عجبت كيف اقتربنا من اكتمال الشهر الرابع علي قيام الثورة ومازلنا بلا دستور يؤسس لنظام جديد يقوم علي الدولة المدنية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية, وهو الهدف الأساسي الذي قامت من أجله الثورة ورفعت شعاراته عالية في ميدان التحرير. فبرغم كل ما يساق من حجج تبدو قانونية أو سياسية أو غير ذلك, فإني لا أري سببا مقبولا يبرر عدم البدء حتي الآن في إجراءات وضع الدستور الجديد الذي يطالب به الجميع, فالدستور في حياة الأمم هو قاعدة العمل العام وهو الذي يحدد طبيعة الحياة في المجتمع, وبدونه تسود الفوضي, وفي رأيي أن أحد أهم أسباب حالة عدم الاستقرار التي تعيشها البلاد منذ سقوط النظام السابق هي هذا التأخر غير المبرر في إحلال نظام بديل وفق دستور جديد يحدد شكل الحياة السياسية الجديدة ويفتح الطريق الي المستقبل الذي طال تطلع الجماهير إليه. ومن بين ما يطرح من حجج لعدم البدء في وضع الدستور ما يقال من أن تلك يجب أن تكون مهمة البرلمان الجديد, الذي من المفترض أن يتم انتخابه في الخريف المقبل, ولست أعرف من أين جاءت تلك المقولة التي لا سند لها في القانون ولا في تاريخ الدساتير العالمية, فالبرلمان قد يعدل دستورا قائما والتعديل لا يتم إقراره إلا باستفتاء عام, أما وضع دستور جديد فليس من المهام التي من أجلها تختار الدوائر الانتخابية من يمثلها في مجلس الشعب. إن الدساتير هي قانون الحياة التي ينبغي أن تنصاع لها المجالس النيابية وتتشكل وفق أحكامها لا أن تقوم هي بوضع بنودها, والدستور الذي نتطلع إليه يفترض أن يكون الدستور الدائم الذي سيحكمنا حتي نهاية هذا القرن علي الأقل, لذا فهو يعلو فوق كل الاعتبارات الآنية لأنه يمثل الثوابت التي ارتضاها المجتمع في مقابل المتغيرات التي تتبدل ما بين سنة وأخري أومع كل انتخابات جديدة, حيث قد يدفع الشعب بحزب أو باتجاه سياسي معين الي الحكم ثم يغير رأيه في الانتخابات التالية. أما البرلمان فهو تعبير عن الآني لأنه يعكس ميزان القوي السائد في اللحظة التاريخية التي تجري فيها الانتخابات, وذلك الميزان بطبيعته متغير, فالأغلبية التي ستحصل علي مقاعد مجلس الشعب في انتخابات سبتمبر المقبل ليست بالضرورة هي نفس الأغلبية التي ستعرفها الانتخابات التالية, بعد أن يكون ميزان القوي السياسية قد مال في اتجاه آخر, فكيف إذن يعهد الي ما هو بطبيعته متغير وزائل أن يحدد لنا ما هو ثابت وباق؟! إن الدساتير يجب أن يضعها مؤتمر تأسيسي يمثل جميع فئات الشعب من مهنيين وعمال وفلاحين, فالدستور ليس مجرد نص قانوني وانما هو وثيقة سياسية واجتماعية واقتصادية في آن واحد, والكاتب والمفكر والطبيب والمهندس والفنان والمثقف والعامل والفلاح والمعلم والمؤرخ والمعماري والمحامي كلهم أصحاب حق أصيل في الدستور وينبغي أن يجتمعوا عن طريق من يمثلهم في مؤتمر واحد ليقدموا فيه تصورهم عن الدستور القادم, أما مهمة رجال القانون وفقهاء الدستور فهي الصياغة, ولست أقصد بالصياغة مجرد إيجاد المصطلحات القانونية المطلوبة وانما تحويل آمال ومطالب مختلف فئات الشعب الي مباديء دستورية تلتزم بها مؤسسات الحكم وتحتمي بها حقوق المواطنين, وتلك مهمة جليلة لا ينبغي التقليل من شأنها. كما أنني لا أقصد بالمؤتمر الوطني تلك المكلمة السخيفة وعديمة الجدوي التي تعقد تارة تحت اسم الحوار القومي وأخري تحت اسم الوفاق القومي وانما أقصد مؤتمرا حقيقيا يتم تشكيله علي أسس علمية يمثل جميع فئات الشعب صاحبة المصلحة في الدستور الجديد, فلا يستثني منها أي تنظيم نقابي أو تشكيل سياسي. مما سبق يتضح أن المنطق كان يحتم وضع الدستور الجديد قبل إجراء الانتخابات البرلمانية, فهو الذي سيضع لها الإطار الذي ستجري بمقتضاه وهو الذي سيحدد قواعدها, فهل يعني هذا أن علينا الآن تأجيل الانتخابات المقبلة؟ بداية دعونا نتفق علي أن تأجيل الانتخابات البرلمانية قد يكون مفيدا لأسباب كثيرة غنية عن البيان, لكن ليس من بينها إفساح الوقت لوضع دستور جديد, فالدستور في تصور الكثيرين يمكن ألا يستغرق وضعه أكثر من شهر واحد, وبالنظر الي حجم الحوار الذي اكتنف المجتمع منذ فترة حول ما يجب أن يقوم عليه الدستور نستطيع أن نؤكد أنه أصبح هناك الآن ما يقترب كثيرا من الإجماع أو علي الأقل التوافق العام علي المباديء الأساسية التي يجب أن يقوم عليها الدستور, وذلك يسمح بانجاز المهمة في أقل وقت ممكن مما قد لا يتعارض مع جدول الانتخابات المقبلة, إذا كان لنا أن نبقي عليها في موعدها, أما إذا رأينا تأجيلها, خاصة اذا تضمن الدستور الجديد تعديلا في قوانين الانتخابات, وهو ما يطالب به الكثيرون, ففي هذه الحالة لماذا لا نبدأ بالانتخابات الرئاسية التي أجد أمامي فرسانها حاضرين علي الساحة منذ فترة ولا مبرر لتأجيل انتخاباتهم أيضا. إن التمادي في تأجيل وضع الدستور إنما يزيد من أمد فترة القلق الحالية والتي بدأت تشكل تهديدا خطيرا للاستقرار الوطني أخشي ألا يسهل بعد ذلك تداركه, لقد آن الأوان ألا يقتصر عمل من يقومون بتطبيق مباديء الثورة علي هدم القديم فقط, وأن يبدأوا أخيرا في عملية البناء التي طال إنتظارها. المزيد من مقالات محمد سلماوي