شاعرة موهوبة. ظلت طوال سبعة عشر شهرا تؤدي, في صبر وأناة و ألم, طقوس رحلة يومية حزينة. كان قلبها ينفطر علي مصير ابنها منذ اعتقلته السلطات إبان حكم الطاغية السوفيتي جوزيف ستالين بدعوي مناهضته لسلطته الاستبدادية. وكانت الشاعرة آنا أخماتوفا تخرج كل صباح من منزلها وتتجه الي السجن البكير في مدينة بطرسبرج, وتداعبها الأماني في أن يطمئنها أحد علي ابنها الذي تم نفيه في أصقاع سيبريا. لكن أحدا لم يطمئنها. وكانت آنا أخماتوفا قد كابدت هلعا وحزنا ثقيلا عندما اعتقلت السلطات زوجها بعد ثماني سنوات من زواجهما عام1910, وتم اعدامه بتهمة التآمر عام.1921 وقد حدث ذلك في أعقاب اندلاع الثورة البلشفية في روسيا عام1917 والإطاحة بحكم القياصرة. وكانت السلطات السوفيتية قد زجت بآنا في النفق المظلم الذي تدفع في دهاليزه بالشعراء والكتاب والفنانين الذين لا يمتثلون لاملاءات الحزب الشيوعي. ولذلك تم حظر نشر قصائدها ومصادرة دواوينها. وبرغم ذلك ظلت تكتب القصائد في هجاء الطاغية ستالين. وكان يقرؤها أصدقاؤها المقربون وكأنها منشورات سرية. هذه الشاعرة الحزينة والنبيلة التي كانت تطاردها سلطات الطاغية وتلاحقها عيونه الفولاذية.. توهجت موهبتها في وقت مبكر من حياتها, فلم تكن قد تجاوزت الثانية عشرة من عمرها عندما حلق في حجرتها طائر الشعر الجميل وكتبت قصيدتها الأولي ونشرت ديوانها الأول تحت عنوان أمسية عام.1912 ولم يمض عامان حتي نشرت ديوانها الثاني. وكان استقبال النقاد لقصائدها عظيما, واحتفاء القراء بها كبيرا. ولكن ما إن نشرت آنا اخماتوفا ديوانها الثالث تحت اسم السرب الأبيض عام1917, حتي بدأت معاناتها مع السلطات السوفيتية الجديدة لأنها كانت تغرد خارج السرب الشيوعي والشمولي, وبرغم اضطهاد السلطات لها إلا أن موهبتها جعلت منها أيقونة روسية وعالمية, واضحت من أشهر وأبرع شعراء روسيا في القرن العشرين. وبرغم أن آنا الموهوبة والحزينة والجميلة قضت نحبها وحيدة ويائسة عام1966, إلا أنها ماتزال ملء السمع والبصر, وليس أدل علي ذلك من أن القراء في فرنسا يقرأون هذه الأيام قصائدها.. بينما تعرض لها دار أوبرا ميرة حياتها وسط اقبال المشاهدين من الأجيال الجديدة المولعة بالشعر والفن والحياة.. ولعل السؤال الذي تطرحه قصائد آنا ومسيرتها هو كيف يمكن للفنان أن يعيش وسط أجواء كابوسية خانقة وضاغطة وينتج فنا رائعا؟.. ومن المرجح أن أخماتوفا قد حاولت الأجابة علي هذا السؤال عندما قالت بصدق إن الشعر هو الصلة التي تربط بيني وبين الناس والحياة. ولذلك لم يكن غريبا أن تكتب آنا أخماتوفا قصيدة ثم تقرؤها لصديقة لها.. وما إن تنتهي من تلاوتها حتي تشعل الورقة التي كتبت عليها بعود ثقاب!!. لقد عاشت آنا حياة بالغة القسوة في ظل حكم الطاغية ستالين. فقد نصب ستالين نفسه حارسا فظا علي ابداعات الروائيين والشعراء والكتب. وحدد لهم بغلظة معايير التعبير الأدبي والفني. وأولها وأهمها الولاء المطلق للحزب الشيوعي, وله شخصيا, وكان من يجرؤ علي الخروج علي نص هذه المعايير أو يتمرد فنيا عليها يتم الزج به في معسكرات الاعتقال. ولذلك تم حظر نشر قصائد أنا طوال الفترة من1922 وحتي.1940 ثم سمحت لها السلطات بالنشر لفترة وجيزة. وسرعان ما انقلبت عليها وطردتها من عضوية اتحاد الكتاب عام.1946 ولم تتنفس آنا الصعداء الا بعد موت الطاغية ستالين عام1953, ويشير الدارسون والمؤرخون الي أن أحوال الشاعرة تحسنت الا قليلا في الفترة التي يطلق عليها ذوبان الجليد في موسكو. وبرغم ذلك فإن آنا لم تنشر معظم قصائدها أبان حياتها. وربما كان ديوانها الأخير الذي جاء تحت عنوان موحي أشعار بلا بطل.. يشير إلي ما تعرضت له من معاناة وأحزان. وبرغم ذلك فأن نا بروجها الصافية لم تكن مقتا ولا كراهية للحياة. فقد قالت قبل سنوات قلائل من موتها أنها سعيدة لانها عاشت هذه الحياة.. وما يتعين ذكره أن ديوانها الأخير قد نشر بعد موتها.. وتكشف حياة آنا أخماتوفا عن حقيقة أن الطغاة لا يقرأون قصائد الشعراء. وتراودهم حماقة محمومة في نصب المشانق للشعراء, واضرام الحرائق في الكتب حتي يختفي الجمال وتذوي المعاني, وتمحوا مقصلة الرقابة الكلمات. وأخيرا.. فقد كانت آنا اخماتوفا جميلة, وآثر جمالها.. ولذل رسم لها الفنان التشكيلي العالمي موديلياني أكثر من لوحة باهرة.. وتبقي أنا الشاعرة الموهوبة والجميلة.. بينما غمر غبار التاريخ الطاغية. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي