو التشكيك في قضايا الجاسوسية. للأسف صرنا في مصر في مواجهة إعلام وصحافة يتذرعون بالحرية، ويرتكبون أعمالا خلوا من المسئولية تفضي في نهاية المطاف إلي ضرب تلك الحرية وتقويضها.. الحرية التي هي أهم ما قامت ثورة يناير من أجله.