ملك واللا كتابة!! من بين أغرب ما لفت أنظار الأجيال المصرية عموما في مرآة الأفلام السينمائية خلال الفترة التي أعقبت ثورة يوليو المجيدة عام1952 هو ضلوع الدولة عمدا في طمس أي محاولة لإظهار صورة الملك المخلوع, تلك الصورة التي كانت تعتلي الحوائط أحيانا في بعض المشاهد السينمائية داخل سياق العمل الدرامي دون قصد من جانب القائمين علي إخراج الفيلم في التنويه عن الملك في حد ذاته; والعذر لهم في ذلك كل العذر علي اعتبار أن أحدا لم يتصور في أثناء تنفيذ عملية التصوير السينمائي أن يتم إخفاء الصورة احترازا من قيام ثورة تطيح بملك سيكون غير مرغوب ظهوره في يوم من الأيام, إلا أن هذا هو الواقع الذي حدث بالفعل, ما دفع القائمون علي الثورة المجيدة إلي الوقوف بين فكي كماشة: فإما التخلص من الأفلام التي احتوت علي هذه الصورة من قائمة وذاكرة السينما المصرية عموما, وفي هذا ارتكاب لجريمة ثقافية; وإما البحث عن وسيلة حتي وإن كانت غير مقنعة لطمس الصورة فقط في سياق المشهد السينمائي مع الاحتفاظ بهذه الأفلام كذاكرة ثقافية مهمة للأمة, فخرج أحدهم ولا أعرفه يقينا بفكرة الشخبطة علي خام الفيلم نفسه بدوائر تمت باستخدام قلم شديد السواد, فإذا بذاكرة الأمة تحتوي علي هذه البقعة والتي فهمنا ضمنيا المغزي من ورائها التشويش علي ذاكرة الماضي تماما بهذا الخصوص!! مرت الأيام, واعتدنا علي مثل هذه المشاهد في سياق الأفلام القديمة, وتعجبنا, وسكتنا!! ثم ها نحن اليوم علي أعتاب وضع مشابه, فلا يخفي علي أحد أن صورة الرئيس المخلوع حسني مبارك تملأ كثيرا من المشاهد المصورة سواء كان ذلك في الأفلام أو في الدراما التليفزيونية; أما الفارق الشديد بين الأمس واليوم فهو أن الأمس لم يكن في جعبته سوي عدد قليل من أفلام سينمائية, وكان من الممكن البحث عنها واحتوائها بتلك الفكرة النميسة التي حكيتك عنها; أما اليوم ففي جعبتنا المئات من المواد الفيلمية التي احتوت علي مثل هذه الصورة ما يجعل الموقف أكثر تعقيدا!! الأدهي, هو أننا وبحكم03 سنة عشناها تحت مظلة هذا الحكم, فإن الأمر لم يعد مجرد صورة صامتة معلقة علي أحد الحوائط كمثل ما كان الحال مع الملك, وإنما نحن اليوم أمام أعمال درامية كثيرة لا تخلو من تلميح مباشر لشخص الرئيس المخلوع ولا بأس حينئذ من التركيز علي صورته الشخصية المعلقة علي الحائط أيضا للتأكيد علي ذلك, ولست بحاجة إلي تذكيرك بأعمال وطنية وغير وطنية كثيرة احتاجت في صلب مشاهدها الدرامية إلي مثل هذا التلميح أو ربما التصريح المباشر بذلك, الأمر الذي يضعنا في موقف أشد بأسا من موقفنا إبان قيام ثورة يوليو; حيث لا يجوز عزل الصورة حاليا سواء دراميا أو حتي تقنيا بالنظر لاختلاف الخام الذي تم تسجيل هذه الأحداث عليه من مجرد بكرة فيلم سينمائي في الماضي إلي شرائح مدمجة وخلافه وفق آليات البث التليفزيوني المعاصر: هذا في الوقت الذي يستحيل معه اجتثاث كل هذه الأعمال من تاريخنا الدرامي, كمثل ما يستحيل الحيلوله دون بثها عربيا علي الشاشات كما هي, حيث لا سيطرة إعلامية لنا ولا ريادة, الأمر الذي يجعل من مبارك شبحا دائما سيظل يطل علي الأجيال المتعاقبة عبر الشاشات!! ولا أحدثك هنا بالطبع عن مئات الأوبريتات الغنائية( التي تكلفت مئات الآلاف من الجنيهات) والتي لا تخلو من ظهور الرئيس السابق شخصيا, وهي الأعمال التي ستضعنا في ذات الحرج الفني السياسي التاريخي, وجميعها محسوبة علي الفن من قبل أن تكون محسوبة علي السياسة!! فنحن لا نتكلم عن مراسم افتتاح مصنع أو فيلما تسجيليا أو خطابا سياسيا يجوز قبوله في سياقه التاريخي فقط, وإنما نحن نتكلم عن أعمال فنية ترصد اللحظة الحاضرة وتعبر عنها وتحتفظ بها للأجيال القادمة كما جاءت, فيما لا يجوز لأحد أيا كان أن ينكره أو يطمسه أو يحور معانيه!! وربما خرج من بيننا من قال بإنه قد كان من الطبيعي أن يسقط الفن في هذا الفخ; وأن الأمر وارد في جميع المجتمعات علي هذا النحو, وأرد علي هذا القول بأن مشكلتنا الدائمة هي احترافنا تحوير الأهداف الأصلية الواسعة للأشياء والدخول بها في مساحات ضيقة تفقدها معناها باستخدام معول الشخصنة, فإذا بالمعاني الرحبة تنحصر في أشخاص, ثم إذا بالأشخاص تزول, فإذا بالمعاني تتبدد وترتبك, ثم إذا بحياتنا ذاتها ترتبك أيضا, أما جريمتنا الأشهر فهي قدرتنا الغريبة علي التمادي في الأخطاء وليس فقط ارتكابها, ونحن الذين نعلم علم اليقين أن الأشخاص زائلون زائلون بعد عمر طويل!! إنها الحيرة الدائمة التي تواجهنا في كل ما تسطره أيادينا: تري هل نختار الملك واللاالكتابة.. وغالبا ما نختار الملك!! المزيد من أعمدة أشرف عبد المنعم