إن الأفكار المتعصبة التي تنسب الي بعض الجماعات الدينية من مثل أخذ الأمور بيدهم في المجتمع نيابة عن سلطة الدولة وفرض الحدود علي مايتصورونه من جرائم هو أمر خطير يدعو الجميع الي التدخل لمنع هذا الغلو الديني, والذي هو خروج في حقيقته عن روح الإسلام. هذه الأفكار ومايصاحبها من سلوكيات غير منضبطة هي التي تدعوني اليوم الي الحديث مرة أخري عما كنت أسميه الفكر الإسلامي المستنير وهي عنوان لمقالات كنت أنشرها في صحيفة الوفد يوم أن كانت أبرز صحيفة تمثل المعارضة, وكيف كانت هذه المقالات تكشف عن حقيقة الفكر الإسلامي وجوهره بعيدا عن التعصب والجمود. فإذا ما أريد لهذا الفكر المستنير أن يسود مرة أخري مجتمعاتنا, فلابد من ثورة شاملة ترفع فيها كافة القيود عن حياتنا المدنية وتطلق فيها حرية الفكر بما يؤدي الي تطوير حياتنا وتحديثها, والأخذ بأساليب الاجتهاد الديني لمواجهة فكر الانغلاق والجمود والتعصب السائد الذي بعض من يطلق عليهم جماعات السلفيين, ومن جري مجراهم كجماعة طالبان والقاعدة, هذا هو مايجب أن تتجه اليه جهود إصلاحيين والذين وفرت لهم ثورة25 يناير مناخا حرا صحيا لانتشار هذا الوعي الجديد. إن أجيالنا الحديثة لاتعرف شيئا عن تاريخ الرواد الذين ظهرو ا في القرن التاسع عشر لمواجهة الاستعمار الغربي, والذي كان يريد أن يفرض ثقافته علينا. فلا يعرفون مثلا قصة الجهاد التي قام بها الأفغاني في كل البلاد الإسلامية, كما لايعرفون قصة الجهاد التي قامت بها جمعية العلماء بالجزائر بقيادة ابن باديس وقصة عمر المختار الذي واجه الاستعمار الايطالي في ليبيا عدة عقود. أولادنا يجب أن يعرفوا تاريخ هؤلاء الرواد الذين دفع بهم الأزهر الشريف لقيادة نهضته الحديثة ولو عرفوا كما يقول الاستاذ فتحي رضوان في كتابه( دور العمائم في تاريخ مصر) لأدركوا أنه منذ هذا التاريخ الحديث فان الذين صاغوا وألهموا ودعوا الي العمل هم شيوخ خرجوا من الأزهر فكانوا قادة حركة تجديد ورواد نهضة تحرير وناثري بذور ثورة وطليعة عهد جديد, من هؤلاء الشيوخ السيد عمر مكرم الذي رفع محمد علي لولاية مصر ورفاعة الطهطاوي إمام بعثة الشباب الي فرنسا ومؤسس مدرسة الألسن التي وهبت بلادنا دعاة نهضة في كل اتجاهاتنا السياسية والاجتماعية. وعبدالله النديم خطيب الثورة العرابية.. يضاف إلي هؤلاء شيوخ آخرون غيروا زيهم وكانوا أضخم الزعماء تأثيرا في عقول الاجيال التي عاصرتهم مثل علي مبارك وسعد زغلول وطه حسين وأحمد أمين وأحمد حسن الزيات. ولقد سبق ذلك وعلي وجه التحديد في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين رواد عظام من أمثال الأفغاني ومحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي الذين نجحوا في أن يطلقوا دعوتهم في التحديد الديني والسياسي, لقد وضع هؤلاء الرواد أنفسهم بين مطرقة سلطة سياسية استبدادية, وسندان المحافظين من شيوخ النقل البنائي, أو بتعبير عبدالرحمن الكواكبي كتابه طبائع الاستبداد مطرقة العلماء الغفل الأغبياء وسندان الرؤساء الجهلاء. لقد أدرك الكواكبي أن الصيغ الحديثة في نظم الحكم والتي أخذت بها دول الغرب هي التي يجب أن تستقر ويؤخذ بها في مجتمعاتنا. لقد أدرك الكواكبي منذ فترة طويلة أن الاستبداد وانفلات سلطة الفرد من حدود القانون هو المنشأ الأول لشقاء بني حواء, وبذلك نفي الكواكبي مايزعمه البعض من أن علة أمراض الشرق وأسبابها هي فقد التمسك بالدين لأن العلة عنده هي فقد الحرية السياسية ومن ثم فهو يري أن التهاون في الدين ناشيء عن الاستبداد. ونحن نقول باطمئنان إن أجواء استبداد الحكم الفردي في بلادنا هي التي ينتفض من أجلها الشباب, من أجل الحصول علي الحرية, وبناءنهضة شعوبنا في جميع المجالات ان انطلاق الوعي هو الذي سيعيد للفكر الاسلامي المستنير سيادته وقيادته لشعوبنا مرة أخري, ويمهد لظهور حياة ثقافية جديدة بعيدة عن اجواء التعصب والجمود, والتي تدعو لعدم خروج النساء إلي الشارع وتدعو لغلق مدارس البنات وغير ذلك من السلوكيات المتخلفة الجاهلة من مثل هدم التماثيل, هذه المظاهر جميعها تؤكد لنا أن أزمة العالم الاسلامي هي من أساسها أزمة فكرية, كما قال الشاعر العظيم( اقبال) وبأن أي علاج يبدأ أساسا من المنطلق الفكري. لذلك نحن نكرر ونقول انه لابد من اتاحة المنافذ لانتشار هذا الفكر الاسلامي المتحرر في حياته, لمواجهة الفكر المتطرف والذي لم يكن له وجود في بداية القرن العشرين عندما كان يناقش الأستاذ الامام محمد عبده, المفكر فرح انطون في كتابه حول نظرية النشوء والارتقاء لداروين فلم يكفر أحد فرح انطون وانما كان الحوار بينه وبين الامام في الصحف هو البديل لفقه التكفير, لابد ان يدرك شبابنا ان اسلامنا يقوم أساسا علي حرية الاختيار وحرية العقيدة من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر لان اسلامنا يقوم في جوهره علي علم واسع, وكما أن قرآننا كون مسطور يضارع الكون المنظور في تفتيق العقل وتجلية الفطرة, وأنه لولا ما في آيات القرآن الكريم من هدي ونور ما قامت أزهي حضارة في التاريخ.