لم يكن محمد شفيق غربال مؤرخا متخصصا في عصر معين من عصور تاريخ مصر, وإنما مثقفا قدم في كتابه' تكوين مصر' رؤية بانورامية فلسفية لتاريخ مصر عبر العصور حين دعي لإلقاء أحاديث عن تاريخ مصر من الإذاعة المصرية. وقد قامت وزارة' الإعلام' التي كانت تسمي' الإرشاد القومي' في عام1957 بنشره في كتيب صغير الحجم ولكن عظيم الشأن! وأعتقد أن هذا المؤلف- شأن مثيله من المؤلفات الوطنية الرصينة- بات ضروريا تعميمه علي جميع تلامذة وطلاب مصر إن أردنا لها أن تبقي' محروسة' من الشقاق الطائفي! وعن مصر والمصريين, يخلص غربال أن تكوين مصر, الذي كان من صنع المصريين مؤسسي مصر, قد أثر بدوره في تكوين المصريين. وعلي أرض مصر, التي شكلتها الطبيعة وشكلها الإنسان, فإن المصري هو كل من يصف نفسه بهذا الوصف, ولا يحس بشئ ما يربطه بشعب آخر, ولا يعرف وطنا له غير هذا الوطن مهما كان أسلافه غرباء عن مصر! ويعلن بصرامة العلماء:' ليكن المصريون الأوائل من يكونون, وليكن تأثر سلالتهم بمن وفد علي بلادهم, واختلط بهم كثيرا أو قليلا, فالذي يعنينا الآن أن نبين أن' مصر هبة المصريين'! فالنيل منبع حياتنا, ومصر- ورغم أن حدودها السياسية قد تعينت من رفح إلي حلفا منذ الدولة القديمة قبل آلاف السنين- تكونت في الأراضي الواقعة علي ضفتي النيل, واإي المدي الذي وصلت إليه مياه النيل. وكان المصريون هم الذين خلقوا مصر, ويكفي برهانا تأمل النيل مجتازا آلاف الأميال من خط الاستواء إلي البحر الأبيض لا تجد علي طول مجراه إلا مصرا واحدا! ويستند غربال إلي قول أستاذه' أرنولد توينبي': إن المصريين الأوائل_ شأنهم في ذلك شأن بعض الشعوب الأخري_ واجهوا التحول في مناخ جزء من أفريقية وآسيا نحو الجفاف. وكان هذا هو التحدي, فماذا كانت الاستجابة؟ من الأقوام من لم ينتقل من مكانه, ولم يغير من طرائق معيشية, فلقي الإبادة والزوال جزاء إخفاقه في مواجهة تحدي الجفاف. ومنهم من تجنب ترك موطنه واستبدل طريقة معيشته بأخري, وتحول من صيادين إلي رعاة رحل, ومنهم من رحل نحو الشمال ومن انتقل صوب الجنوب. وأخيرا منهم من استجاب لتحدي الجفاف بتغيير موطنهم وتغيير طرائق معيشتهم معا, وكان هذا الفعل المزدوج, الذي قل أن نجد له مثيلا, هو العمل الإرادي للمصريين الأوائل الذين خلقوا مصر كما عرفها التاريخ. فقد هبط أولئك الرواد الأبطال- بدافع الجرأة أو اليأس- إلي مستنقعات قاع الوادي, وأخضعوا طيش الطبيعة لإرادتهم, وحولوا المستنقعات إلي حقول تجري فيها القنوات والجسور, واستخلصوا أرض مصر من الأجمة التي خلقتها الطبيعة, وبدأ المجتمع المصري قصة مغامراته الخالدة. وفي هذا المقام يتحدث الأستاذ' توينبي' عن نصيب' القلة الخالقة' في نشأة الحضارة! وعن الاستمرار والتغيير في تاريخ مصر, يقول غربال- مقتبسا من بحث للأستاذ' كار' في تقدير صلة الثورة الروسية بالتاريخ الروسي- إنه فيما يبدو في التاريخ مستمرا لا يخلوا أبدا من تغيير خفي دقيق. وما من انقلاب مهما كان فجائيا ومهما كان عنيفا استطاع أن يقطع تماما صلة الاستمرار بين الماضي والحاضر'! ويؤكد غربال وإنا لنجد تأييدا لهذا إذا ما ألقينا نظرة فاحصة سريعة علي تفاعل الاستمرار والتغيير في تاريخ مصر. وانطلاقا من غربال منهجه في' ملازمة الوقائع', يقيس تأثر النواة الأساسية للثقافة المصرية, بما طرأ من مؤثرات في الحياة المصرية ترتيبا علي وصل مصر- طوعا أو كرها- بالحضارات والجماعات المتعاقبة غير المصرية, حيث درجة هذا التأثر هي مقياس التفاعل بين الاستمرار والتغير. ويخلص مفكرنا إلي إن الإغريق عندما اتصلوا أول الأمر بالثقافة المصرية كانت قد شاخت, واشتعل رأسها شيبا, وفاض حكمه! وبدت تلك الثقافة لبني إسرائيل واثقة بنفسها أكمل وثوق, لا يتطرق إلي نظرتها لنفسها شئ من التشكك أو الحيرة. ولما جاء رواد علم' المصريات' إلي مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر, عبر' المسيو رينان' عما تركته في نفسه آثار الحضارة المصرية بقوله:' إن مصر.. ولدت مكتملة النمو'! وقد بدا الفلاح المصري في القرن التاسع عشر وكأنما يعيش كما كان يعيش أجداده في عصر الأهرام, وبدت كذلك أسس الرخاء والحكومة. ثم بدأ طور جديد من أطوار البحث العلمي, فأظهر لنا الكشف عن عصر ما قبل التاريخ, وعصر ما قبل الأسرات, أي عصر نشأة الحضارة المصرية وشبابها. وتبين أنه لو كان الجو حقا من الثقة واليقين بالدرجة التي أحب البعض أن يتوهمها لما كانت ثورة' أخناتون' الدينية, وفيها ما فيها من معاني المجاهدة الروحية والتجديد في كل شئ! ورغم هذا, فقد ظهرت في عصر الأسرات المتأخر وجود نواة قد استمرت رغم التغيير, تمثلت في نظام اجتماعي ثابت يقوم علي ضبط النيل, وشعب تحلي بإنسانية نمت في جو مصري خالص وليس شعبا متجهما عبوسا عنيدا محافظا, يكره كل ما هو غريب عنه, كما صوره الإغريق واليهود! فقد نظر الأقدمون جميعا إلي كل شئ, بعين التعصب القومي, بل وكان لكل قوم ربهم, الذي لا هم له إلا رعايتهم. وكان التحقيق العالمي لتلك النظرة المصرية الإنسانية الأصيلة حلما داعب خيال' الإسكندر الأكبر' وحدا به إلي رؤيا عالم الإنسانية المنبثقة من إخوة بني الإنسان. بيد أن خلفاء' الإسكندر' في مصر لم يثرهم شئ من ذلك الحلم الجميل, ولم يفعلوا شيئا لكي تتفاعل الروح المصرية بالروح الهيلينية, بل الأصح أنهم كرهوا هذا وعملوا ضده! وخلف الرومان البطالمة, حيث لا تفيد الحكومة فيها إلا معني واحدا هو كونها المالك الكبير, وساروا بمنهج سابقيهم, فلا عجب أن صار المصريون أكثر تجهما, وأكثر عنادا وصلابة. وجاءت المسيحية فخلصت الروح المصرية ما شابها من قتام وعبوس وصلابة, فتخلق مصر في الحقبة القبطية فنا جديدا, وتقيم كنيسة قومية, وتصنع لنفسها أداة لغوية جديدة, وتتنوع حياتها الدينية. لكن مصر القبطية شقيت بنزاع مع' بيزنطة' كان مبعث كثير من الدمار الذي حل بالعصور البيزنطية المتأخرة. وبدخول القوم في الإسلام اتسع الأفق المصري, وامتد إلي محيط دار الإسلام, وما ثقافة مصر في عهد الإسلام إلا الثقافة الإسلامية معدلة, لتلائم ظروف مصر! وهنا حدث فعلا تكافؤ بين الاستمرار وبين التغير. ولم تشهد مصر رجحان كفة مبدأ التغير إلا عند استهلاك القرن التاسع عشر وبدء الاتصال بالغرب. وللحديث بقية. [email protected]