لم تعرف الثقافة حراكا حقيقيا منذ أن تركها د. ثروت عكاشة وزير الثقافة الأسبق, أحد فرسان ثورة1952, وقد أسند له جمال عبدالناصر وزارة الثقافة مرتين. , عندما أراد أن يعطي ثورة1952 شكلا حضاريا, وإكسابها سمعة طيبة بالاهتمام بكل الفنون والآداب, وحتي لا تتهم الثورة بالتخلف اهتم بالبنية الأساسية للثقافة, وتفعيل دورها الحيوي في تشكيل الوعي وتقبل الرؤي المختلفة وإعمال العقل.. لذا كانت الستينيات العصر الذهبي للثقافة والفنون.. وانقلب كل ذلك رأسا علي عقب في الأعوام الأربعين الأخيرة, فقد عشنا سياسة تغييب الوعي وعدم الاهتمام بإعمال الفكر, فاحتلت مصر مرتبة متأخرة في قاطرة المعرفة.. وبدا ذلك واضحا في تراجع الدراما المصرية بمختلف أشكالها( التليفزيونية والسينمائية والمسرحية) وأيضا الغنائية والموسيقية, باستثناء بعض الحالات الفردية.. ولم تفلح الإسعافات السريعة والشكلية والوهمية في إنقاذ الثقافة من الأمراض التي توطنت فيها, في الوقت الذي كانت تستنزف فيه ملايين الجنيهات سنويا في سباق بين وزارتي الثقافة والإعلام لتقديم أوبريتات الليلة الواحدة لإحياء بعض المناسبات, التي كانت تهدف إلي إرضاء شخص بعينه.. كل ذلك وغيره ساعد علي تسطيح الفكر والرؤي, مما أوجد تربة خصبة ترتفع فيها الأفكار البالية والمعتقدات الوافدة من دول لا تعترف بالتعددية الثقافية, فتراجعت مكانة مصر كثيرا, ونحمد الله أن وزيري الثقافة والإعلام لم ينتبها إلي ثقافة وإعلام العالم الافتراضي الشبكة العنكبوتية بكل مفرداتها: الفيس بوك والتويتر واليوتيوب, التي لجأت إليها الأجيال الجديدة لتعيش ما افتقدته في الحياة الواقعية, لذا عندما خرجت هذه الأجيال من العالم الافتراضي إلي عالم الواقع خرجت بثورة لم تشهدها مصر من قبل, ثورة25 يناير.. خرجت تبحث عن كيانها وطموحاتها وآمالها بعد أن كانت محرومة حتي من أنها تحلم. بين الثورتين كان حوارنا مع د. ثروت عكاشة, الأب الروحي للثقافة المصرية الحديثة, الذي أضاء شمعة عيد ميلاده التسعين, شهدت علي ما قام به من حماية للإرث الثقافي والحضاري, بإنقاذ آثار النوبة وإنشاء أول أكاديمية للفنون في الشرق الأوسط, بمعاهدها التي تغطي كل الفنون( المسرح والسينما والموسيقي العربية والموسيقي السيمفونية والباليه والفولكلور), وخارج النطاق الأكاديمي أنشأ الفرقة القومية للفنون الشعبية وأوركسترا القاهرة السيمفوني والسيرك القومي والصوت والضوء ومركز الحرف اليدوية ومسرح العرائس ودار الكتب. { لذا كان أول سؤال طرحته عليه هو عن الفارق بين ما كان يطمح إليه, وبين ما وصلنا إليه الآن؟ قال د. ثروت عكاشة: كنت أتوقع أن تضاف أشياء جديدة تساير ما حدث من تغير في المعرفة والتكنولوجيا, وزيادة الأشياء الجادة في وزارة الثقافة, وهذا لم يحدث, لا أري شيئا جديدا في الثقافة يمكن أن أتحدث عنه.. يوجد اختلاف في الرؤي بيني وبين السياسة التي اتبعها فاروق حسني.. لا يمكن أن يوجد تشابه بيننا.. هو شاطر في تخصصه.. وقد يكون شاطر في مجال وخايب في مجال, وأنا خايب في مجال وشاطر في مجال.. ولكن حدث تراجع كبير في الفنون في الفترة الأخيرة.. الموجودون في السلطة الثقافية ليسوا في مقام أو علي مستوي وزارة الثقافة, يعني هم فنانون جيدون, لكن لم يظهر من يستطيع إضافة شيء. { عندما تولي فاروق حسني وزارة الثقافة, قال إنها كانت تعاني تصحرا ثقافيا؟ إنشاءاتي مازالت موجودة وتشهد بذلك, أليس كافيا, ودون ذكر الإنجازات العديدة التي قدمتها! هذه مسألة أخلاقية, يعني يجب أن تكون فيه رجولة في التصرف, الله يسامحه. { كيف تفسر طريقة الاستخفاف التي تعاملت بها وزارة الثقافة مع سرقة لوحة زهرة الخشخاش؟ تابعت هذا الشخص( د. محسن شعلان) وقوله إن قيمة اللوحة لا يزيد علي قيمة البرواز,80 جنيها.. وقول فاروق حسني إن السرقة عادية مثل أي سرقة تحدث في متاحف العالم, بينما قيمة اللوحة ليست فقط في ثمنها الذي يزيد علي60 مليون دولار, ولكن لقيمتها الفنية.. فالأعمال الفنية لا يتم تقييمها بقيمة البرواز الذي لا يستحق السرقة فتركه اللصوص. وأضاف د. عكاشة متحسرا: أكيد سربوها للخارج, وحكي د.ثروت عن محاولة سرقة تعرضت لها اللوحة نفسها من قبل, قائلا: إن لوحة( زهرة الخشخاش) تعرضت للسرقة عندما كنت وزيرا للثقافة, وبعد البحث المضني وتضييق الخناق علي السارقين, تلقيت مكالمة تليفونية ممن سرقوها, قالوا إن اللوحة سوف ترجع لك.. قلت: فين.. قال: عند ترعة كذا.. وعلي الفور أرسلت مدير مكتبي لإحضار اللوحة ووجدها في المكان الذي حددوه.. لا أعرف من سرقها, لكن المهم أنها عادت إلينا. { واضح أن اللوحة عليها العين؟ نعم عليها العين.. وهم يخسفون بها الأرض.. ليس إلي هذا الحد!! تنوع { اختفاء البيانو من المدارس, وإلغاء تدريس الموسيقي وعدم الاهتمام بالرسم, هل أثر علي الشخصية المصرية؟ طبعا, تغيرت تماما.. أنا كنت في مدرسة فؤاد الثانوية, كان فيها نظام دراسي ممتاز مائة في المائة, كانت توجد الموسيقي والتمثيل والخطابة, التعليم كان أفضل, وكان لذلك تأثير علينا, نحمد ربنا أن جيلنا والجيل الذي جاء بعدنا تعلمنا بشكل جيد, ثم تراجع التعليم بعد ذلك, وقال: أنت عندك أولادك وأكيد عارف ما وصل إليه مستوي التعليم, لم أعلق سوي بالمعلومة التي لدي بأن أفضل خمسمائة جامعة في العالم ليس من بينها جامعة مصرية.. وعدت للحوار وسألته: { المشكلة الثقافية الرئيسية التي نواجهها حاليا هي أن بعض الفئات لا تقبل بالتنوع الثقافي؟ لا أريد القول إنه يوجد تراجع في النيات في الجهاز الثقافي, ولكن توجد رخاوة ورخامة, لا أعرف توصيفها بالضبط, المفروض أن تكون في الوزارة أنشطة كثيرة.. أقول هذا الكلام لأني أعرف ما أقوله.. فالتضحية التي تبذل من أجل وطني تعني حبا للوطن وعشقا له.. قمنا بأشياء كبيرة جدا في العصر الذي كنت أتولي فيه الثقافة, معظم المؤسسات الثقافية الموجودة أنشأناها في ذلك العصر, منها أكاديمية كاملة للفنون, والصوت والضوء كان شيئا جديدا علي مصر في ذلك الوقت وأدخل فلوسا كثيرة للدولة.. ثم مشروع إنقاذ آثار النوبة, قمت بالدور الذي يجب أن أقوم به أمام ربنا, لم أقصر في أي شيء, حاربت في اليونسكو لإنقاذ آثارنا, خاصة أبو سمبل.. والشيء الذي كان يؤجج هذا النشاط أني كنت أخاطب الرئيس جمال عبدالناصر مباشرة بكل ما نريده في الآثار.. حتي لا يقولوا في التاريخ إن الثورة المصرية( ثورة1952) جاءت وأوقفت التقدم الثقافي الخاص بالآثار المصرية القديمة, وهي فخر لنا, لأن ليس لها مثيل في أي مكان في الدنيا.. أقول لك إنني كنت أعمل مع عبدالناصر كصديق, لم نكن رئيسا ومرءوسا, كلنا أخوة, ونشاطنا كله لعزة مصر ونجاح الثورة.. عملت المطلوب مني, وأضفت أشياء كثيرة جدا والحمد لله.. والاهتمام بالفنون مثل الباليه والأوركسترا وأشياء كثيرة حصلت من خلال أكاديمية الفنون التي أنشأناها ودعونا أعظم الناس من الخارج, حتي إن جمال عبدالناصر قال لي: يا ثروت أنت بذلك ستنفق كل الفلوس علي الثقافة. ولكنه لم يتوقف عن دعمي, لكن جاءت الأمور بغير ما كنت أرضي فتقدمت باستقالتي, كنت أول وزير يستقيل في مجلس الوزراء لأسباب كان وراءها( علي صبري رئيس الوزراء في ذلك الوقت).. فأسند إلي عبدالناصر رئاسة البنك الأهلي, ولم أكن أفهم شيئا في أعمال البنوك, قلت له: يا ريس أنا لا أعرف أصرف ميزانيتي.. فقال لي: يا ثروت علشان تتعلم حاجة جديدة, قضيت4 سنوات, كانت إضافة كبيرة لي من زملاء فطاحل في الاقتصاد موجودين في البنك الأهلي, استفدت خبرة كبيرة جدا, عمري ما كنت أحلم بأن أحصل عليها.. طبعا لم أستغل هذه الخبرة التي اكتسبتها, لأن عبدالناصر طلب مني الرجوع ثانية لتولي وزارة الثقافة قائلا: فلان خسر الدنيا, وهدم ما قمت به أنت في الوزارة من قبل, وأريدك أن تكمل ما بدأته, طلب مني ذلك وأنا لا أطمع في منصب ولا طلبت أكون وزيرا, فقد كنت سفيرا ناجحا جدا في إيطاليا وفي فرنسا, لم أكن أريد منصب وزير, لأن الوسط في الرئاسة كان سيئا, وأنا لا أتحمل أي مضايقات لأني حساس جدا, لا أتحمل أن أجد نفسي جالسا مع ناس ملعب.. فاعتذرت لعبدالناصر وقلت له: أنا متأسف لن أعود للوزارة.. قال: أنت سفير ممتاز لكن الثقافة أهم.. مفيش غيرك وذكرني بما كنت فعلته في الوزارة الأولي, وطلب مني أن أكمل ما قمت به.. وأخذني يوسف السباعي للوزارة بسيارته فخجلت وقبلت الوزارة مرغما, بكيت في الطريق لأني لم أكن أريد الوزارة بسبب وجود ناس سيئة كتير في الرياسة مش متربيين, صعب التعامل معهم, لكن كنت في حالي وأعملت ضميري سواء في الوزارة الأولي أو الوزارة الثانية.. واستقلت عندما حدث خلاف بيني وبين عبدالناصر في مجلس الوزراء.. وقلت له: أنا لا أقبل أن وزارة الثقافة تحرم من المال الذي تأخذه وزارة الإعلام..( كان يتولاها في ذلك الوقت د. عبدالقادر حاتم).. فقال لي عبدالناصر كلمة مش تمام.. فقلت له ليس عندي في الوزارة فلوس لكن عندي أفكار وإنشاءات وأشياء كثيرة بالإضافة إلي أهمية خاصة بالآثار حتي لا يقول أحد إن الثورة جاءت وأهملتها, سيكون ذلك خطأ كبيرا جدا لرجال الثورة.. فأعطاني عبدالناصر المبلغ الذي طلبته, وأصلحنا الآثار كلها والتي كانت خربانة, خاصة في أبو سمبل.. وكنت أقوم بتنفيذ بعض المشاريع من خلال علاقاتي الشخصية مع فرنسا, فكان أندريه مونرو يعطيني كل ما أحتاج إليه من مساعدات من أجل البنية الثقافية في مصر, فأرسلت25 شابا وفتاة للتدريب علي الأشغال اليدوية النسجيات إلي فرنسا للدراسة مجانا لمدة5 سنوات, تعلموها وأتقنوها وأقمت لهم مكانا لفن النسجيات في القاهرة القديمة, لكن للأسف أغلقه فاروق حسني.. كله راح, وهدموا كل شيء.. كان يحركني في عملي حبي للوطن وأضع كل نشاطي وخبرتي في خدمة الأهالي الموجودين.. ثم قال لي د. ثروت عكاشة: أنت وقتها كنت صغيرا في السن.. فأجيت: ولكني تربيت علي ما قدمته أنت, عرفت معني الفنون الراقية وحصلت علي دبلوم النقد من أكاديمية الفنون التي أنشأتها أنت.. وقلت له إن المشكلة التي واجهت الكثيرين من الجيل الجديد هي تراجع الفنون, الأغنية والموسيقي والسينما والمسرح, كل شيء تراجع في السنوات العشرين الأخيرة, مما جعل الشخصية المصرية باهتة. { كيف نعمل علي إصلاح الشأن الثقافي؟ نريد شخصا عنده برنامج ومشاريع في الثقافة.. فالثقافة متعددة الألوان, فيها تنوع.. مفيش اتنين متشابهين.. وقد تعرضت شخصيا للهجوم من فاروق حسني, مما دفعني إلي مهاجمته, كان لازم أفهمه أنه لا يصح هذا.. ثم كلمني واعتذر. { الثروة الحقيقية للإنسان هي المعرفة والأصدقاء.. ماذا عن أصدقائك؟ لي أصدقاء أعزاء جدا.. علي رأسهم خالد محيي الدين ومايكل غالي, وهو مهندس يواظب علي زيارتي, وأعتبره ابني حبيبي, وعدد كبير من المثقفين, ود. ماجدة صالح, أعتبرها كنزا من الجيل الأول للباليه, وتغير طبعا بعض الأصدقاء.. ولأن ربنا طول في عمري, لي أصدقاء كثير ماتوا.. كانوا من أشرف الناس في حياتي.. جمال عبدالناصر, كنت أحبه جدا وانضممت إليه وعملت معه الثورة, كنت في سلاح الفرسان في ذلك الوقت, ولا أنسي الأستاذ خالد محيي الدين, وهو راقد في السرير مريض, سمعته في الإذاعة يقول: ثروت عكاشة كان ستار الثورة, لم أنس هذه الكلمة أبدا, ونزلت دموعي, قلت شوف ربنا ازاي يجازيني بكل خير, لأن عندما كنت أعمل شيئا, كنت أعمله بإخلاص وحماس, أبويا علمني ذلك.. أنا نتيجة تربية أبي وأمي. { تعاني مصر حالات عنف وتعصب واحتقان.. هل الأمن يكفي لحل هذه المشكلات؟ لم يكن الأمن في عهد الرئيس مبارك, من أجل خدمة المصريين وإنما ضد المصريين, الأمن خاص بحماية الحكومة والرئيس.. لا توجد دولة في أوروبا بهذا الشكل الأمني.. وهم يعيشون حياة أفضل وأكثر تحضرا وأكثر آدمية. { الثورة التي حدثت في تونس, ثم ثورة الشباب وكل الشعب المصري.. كيف تراها؟ فرحان بهم جدا جدا.. وبشكل عام, الأيام اللي جاية أحسن.. ليس من المعقول أن يقول الرئيس المخلوع حسني مبارك هاحكم لآخر نفس, يعني قاعد لآخر نفس علي قلبكم, هذه كلمة لا تقال من رئيس جمهورية.. وكان يوجد تملق للسلطة بسبب مصالح شخصية, لأن الخير والشر معروفان. { ماذا تتمني لمصر؟ قال مبتسما: أنا لا أريد أن أكون وزير ثقافة تاني, أنا خلاص.. أتمني لكم الخير والنجاح, والاعتناء بالناس الفقراء الغلابة الموجودين, كفاية عندنا رجال الأعمال ماسكين كل رأس المال, والناس محرومة, حرام,, لابد أن الحكومة تتدخل في هذا الأمر, واجبها إسعاد الناس, وستأخذ عليه أجرا كبيرا من الله.. تشوف مصالحهم.. ده مش موجود.