بعد خلافه الشهير مع الرئيس السادات, أقيل وزير الثقافة الأسبق بدر الدين أبوغازي من منصبه, لأنه رفض طلب السادات تسليمه متحف محمود خليل بالجيزة, ليضمه إلي منزله, ليكون مقرا لسكرتارية الرئيس, فلم يتصور أبوغازي سليل العائلة العريقة المحبة للفنون, ابن أخت المثال العظيم محمود مختار, أن تمتد يده بسوء إلي المتحف أو محتوياته, ولو بأمر الرئيس... وبعد40 عاما عاد ابنه الدكتور عماد أبوغازي إلي كرسي الوزارة نفسها- دون أن يكون توريثا بالطبع- وبالرغم من أنه كان أمينا عاما للمجلس الأعلي للثقافة في أواخر العصر المنقضي, فإن تعيينه لقي ارتياحا واسعا- لم يخل من انتقادات- لدي جموع المثقفين الذين يعرفهم ويعرفونه, لكنه لم يلتفت سوي لشيء واحد العمل بجدية, ضاربا علي أذنيه, معرضا عن المدح أو القدح, كي يتقي نداء الحوريات اللائي يصدحن بالأناشيد السهلة والموسيقي الخادعة, إذ أنه مثل أوليس في الأسطورة اليونانية, قاوم هذا الإغراء واستمر في إبحاره باحثا عن لون جديد وصوت لم يسمعه أحد, متخليا عن تماثيل النحاس التي تلمع بوميض الذهب, مكتشفا أرضا بكرا ونغما لم يسمع.. لكنه هذه المرة بين الفقراء.. عبر محاولة التغيير الإيجابي وفك الجمود علي الموجود...! الدكتور عماد أبوغازي وزير ثقافة مابعد ثورة الفيس بوك المعروفة بيننا ب ثورة25 يناير التي غيرت وجه مصر والمنطقة.. كائن عصري إنترنتي بامتياز.. يمقت الصدام.. يعشق الحوار.. يدهشك بإشعاع الصدق الذي يقطر من كلماته المؤثرة, ويأسرك بتواضعه الجم, عندما تسأله عن المرات الأربع التي دخل فيها السجن بسبب معارضته ونشاطه الطلابي والسياسي, مناصفة بين عهدي السادات ومبارك, يصفها بأنها دلع قياسا للمناضلين الحقيقيين القابعين ظلما في زنازين النظام وسجونه.. يشغل د. عماد كرسي أستاذ مساعد للوثائق في جامعة القاهرة, و من مؤلفاته حكاية ثورة1919 والجذور التاريخية لأزمة النهضة.. وهو أيضا كاتب صحفي محترف بعدد من الصحف المعروفة, ولذا فإن أهم دعائم مشروع أبو غازي في وزارة الثقافة هو: نشر ثقافة الديمقراطية, ودعم مشروع الدولة المدنية, وتوصيل الخدمة الثقافية إلي المصريين لاسيما الفقراء, أينما كانوا دون إقصاء أو تهميش, واستعادة قوة مصر الناعمة وجعلها إحدي الركائز الأساسية لاستعادة المحروسة عناصر قوتها الشاملة, عقب أن بعثت ثورة25 يناير الحيوية في عروقها بعد جفاف, كطائر الفينيق الذي يولد ثانية من رماده, ليكتب له الخلود. هذا الحوار يزيح الأستار عن رؤية أبوغازي لتحقيق تصوراته تلك في هذا الظرف التاريخي الدقيق, والذي أجاب فيه عن كل أسئلتي برحابة صدر, لكنه لم يرتح لهذا السؤال: أنت في الخمسينيات وأصغر الوزراء سنا, ألا تشعر بالوحدة داخل مجلس الوزراء, بوصفك الشاب الوحيد بينهم؟ هذا التوصيف لا ينطبق علي فقد قاربت الستينيات, ولو كان ذاك الوصف صحيحا فمعناه أن البلد يعيش شيخوخة, بالإضافة إلي عدم شعوري بالوحدة, لوجود آخرين في مثل عمري, وغالبية الوزراء أعرفهم شخصيا من قبل تولي الوزارة, زملاء أو أساتذة لي في الجامعة بوصفك باحثا ومؤرخا تصادف أنك أجريت دراسات متعمقة عن الثورات المصرية المتعددة, ولك كتاب مهم عن ثورة1919, ففي أي سياق تضع ثورة25 يناير, وأوجه تفردها وعظمتها؟! أري أن ثورة25 يناير هي أهم الثورات في حياة الشعب المصري, برغم عظمة ثورة19 وأهميتها وقيمتها, فإن25 يناير أقوي تأثيرا وأشد, إذا نجحنا في الوصول بها إلي مداها النهائي, وما هو هذا المدي النهائي؟ هو تحقيق الشعارات الثلاثة التي رفعتها الثورة, وهي العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية, والديمقراطية وحقوق الإنسان, فلو تحولت هذه الشعارات إلي نظام دستوري وقوانين وتشريعات تكون هذه الثورة قد أكملت ما هدفت إليه, وفتحت الطريق ليس لمصر وحدها بل للمنطقة العربية, كي تعود إلي التاريخ مرة أخري, فالعرب خرجوا من التاريخ منذ قرون, ويمكن أن يعودوا بفضل هذه الثورة, ونجاح الثورة النهائي هو ما سيحدد عودتنا إلي التاريخ, بمعني الفاعلية الحقيقية في بناء الحضارة الإنسانية المعاصرة بمختلف صورها. ولو وضعنا الثورة المصرية في السياق العالمي؟! أتصور أو أزعم أنها الثورة الأولي في عصر مجتمع المعلومات علي المستوي العالمي. وأوجه التفرد..! علاوة علي ما قلت فإن سلمية الثورة, برغم دماء الشهداء الطاهرة, وقدرتها علي الحشد الجماهيري الواسع, وسرعتها في الإنجاز علي نحو لا يكاد يصدق, ووضوح الرؤية والأهداف والشعارات, مع أنها كانت بلا قيادة محددة, ويمكن أن نقول إنها ثورة بلا رأس, أي بلا قائد..... أقاطعه:إذا تمكنت الثورة من إرساء نظام ديمقراطي في مصر ومعها الثورات العربية, أيسقط ذلك نظرية الصدام الحضاري بين الغرب والعالم الاسلامي التي يتبناها كثير من النافذين في الغرب, كالمحافظين الجدد؟ ربما كان الوقت مبكرا بعض الشيء.. هذه نظرية تحتمل الصواب والخطأ, وطوال الوقت هناك نظريات وطروحات في مقابل طروحات, الواقع التاريخي المحكوم بمرجعيات متعددة, هو من يملك القول الفصل بينها. ألم تنعكس الثورة علي سياسة مصر ومجمل علاقاتها الخارجية ورؤية العالم من حولنا؟ بالطبع, لقد انعكست فعلا وتغيرت مكانة مصر في المنطقة العربية بشكل جوهري عقب الثورة, وإحساس العالم العربي بأهمية ما يجري في مصر وإمكانية أن ينتقل بالمنطقة نقلة جديدة أخري علي الساحة الإقليمية والدولية وبين الأمم علي اختلافها, مثلا في أسبانيا اليوم إعجاب بالنموذج المصري ومحاكاة لميدان التحرير, وقد يمتد إلي أقطار أوروبية أخري, وبالأمس كان الشيء ذاته في ولاية ويسكونسن الأمريكية وغيرها, هذه هي قوة النموذج وإيحائه. مصر هي فجر الضمير الإنساني كانت علي الدوام قوة ثقافية كبري متسامحة ورحيبة, ألم يأن الأوان لاستدراك ما فات واستعادة مكونات القوة المصرية الناعمة لاسيما الثقافة؟ الإشعاع الحضاري لمصر لم ينطفئ أبدا, قد يخبو قليلا لكنه سرعان ما يستعيد توهجه وألقه, عندما تسترد مصر حيويتها وبوصلتها الصحيحة, مقدمة النموذج والقدوة الحسنة, و لعل التحول الديمقراطي المنشود الذي يرقي إلي مستوي الثورة الرائعة يكون جسرا لسكب الزيت في القنديل لتصبح المشكاة أشد سطوعا وبهاء, فثقافة الديمقراطية القائمة علي التعددية وقبول الآخر والدولة المدنية, والحراك الحادث, كلها عوامل حفازة للتمكين لهذه القوة الناعمة. لكن لا يجوز النظر إلي ثقافة مصر إلا باعتبارها جزءا من العالم العربي وكذلك من أفريقيا ثقافيا وتاريخيا وحضاريا, وربما نكون في الفترة الماضية قد أغفلنا افريقيا ولابد من علاج هذا القصور في المرحلة المقبلة, وسيكون توجهنا الخارجي علي عدة محاور المنطقة العربية وافريقيا والدائرة اليورومتوسطية, ودول الكومنولث السوفيتي سابقا, ودول أمريكا اللاتينية, أي التعامل مع العالم برسائل ثقافية متنوعة, حسب الإقليم أو المنطقة, أما أولويتنا الأولي في المستقبل القريب فهي أفريقيا ثم افريقيا ثم افريقيا التي تغافلنا عنها مع أننا قطعة منها, والشعوب الأفريقية تفخر بأن حضارات مصر هي حضارات افريقية, وفي تقديري أن الصناعات الثقافية كالكتاب والنشر والسينما والمسرح والفنون.. هي صناعة ثقيلة لها قيمتها من ناحية, وتساند الوجود والاقتصاد المصري من ناحية ثانية, ومن ثم يجب دعمها والوقوف بجانبها لتؤدي رسالتها المطلوبة. ذكرتم أن ثورة يناير اعتمدت علي أدوات الثورة المعرفية والتواصل, فكيف توظفونها لخدمة القطاع الثقافي؟ منذ أمد ونحن نطور أدوات التواصل المعرفي, وقد حدثنا الموقع الإلكتروني للوزارة علي الشبكة العنكبوتية, وبدأ هذا منذ الدكتور جابر عصفور ثم المهندس محمد الصاوي وقد أكملنا المهمة وصار الموقع تفاعليا. نهدف منه تنوير العقول وإغناء النفوس بفنون الثقافة التي تضيف إلي الحياة حياة وعمقا وامتدادا وثراء.. الجزائر كانت محطتكم في زيارة أخيرا أيدل ذلك علي نهاية صيف الأزمة اللافح والقطيعة بين الدولتين؟ تماما.. لقد زالت المشكلة, وقد شاركت فرق مصرية في الاحتفال بتلمسان عاصمة للثقافة الإسلامية وهناك مشاركات ثقافية أخري متنوعة في الجزائر, بحيث يمكن القول إن العلاقات قد عادت إلي طبيعتها, وأن الأزمة انتهت, فالثقافة بآدابها وفنونها تشد عصب السياسة وتهيئ لها حلولا.. طرحتم مخططا لجعل القاهرة عاصمة عالمية للكتاب؟ لم نطرح مخططا, ويبدو أن المعني لم يصل كما ينبغي, ماقلته إننا منذ عام نعد ملفا متكاملا, لكي نتقدم به لترشيح القاهرة عاصمة للكتاب العالمي سنة2013, ومعلوم أن اليونسكو تختار دولة مختلفة كل عام كعاصمة, ونحن قد نحظي بالنجاح في هذا المسعي وقد لا نتمكن لوجود منافسين. ما سر اختيار السويس هذا العام عاصمة للكتاب والثقافة المصرية؟ الأسباب كثيرة.. السويس لها تاريخ نضالي طويل في كل حروبنا, واجهت بقوة وضربت المثل بمقاومتها الشعبية الباسلة في حرب اكتوبر73, وفي ثورة25 يناير كانت أكثر المدن التي شهدت عنفا ضد المتظاهرين وسقط منها أكبر عدد من الشهداء, وما فعلناه هو نوع من التحية والتقدير لأهالي السويس. ما خطة الوزارة في المرحلة الحالية في ظل تنامي وجود قوي سياسية لم تكن دائما علي وفاق مع توجهات وزارة الثقافة, مثل التيارات الدينية التي تعاظم حضورها علي الساحة؟ ليست هناك مشكلة, أي طرف يقبل الحوار نحن نتحاور معه, كل من يريد تقديم عمل ثقافي أبوابنا مشرعة أمامه, نحن مؤسسة ثقافية, فلا حظر علي أحد ولا حجب لأحد, فأنا ضد الإقصاء أو التهميش بشرط الإيمان بالحوار. لكن ألم تتعرض بعض أنشطة الوزارة لتضييق أو ملاحقة من أي نوع من جانب أتباع هذه التوجهات؟ من المهام الأساسية للوزارة الاشتباك والجدل الفكري مع جميع القوي الحية في المجتمع, ولا أعتقد أن هناك من يتحسس مسدسه الآن مثل جوبلز- كلما ذكرت كلمة ثقافة, بل العكس هو الصحيح, وقد شاركت أخيرا في أسبوع ثقافي نظمه شباب الاخوان مع ائتلاف شباب الثورة وشهد حوارات ثرية إيجابية للغاية, وكذلك في مناسبات أخري كشفت عن حالة الحراك الثقافي المصاحب أو السابق للفوران السياسي الذي تموج به الحياة المصرية في كل الميادين. إذن أنت لست قلقا من ارتفاع مؤشرات التطرف وحديث الفزاعات والغول الإسلامي؟ انظر.. أنا أرحب بالحوار مع كل صاحب فكر وأقدره, فالثقافة هي حالة جدل لا ينتهي, لكنني لا أتحاور مع من ينفي الآخر ويفكر بمنظور مغلق يقصي كل من يخالفه, فكيف يمكن التحاور مع من قاموا مثلا بتكسير تمثال جمال عبدالناصر في سوهاج, باعتبار هذه القطعة الفنية( التمثال) لونا من ألوان الضلال, فهذا غير مقبول, وكذلك هدم الأضرحة والعدوان علي الناس في بيوتهم, فليس هذا من الدين ويهدد السلم الأهلي والاجتماعي, وهذا لا أتعامل معه لأنه يرتكب جريمة, والقانون ينبغي أن يأخذ مجراه إزاء هذه التصرفات التي تدخل تحت باب الجريمة و تتطلب مواجهة حاسمة من جميع القوي والمؤسسات والأفراد. هذا يعرج بنا إلي أحداث الفتن الطائفية المتكاثرة ويمكن اعتبارها سوء فهم ثقافي بالدرجة الأولي وقد دعاكم بعض المثقفين مثل د.أحمد الخميسي- لأخذ زمام المبادرة في التصدي لها, وفتح الأبواب المغلقة بين المسيحيين والمسلمين؟ لقد قرأت مقال د. أحمد الخميسي ورددت عليه, وأسمح لي بالقول إن ما طرحه من ضرورة تشكيل لجنة ما للتعامل مع هذا الملف الشائك, هو قائم بالفعل فلدينا لجنة لثقافة المواطنة وحقوق الإنسان منذ2010, وهي تعمل خارج المجلس وتنزل الي أرض الواقع والجامعات والأندية وغيرها وتقابل وتدرس وتقدم مقترحات وتطرح رؤي. لكن هذه الأنشطة ربما لا تستطيع الوصول للناس... يبتسم: نجعلها تستطيع.. فالمواجهة الثقافية هي التي ستضمن علي المدي الطويل أن نقتلع جذور التطرف والتمييز الديني, وطبيعي جدا أن العمل الثقافي يأخذ وقتا طويلا لإحداث التأثير عكس الإعلام, مثلا- لأنك تغير أساليب التفكير, وهذا يحتاج إلي سنوات, لكن مردوده يدوم ويظل فاعلا أحقابا طويلة. دعاكم الدكتور صبري حافظ إلي إحداث قطيعة مع الماضي بكل صوره بعد الثورة, فإلي أي مدي تري هذا ممكنا؟ بالفعل هناك سياسات كانت قائمة في الماضي, ينبغي اجتثاثها من جذورها, مثل آليات الفساد والإفساد وعدم العدالة وسوء الإدارة الاقتصادية مثلا, لكن في الوقت نفسه ليس هناك ماض كله أسود, أي أن هناك أشياء إيجابية وكيانات ناجحة ينبغي استثمارها والبناء عليها, فالتراكم( الإيجابي) ضروري, إذ لا يجوز لنا إعادة اختراع العجلة, ففكرة القطيعة الكاملة غير واردة. طرح الفنان عادل السيوي وعدد من المثقفين مجموعة من التصورات لتطوير المجلس الأعلي للثقافة واستقلاله, ما الذي تم بخصوصها؟ هذه الاقتراحات محل عناية ودراسة, والدكتور عز الدين شكري امين عام المجلس يتباحث مع عدد من المثقفين, وهو يحقق تقدما في هذا الميدان, وفكرة الاستقلالية ستأخذ وقتا... ربما الالحاح علي الاستقلالية ناجم عن الرغبة في تفادي مفهوم الحظيرة التي تضمن الدولة من خلالها ولاء المثقفين...؟ لست معنيا بحكاية الحظيرة إطلاقا, وقد سبق أن قلت كثيرا إنني وزير للثقافة وليس للمثقفين, وزير لخدمة المواطنين وظيفتي أن أقدم ثقافة للشعب, وكل من سيمد يده للتعاون مع وزارة الثقافة فوق رأسي من فوق, لا أريد أن أحتوي أحدا, أو أن أستبعد أحدا, هذا لايشغلني في قليل أو كثير, يعنيني المنتج الثقافي وكيفية توصيله لكل مواطن وإيجاد بيئات إبداعية وتوظيف نتاجها في صالح المجتمع.. ترتفع الأصوات المنادية بحل جهاز الرقابة علي المصنفات الفنية, فما مصيره؟ الفنانون أنفسهم اختلفوا حول الحاجة إلي جهاز الرقابة ودوره اختلافا بينا, وهذا ليس مجرد رأي يقال, لكنه أمر يخضع لرؤية مجتمع, وللخروج من هذا الوضع بدأنا في المجلس الأعلي للثقافة سلسلة من الحوارات يديرها الأمين العام للمجلس, حول موضوع الرقابة وكيفياتها, وشكلها, لإعداد قانون للرقابة علي المصنفات الفنية ليعرض علي المجلس. ما هو الهدف من الجولات المكوكية المكثفة التي قمتم بها في محافظات مصر؟ نسعي إلي توصيل الخدمة الثقافية إلي طالبيها في أماكنهم حتي لو حالت الظروف بينهم وبينها, فهذا دورنا, والحقيقة لا أتصور نفسي وزيرا للمثقفين, فهم في غني عني, أتصور أن دوري ودور وزارة الثقافة أن تكون وزارةالناس في القري والنجوع والعشوائيات, نجوب المحافظات ما زلنا نخطو خطواتنا الأولي. لعب الشباب دورا مشهودا في الثورة المصرية, وبعد عقود من تجريف حركة الإبداع في مصر, كيف يمكن تحفيز وتفريخ المواهب الإبداعية الجديدة الشابة؟ مهمتي أن أقوم بتوفير ساحات ثقافية يتم من خلالها تلقي الإبداعات الثقافية والتفاعل معها وكذلك إنتاجها, هذه نقطة جوهرية في عملنا, وهي ستكون بيئة مناسبة لصقل كل من يتصور في نفسه طاقة إبداعية, في حدود الإمكانات المتاحة وتفعيلها إلي آخر مدي. قمتم بإلغاء دورات معرض الكتاب ومهرجان السينما والمسرح التجريبي وغيرها لهذا العام, فهل كان العامل المالي هو السبب؟ معرض الكتاب لم يكن توقيته ملائما, فالثورة شبت في25 يناير وكان من المفروض افتتاحه يوم28 يناير, وكذلك مهرجان القاهرة السينمائي ومهرجان المسرح التجريبي وغيره, فالبلد في حالة فوران سياسي ساخن, ومشغول باستفتاءات وانتخابات رئاسة وبرلمان ونقابات ووضع دساتير وغيرها علاوة علي الانفلات الأمني, فكيف سيذهب هؤلاء الناس إلي السينما في هذه الظروف؟ السينمات اليوم فارغة, العالم كله سينظر الي مسارات العملية السياسية عندنا اليوم, لا إلي السينما. طبعا دون أن ننكر الصعوبة الاقتصادية, فبدلا من إنفاق12 مليون جنيه علي مهرجان القاهرة السينمائي, يتم توجيه هذه الأموال إلي أنشطة ثقافية في القري, حتي لو أتت عن طريق الرعاة ولم نتكلف مليما, فالضرورات بقدرها, وهناك أولويات هذا إرجاء لمدة عام, وهو فرصة لإعادة تقويم تلك المهرجانات وأساليب عملها. الأزمة التي يعانيها الاقتصاد ستترك تداعياتها علي عمل أجهزة الوزارة وكياناتها, ما خطتكم لتجاوز هذا الوضع الحرج؟ لا يخفي علي أحد ما تمر به البلاد من ظروف استثنائية وقد تراجعت الموارد المالية المخصصة للثقافة بحدة, لكننا سنتغلب علي ذلك من خلال طرح منتج ثقافي للفقراء بمحتوي غني. أي التركيز علي ثراء المحتوي والإنتاج برغم قلة الإمكانات, هذه هي المعادلة الصحيحة التي كان ينبغي العمل بها طوال الوقت, فلا داعي لمشاريع مبان بمبالغ طائلة, مانسعي له هو بناء أو تجهيز بسيط وخدمة ثقافية راقية, المهم الاقتراب من الناس وتقديم الخدمة لهم بما هو متاح وبجودة عالية, فبدلا من بناء مكتبة ضخمة ثابتة في مكان ما دون غيره, يمكن استخدام( أتوبيس) كمكتبة متنقلة تجوب أكثر من حي وقرية ونجع, وبدلا من المسرح نستخدم سفينة( مسرحا عائما) بالفعل- تقدم عليها الفرق الفنية المختلفة أعمالها شتاء في الصعيد وصيفا في الوجه البحري, سيارة بها آلة عرض سينمائية وشاشة يتيسر عرضها في أي مكان, كما سنركز علي( الكيف) وليس( الكم), سنقلص النفقات والعدد لمصلحة النوعية والجودة, إذ إن أربع مسرحيات مرتفعة المستوي, خير من عشر بها الجيد والردئ. أما بالنسبة للمؤسسات الثقافية فبعضها يعاني عيوبا تحد من قدرته علي النهوض بدوره نحن نسعي لعلاجها, واستثمار الطاقات العاطلة الكثيرة, وإعادة هيكلة الكيانات عن طريق ترسيخ مفهوم ديمقراطية العمل الثقافي وتفعيل آليات العمل الديمقراطي في جميع أجهزة الوزارة, والأهم هو العناية القصوي ب مضمون الرسالة الثقافية التي تقدمها تلك المؤسسات وتنقيحها وتجويدها ودفق الدم في عروقها. ألا تنسقون مع المؤسسات ذات الطابع الثقافي من خارج الوزارة والمجتمع المدني والمثقفين ورجال الأعمال المهتمين؟ نحن ملتحمون بجميع أجهزة الدولة, كما أننا نقوي علاقتنا بكل المؤسسات التي تقدم رسالة الثقافة في عموميتها, وتسهم في تشكيل الوعي والوجدان وصيانة النسيج الثقافي وتمتين خيوطه, مثل الأزهر والكنيسة, والتربية والتعليم والإعلام ومؤسسات المجتمع المدني والمثقفين والمبدعين الشبان وكل المهتمين بالعمل الثقافي, عبر مد جسور التعاون والتواصل معهم, لتهيئة المجال في هذا المنوال, من خلال بروتوكول للتكامل والتعاون والمشاركة. وهناك مبادرات عديدة من جانب المجتمع المدني والجمعيات الأهلية. بعد هذه السنوات في رحاب المنظومة الثقافية والولع بها, معارضا وباحثا ومؤرخا وكاتبا واكاديميا ومسئولا ووزيرا.. ألم تقل يوما ليتني لم أكنه؟ إطلاقا.. فهذا جزء من لحمي ودمي وتكويني الشعوري والثقافي.. لم أندم لحظة واحدة.!!