جامعة القناة تنفذ حملة توعوية حول التأمين الصحي الشامل ومخاطر المخدرات (صور)    بالأسماء.. حركة محلية جديدة تتضمن 12 قيادة في 10 محافظات    موعد التصويت في جولة الإعادة بانتخابات الشيوخ    انخفاض سعر الريال السعودي في 5 بنوك خلال تعاملات اليوم    انخفاض أسعار الدواجن اليوم الخميس بالأسواق (موقع رسمي)    مبادرة تخفيض الأسعار بدأت بعد إعلان رئيس الوزراء والجيزة تتوسع في أسواق اليوم الواحد    قانون الإيجار القديم قيد التنفيذ.. المطلقات والمعيلات أولوية في وحدات بديلة    استشهاد 8 فلسطينيين بقصف إسرائيلي استهدف غزة    إعلام عبري: الجدول الزمني بشأن خطة العمليات في غزة لا يلبي توقعات نتنياهو    خائفة من محمد صلاح.. صحفي إسرائيلي يهاجم "يويفا" بسبب أطفال غزة    الطلائع يواجه المصري بالدوري الممتاز    50 طالبا بالفصل في المدراس الحكومية للعام الجديد وتفتيش مستمر    ذروة الموجة الحارة اليوم| الحرارة تصل ل49.. وتحذير و3 نصائح من الأرصاد    تعرف على إيرادات فيلم "درويش" في أول أيام عرضه بالسينمات    «دوري المكتبات» يواصل فعالياته في ثقافة القليوبية    الصحة تشيد بتقرير وكالة "فيتش" عن إنجازات مصر في صناعة الأدوية والتقدم الملحوظ بالمؤشرات الصحية    سموتريتش يعطى الضوء الأخضر لبناء 3400 وحدة استيطانية    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخيرًا بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الخميس 14 أغسطس 2025    جدول صرف مرتبات شهر أغسطس 2025 للموظفين وجدول الحد الأدنى للأجور    سعر الدولار مقابل الجنيه المصري بعد هبوطه لأدنى مستوى في 21 يومًا عالميًا    تفاصيل القبض على «أم ملك وأحمد» صانعة المحتوى    التايمز: بريطانيا تتخلى عن فكرة نشر قوات عسكرية فى أوكرانيا    شقيقة زعيم كوريا الشمالية تنفي إزالة مكبرات الصوت على الحدود وتنتقد آمال سيول باستئناف الحوار    أدعية مستجابة للأحبة وقت الفجر    بسبب انتشار حرائق اليونان.. اشتعال مئات المركبات    طريقة عمل مكرونة بالبشاميل، لسفرة غداء مميزة    أروى جودة تطلب الدعاء لابن شقيقتها بعد تعرضه لحادث سير خطير    موعد مباراة بيراميدز والإسماعيلي اليوم والقنوات الناقلة في الدوري المصري    بعد إحالة بدرية طلبة للتحقيق.. ماجدة موريس تطالب بلجنة قانونية داخل «المهن التمثيلية» لضبط الفن المصري    أزمة نفسية تدفع فتاة لإنهاء حياتها بحبة الغلة في العياط    في ميزان حسنات الدكتور علي المصيلحي    الأحزاب السياسية تواصل استعداداتها لانتخابات «النواب» خلال أسابيع    «زيزو اللي بدأ.. وجمهور الزمالك مخرجش عن النص».. تعليق ناري من جمال عبد الحميد على الهتافات ضد نجم الأهلي    الصين تفتتح أول مستشفى بالذكاء الاصطناعي.. هل سينتهي دور الأطباء؟ (جمال شعبان يجيب)    أصيب بغيبوبة سكر.. وفاة شخص أثناء رقصه داخل حفل زفاف عروسين في قنا    "سيدير مباراة فاركو".. أرقام الأهلي في حضور الصافرة التحكيمية لمحمد معروف    كواليس تواصل جهاز منتخب مصر الفني مع إمام عاشور    بالقليوبية| سقوط المعلمة «صباح» في فخ «الآيس»    كمال درويش: لست الرئيس الأفضل في تاريخ الزمالك.. وكنت أول متخصص يقود النادي    انطلاق بطولتي العالم للشباب والعربية الأولى للخماسي الحديث من الإسكندرية    نتنياهو: يمكننا قصف غزة كما قصف الحلفاء درسدن الألمانية بالحرب العالمية الثانية    تفاصيل استقبال وكيل صحة الدقهلية لأعضاء وحدة الحد من القيصريات    محافظ قنا ووزير البترول يبحثان فرص الاستثمار التعديني بالمحافظة    سعد لمجرد يحيي حفلًا ضخمًا في عمان بعد غياب 10 سنوات    تحذير بسبب إهمال صحتك.. حظ برج الدلو اليوم 14 أغسطس    محافظ الغربية يعلن حصول مركز طب أسرة شوبر على شهادة «جهار»    الجامعة البريطانية في مصر تستقبل الملحق الثقافي والأكاديمي بالسفارة الليبية لتعزيز التعاون المشترك    البحيرة: ضبط المتهمين بقتل شخصين أخذا بالثأر في الدلنجات    تحديد هوية المتهمين بمضايقة فتاة على طريق الواحات.. ومأمورية خاصة لضبطهم (تفاصيل)    شيخ الأزهر يدعو لوضع استراتيجية تعليمية لرفع وعي الشعوب بالقضية الفلسطينية    انتهاء تصوير «السادة الأفاضل» تمهيدًا لطرحه في دور العرض    المركز الإفريقي لخدمات صحة المرأة يحتفل باليوم العالمي للعمل الإنساني تحت شعار "صوت الإنسانية"    تداول طلب منسوب ل برلمانية بقنا بترخيص ملهى ليلي.. والنائبة تنفي    ياسين السقا يكشف تفاصيل مكالمة محمد صلاح: "كنت فاكر حد بيهزر"    الرياضية: بسبب أمم إفريقيا.. أهلي جدة يسعى لضم حارس سعودي    ما حكم من يحث غيره على الصلاة ولا يصلي؟.. أمين الفتوى يجيب    خالد الجندي يوضح أنواع الغيب    خالد الجندي ل المشايخ والدعاة: لا تعقِّدوا الناس من الدين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحكيم و‏..‏ثورة الشباب

غلب يقول لي سنين وأيام يا بنتي روحي قدمي أوراقك لنقابة الصحفيين ده المشوار لها مجرد فركة كعب‏,‏ وعضويتها حاجة مهمة للصحفي مادمت خلاص قد خططت الصحافة لمستقبلك وتركت كلية الحقوق لأجل عيونها‏..‏ غلب الوالد لكني لم أفرك كعبي للنقابة إلا بعدها بسنين طوال.. لماذا؟!!.. ربما نوع من التمرد علي أوامر الكبار حتي ولو أتت في قالب النصيحة.. ربما نزعة ثورية شبابية تعشق قولة لا ولو في السر من باب الخروج عن الصف.. ربما لأترك لنفسي حرية توقيت إصدار القرار بشأن خطوات مستقبلي دون إملاء من سلطة علوية.. ربما لأن مزاجي كده.. ربما سياسة الطناش لكل ما تفرضه إرادة آبائنا علينا, وكنت أنا الخاسرة.. و..لو لم يركب يام دماغه وسمع كلام النبي نوح والده ولم ينساق خلف أمه الساخرة من انهماك زوج قد بلغ من السن عتيا ألف سنة إلا خمسين في نجارة سفينة علي أرض يابسة لا تطل علي شاطئ بحر أو في وادي نهر لما طواه اليم وراح في شربة ماء.. لو أن البنوة العاقة قد حفلت بالأبوة الملهوفة عندما دعاه نوح يا بني اركب معنا ولا تكن من الكافرين فأجاب: سآوي إلي جبل يعصمني من الماء فأتت الموجة الغامرة تحسم الموقف في سرعة خاطفة راجفة لينتهي كل شيء وكأن لم يكن دعاء ولا جواب, وقضي الأمر ورحلت السفينة بسم الله مجريها ومرساها لترسو علي جبل الجودي.. ويأتي القرآن الكريم بجملة مختصرة حاسمة معبرة وقيل بعدا للقوم الظالمين.. أي بعدا لهم من الذاكرة فقد انتهوا وما عادوا يستحقون ذكرا ولا ذكري, بينما لو ركب يام السفينة دعوة نوح لأكمل رباعية الإنسانية علي الأرض وكانت له ذرية وأوطان قسمت علي أشقائه الثلاثة الناجين: سام الذي أنجب العرب وفارس والروم, ويافث الذي أنجب الترك والصقالبة, وحام الذي أنجب القبط والسودان والبربر!..
ولأن والدي لم يكن نبيا, ولأنني حصلت في نهاية الأمر علي عضوية النقابة, ولأن حام قد أخذه الطوفان, ولأن النساء لسن جميعا من عينة امرأة نوح, ولأن كل ثورة دليل حيوية, والشباب هو الجزء الحيوي في الجسم فلا عجب أن يقوم بالثورة الشباب, وقلما تكون هناك ثورة شيوخ, لأن الشيخوخة هي تناقص الحيوية.. والثورة مادامت متصلة بالحيوية فلابد أن تكون منشطة لهذه الحيوية ومجددة لها, وإلا اتخذت اسما آخر هو الهوجة.. والفرق بين الثورة والهوجة هو أن الأخيرة تقتلع الصالح والطالح معا.. أما الثورة فتبقي علي النافع وتستمد منه القوة, وتقضي علي عوائق الحيوية وما يقف في طريق التجديد والتطور.. وما من أحد منا لم يشعر في شبابه برغبة في الانطلاق عبر القيود لتأكيد الذات, ولكي نؤكد ذاتنا ونبرز شخصيتنا الخاصة لابد أن يكون هناك انفصال عن شخصية الآباء, ووسائلنا كوسائل كل ثورة في صباها تكون الرفض لكل ما يقوله الجيل السابق.. وعلي أيامنا لم تكن الهوة سحيقة كما هي اليوم بين الآباء والأبناء, فنحن اليوم في عالم يموج بالاتصالات والتحركات والسياسات فبمجرد تأسيس مجموعة علي موقع فيسبوك اشترك فيها أكثر من700 ألف شاب خلال أسبوع فقط.. ما من شيء راكد أو يسمح له بالركود, وما من شيء يسمح له بعدم الخضوع للبحث والمناقشة والنقد والقانون, وما من صوت يعلو علي صوت الثورة, والحذر من مواجهة الشباب في كل حين بالوعظ والإرشاد, أو أن نترك الجوهر ونحادثه دائما عن المظهر, فلنترك للشباب حريته في اختيار الشكل الخارجي والداخلي لحياته كما يفرضها عليه زمنه الجديد, ولا نطالبه إلا بشيء واحد هو الإحاطة المتعمقة بحصيلة الحضارة التي أوجدته, ليضيف إليها, وينمي خير ما فيها, ويمحو ما فيها من شر وزيف, فمستقبل الحضارة في يده وحده, وصورتها غدا سوف تكون كما يتصورها هو ويصورها علي أرض الحقيقة.. وما تفعله ثورة الشباب في غضون سنة من الآن سوف يترتب عليه مستقبل العرب والشرق بل العالم أجمع...
وقد ذهبت يوما أسأل توفيق الحكيم عن صراع الأجيال فوجدت الإجابة عن سؤالي وألف إجابة غيرها في فصول كتابه النادر ثورة الشباب الذي تعد صفحاته ال230 بمثابة عقد اجتماعي قام بكتابته علي هيئة مقالات بين عامي47 و48 وأصدرته يومها مكتبة مصر بالفجالة بثلاثة قروش فقط لا غير.. يجيب الحكيم فيه عن كل تساؤل مستندا إلي وقائع عاشها علي الطبيعة في إطار جيله والأجيال التي سبقته ليمنحنا الدلالة والمغزي: سمعت المرحوم والدي, يتحدث عن أبيه باحترام عميق في كل مقام, وكان أبوه ممن تعلموا في الأزهر, ثم أقاموا بعدئذ في الريف, يزرعون ما يملكون من أطيان!.. وكان والدي قد أوغل في الحلقة الرابعة ورقي إلي منصب القضاء.. وراح أبوه في ذلك الحين يتصرف في أطيانه بالرهن والبيع, ثم يعود إلي الشراء, ثم يقترض ويتعهد ويتعاقد!.. فقال له بعض أصدقائه: هذه تصرفات قانونية, وابنك قاض من خيرة القضاة, ألم تستشره؟.. فما كان من الأب إلا أن صاح ابني؟!.. أستشير العيال؟!.. ولم يكن والدي يجد غضاضة في ذلك القول, ويتلقاه بابتسامة التسامح, وشعور التوقير, ولو أنه في دخيلة نفسه ما أراه اعتقد أن أباه كان علي صواب!.. وإني ما سمعت قط منه نقدا لأبيه, فقد كان ينحني علي يده يقبلها أينما التقي به!.. وكان يلتمس له المعاذير, بل ويبرر كثرة زواجه بأنه كلما تزوج واحدة وجدها أجهل من سابقتها.. غير أني, علي قدر ما تسعفني ذاكرتي, قد خيل إلي وقتئذ أن والدي كانت له نظرة أخري في الصلة التي يجب أن تقوم بين الآباء والأبناء, ولكن حدث بعدئذ ما جعلني أضرب كفا بكف من العجب, فقد صرت أنا بدوري في الحلقة الرابعة وانخرطت في سلك القضاء, وشاهدت المرحوم والدي يتصرف بالرهن تلو الرهن في بيت كنا نعتز به, ويقابل أمامي كل من هب ودب من السماسرة والمرابين, يسر إليهم الحديث ويهمس لهم في الآذان, ولا يخطر بباله قط أن يكشف لي عن جلية الأمر وبواعث التصرف, أو يسألني رأيي المتواضع فيما هو مقبل عليه, وأنا وكيل النيابة وصاحب يوميات نائب في الأرياف الذي أحقق كل يوم في تصرفات الناس, وأفحص وأزن ما لهم وما عليهم من حجج وبينات, وأتحمل في سبيل أرواحهم وحرياتهم وأموالهم أخطر التبعات..! ومع ذلك ما قامت في نفسي ثورة, وما ارتفع لي في حضرته صوت, وما كنت ألقاه وأنا في ذروة العمر إلا بتقبيل يده والإصغاء إلي نصائحه..
تلك الصورة التي عرضها الحكيم طواها الزمن فقد شب جيل جديد يري الأمور علي وضع آخر, فهو يصر علي أن يكون له رأي في البيت والمدرسة والمجتمع بل وفي أمه وأبيه.. جيل أتي في ظروف عالمية تبرر الانقلابات, وفي ظروف قومية تنادي بالحرية, واجدا من الجيل السابق أمام ناظريه احتضانا ومؤازرة وخنوعا للفساد ورموزه, فسقط حائط احترام القديم الثابت المستقر من النظم والأفكار والقيم والأشخاص وأصبح واضحا في الصورتين الانفصال البين بين الأجيال.. في الماضي كان آباؤنا يفرضون علينا إرادتهم, وفي الحاضر نري أبناءنا يريدون فرض إرادتهم علينا!.. أترانا نحن الجيل الذي بلا إرادة.. أعطيناها لآبائنا تبجيلا, ولأبنائنا تشجيعا؟!
ويهيب الحكيم بالوالد الخائف علي ابنه أن يغلب روح الصداقة والمؤازرة المرنة علي جمود وجفاف وعنت وصلف التقاليد في فصل بعنوان تصادم الأجيال: دع ولدك يقرأ ودعه يصادق ودعه يعيش ربيعه!.. لا تخشي لون القراءة التي يشغف به ابنك في السن المبكرة.. إن الطبيعة أعقل منك أيها الوالد, إنها هي التي تغرس الميول في النفوس, وتلونها علي حسب السن والعمر, كما تلون الأشجار!.. ففي الشباب يورق الخيال والشعور والعاطفة!.. وفي الكهولة يورق العقل والحكمة والتجارب!.. ومن الخطأ أن يتحدي الوالد الطبيعة, وأن يتطلب من ولده الغض في ربيع العمر أن يكون شجرا صلب العود.. لكنها حكاية كل أب: أن يحكم علي ابنه بمزاجه, ويقيس درجة حرارته بترمومتره, وكأنه لا يستطيع فهم ذلك الفصل الربيعي الرقيق!..فالربيع الرومانسي الشبابي في نظر فصل شتاء الآباء الصارم ما هو إلا ضعف وهشاشة, بينما الحياة تدور في معترك الكفاح الأكبر.. وقد وقفت هذا الموقف من والدي وأنا في الثانية عشرة من عمري!.. كنت أرهب أيام الجمع, لأنها الأيام التي يفرغ لي فيها, ليناقشني فيما أقرأ, وكان يتخير لي نوع الكتب التي يجب في عرفه أن أقرأها!.. وكان أخفها وطأة المعلقات السبع, الكتاب الذي ضربت بسببه أوجع الضرب فقد كان والدي لا يكتفي مني بالحفظ عن ظهر قلب, بل يريد أن أشرح له أبيات ذلك الشعر الجاهلي في تلك السن!.. وكنت إذا عجزت عجب لجهلي وحماقتي, ثم استشاط غيظا مني مدفوعا ولا ريب بالخشية علي مستقبلي الضائع وإذا يده تتناول وجهي بالصفع الثقيل, فلا تتركني حتي يسيل الدم من أنفي صائحا بي: يا جاهل! يا غبي!.. أيوجد أسهل من هذا البيت لزهير بن أبي سلمي!... هذا السهل الممتنع يا أحمق!..
ومن لم يصانع في أمور كثيرة يضرب بأنياب ويوطأ بمنسم
ثم يهز رأسه إعجابا بالحكمة التي ينطوي عليها الشعر, وإذا ما ارتفع صوت بكائي لأنني لم أوفق في معرفة معني المصانعة في الحياة بينما أجهل الحياة نفسها, تأتي جدتي لتأخذني من يدي إلي حجرتها تحميني منه وأنا ألعن المعلقات وأصحابها, بل ألعن الشعر كله.. وكان من الطبيعي والمنطقي أن أحب الشعر كما أحبه أبي, ولكن الدم الذي سال من أنفي بسببه جعلني أمقته مدة طويلة, وكيف والله أحبه وقتها وبيني وبينه دم مسفوك!.. ولقد أسهمت مراحل التعليم بعدها في الابتعاد عن الشعر بما كانت تفرضه من مقطوعات أدبية وقصائد شعرية ثقيلة لحفظها عن ظهر قلب: مكر مفر مقبل مدبر معا كجلمود صخر حطه السيل من عل..!!!
في كتابه ثورة الشباب يتأمل توفيق الحكيم دوره كأب يفصله عن جيل ابنه إسماعيل ثلاثة أجيال.. لقد كان والده يجهل الكثير عنه, ويجهل أهم ما في حياته وهو الفن, وما كان يجرؤ علي تلفظ كلمة الفن أمامه, وكان إذا ما اقتضي الأمر يخففها ويلطفها ويهادنها بكلمة أقرب إلي القبول هي الأدب, ومع ذلك ما كان يبلغ سمعه صلة توفيق بالأدب رغم تخرجه في مدرسة الحقوق إلا ويستعيذ بالله ويستحوذ عليه الضيق والقلق ليشكو لطوب الأرض فزعا من أن ابنه توفيق قد أدركته وليعوذ بالله حرفة الأدب.. ويمضي الزمن ليهوي الحفيد إسماعيل العزف علي الجيتار ليقول والده توفيق الحكيم: قمت بتوجيهه منذ صغره إلي أن يكون مهندسا, وقد سايرني هو في هذا الاتجاه بتفوقه البارز في علوم الرياضة, إلي أن غافلني وظهر فجأة بميول فنية قبل السنة الإعدادية... كان يكثر من الاستماع إلي الموسيقي الأجنبية في البرنامج الأوروبي للإذاعة.. ولم أشعر ذات يوم إلا وفي يده جيتار قيل لي إنه زهيد الثمن طلبه من والدته في عيد ميلاده.. ولم أر في الأمر خطورة وظننتها هواية عابرة.. ولم أجد ضرورة أن أقيم الدنيا وأقعدها كما فعل أهلي يوم رأوا في يدي عودا أعزف عليه في التخت الراقص إلي جوار الأسطي حميدة العالمة.. ولكن هواية ابني سرعان ما انقلبت جدا.. وأصر علي المضي فيها وإتقانها, وإذا بوالدته قد استقدمت له أستاذا يونانيا متمكنا علمه العزف حتي برع فيه.. وإذا بي أعرف بعدها من ناظر مدرسته أنه قد كون فرقة موسيقية بالمدرسة أثارت الاهتمام.. وأتي الصيف فاستأذنني في الانضمام إلي فرقة عرضت عليه العمل معها أمام الجمهور خلال الإجازة.. فلم أسمح ورفضت رفضا باتا.. فأذعن علي مضض, وفي التوجيهية قام بتكوين فرقته التي أطلق عليها اسم بلاك كوتس ليعزف بها أمام الجمهور خلال الصيف دون علمي.. وبعد الثانوية التحق بمعهد السينما وقد تأكد لي أن الموسيقي تجري في دمه فأدركت ألا مفر.. وجعل يشق طريقه بنفسه وسط ضباب من الفتور يحول بيني وبينه.. لم يجد التحمس والمساندة له إلا من والدته.. وكان أحيانا يجري تدريباته بالمنزل ويعلو صوت آلاته فيجد دونها باب حجرتي موصدا.. إذن لم يتغير شيء, ولم يزل هناك الانفصال الأزلي بين الأجيال, علي أن هذا الوضع لم يكن فيما يبدو لي يهمه كثيرا, بل لعله كان يجد فيه خيرا له, ومن الراحة أن أبقي أنا بعيدا عن مجاله.. وإنه ابن عصره, لكنه ينظر إلي جواره فيجد عصرا آخر.. يجد جمود أب من طراز كلاسيكي..
ويضعنا الحكيم أمام التساؤل فيما إذا كان الانفصال بين الأجيال وضعا حتميا لا أمل في تغييره؟ أم أنه بالتفاهم والتعاون يمكن أن نصحح هذا الوضع؟ حيث نحن الآن في عصر بدأ فيه التصادم بين جيل الشباب والجيل السابق له, وجوهر الخلاف في اعتقاد كل جيل سابق أنه صاحب الحكم الأصوب في شئون العصر, وأنه المنوط به وحده صياغة الحاضر وتشكيل المستقبل, استنادا إلي تجاربه التي خاضها علي مدي العمر, وكان الشباب يتقبل هذا الاعتقاد دون مناقشة إلي أن وقعت الكوارث وتكررت الأخطاء وكان الشباب هو الحطب والوقود الذي جني الضياع والبطالة, والغرق علي سواحل أوروبا, والموت احتراقا في علب السكة الحضيض, والسحل والانتحار علي رصيف نوافذ النواب المزيفين, فبدأ يتساءل: وأين حصيلة التجارب إذن؟!.. الشيوخ لا يستفيدون من أخطائهم عبر التاريخ.. وانهارت الثقة.. وبدأت حصون الشيوخ في الاهتزاز.. ولكن الشباب لم يشيد لنفسه بعد حصونا, إنه حديث عهد بثورته وشعوره بذاتيته.. ليس عنده بعد آفاق واضحة منسقة.. إنها ككل ثورة في بدايتها.. تدك الحصون القديمة ثم تقف حائرة وسط الميدان لبعض الوقت.. ومثال ذلك عندما قامت ثورة الشباب في فرنسا وهزت حكم ديجول لم تقم وراءها فلسفة واضحة.. ولم يظهر بين الشباب من استطاع التعبير عنها سوي القلة, ولم تكن كلماتها مقنعة ولا عميقة, وعندما أرادوا شعارات تضاربت الاتجاهات, وانتهوا إلي رفع صور رجال مثاليين شرفاء من أمثال جيفارا.. فما العمل والشباب كلما ثاروا اشتد الجيل السابق في اعتصامه بحصونه, واتسعت شقة الانفصال بين الأجيال.. ومادامت الثقة قد فقدت فالكلمات القديمة أيضا أصبحت محل شك.. فالنصح والإرشاد والمواعظ وغيرها من الكلمات التي يستخدمها الجيل القديم أصبحت في نظر الشباب مثيرة للسخرية ومرادفة للتسلط والاستعلاء, مهما يكن فيها من رغبة النفع ونية الإصلاح.. إذن لابد من تغيير وسائل الاتصال لجيل الشباب والبحث عن لغة جديدة وأسلوب جديد للتفاهم معه, وأول شيء هو تجنب مخاطبته من فوق أسوار حصوننا القديمة, والامتناع عن إبداء الإعجاب المبالغ به كطفل المعجزة, والحد من مظاهر رعايتنا له كنبات الصوبا المستنسخ, ومخاطبته بندية كرجل اليوم وليس طفل الأمس.. بل ويجب أن نترك عالمنا ونذهب إليه في عالمه, ففكرة مراحل العمر المتصلة لم يعد لها في اليوم قبول, والجديد في الخريطة أن كل مرحلة لها شخصيتها وذاتيتها وقوانينها ولغتها ومفاهيمها.. أي عالمها الخاص.. إن مراحل العمر ليست درجات سلم, بل ربما كانت عربات قطار.. كل عربة مختلفة منفصلة عن الأخري بمن فيها وما فيها.. ومع ذلك متصلة بباب ضيق, والقطار كله يسير إلي غايته المحتومة, وركاب العربة الأخيرة من كهول وشيوخ لا يمكن أن يفهموا أو يعرفوا ما يجري في عربة الشباب إلا إذا انتقلوا إليها, وجلسوا بينهم في مقاعدهم.. وهذا ليس بالأمر السهل.. إن انتقال راكب قد شاب شعره وتغضن جبينه من عربة إلي أخري يجعل الأنظار تتجه إليه في شيء من الريبة, فيخيم الصمت علي الجالسين ولا تنفتح الصدور وتنطلق الألسنة إلا بعد الاطمئنان إليه, وهذا لن يحدث إلا إذا نجح في اكتساب ثقتهم وتفهم همومهم والتحدث بلغتهم, والنجاح في ذلك ليس مأمون العواقب أو مضمونا دائما.. والمحامي الذي يقف إلي جانب موكله ويكسب قضيته ليس هو بالضرورة الذي يكسب قلبه ويعيش داخل عقليته..
ويقترح الأصدقاء في الأهرام ذهاب الحكيم لمشاهدة ابنه إسماعيل وفرقته فيجد في الأمر استحالة ولكنهم زينوا لي الأمر بأن السهر ليلة واحدة ثمن بخس إلي جانب محاولة فهمك للشباب, وإنه لمن المستغرب لشاهد علي عصره أن يفقد حب الاستطلاع إلي هذا الحد.. وذهبت لأسأل ابني لأري وقع حضوري عليه فأطرق مليا ثم رفع رأسه قائلا بلهجة المستريب إنه يعرف مقدما شعوري وما أنا قائل, وروي لي أن المطرب فرانك سيناترا عندما استمع إلي ابنته التي احترفت مثله الغناء وسئل عن رأيه فيها رماها بجهل أصول المهنة, كذلك فعل شارلي شابلن مع أولاده عند احترافهم الفن.. إنها نغمة قديمة معروفة أن يقلل الفنان الكبير من شأن أولاده, تعاليا أو تظاهرا أو خوفا من اتهامه بالتحيز والمجاملة.. فأكدت له أن هذا لن يحدث معي ووعدته أني سأفرغ من نفسي كل ميل مسبق ومن رأسي كل رأي شخصي.
وتركت قيادي للرفاق الفنان صلاح طاهر والدكتور يوسف إدريس وذهبنا للكازينو بعد أن أخذت عليهم العهود والمواثيق أن لا أتأخر عن منتصف الليل, وبدأنا نلتفت إلي ما حولنا ونشاهد ونندمج شيئا فشيئا ونتأقلم.. وإذا بهم يفاجئونني بأن الساعة قاربت تمام الثالثة صباحا.. والحق أني لم أشعر بالوقت ولا بالملل.. حيوية الشباب الدافقة من حولي معدية كالمرض.. لم يعد عندي شك أن الجذوع العتيقة الراسخة في الأرض يمسها نبض من نشاط.. الأغصان المتمايلة المتحركة وقانون حياتها هو هذه الحركة التي نسميها الرقص.. وما من قوة في الأرض تستطيع وقف هذا القانون علي مدي القرون.. كان يخيل إلي أن جذع الشجرة ينزع من عنف اهتزاز الغصون من حولي, وخشيت علي نفسي من الاقتلاع.. لكن من يدرينا؟ لعل في ذلك دليل حياة للجذع وهو الجامد كخشبة تنتظر السوس.. ولفت الرفاق أنظاري إلي إسماعيل وهو يحمل جيتاره ويعلق ساكسفونه ويتنقل بينهما عازفا ونافخا فلم أتبين فيه الابن الهادئ الصامت في المنزل علي الدوام.. وجاءت الاستراحة واقترح الرفاق دعوة أعضاء الفرقة لتحيتهم, والهدف مؤامرة تجمع بين الأب وابنه لتحيته وتصوير ذلك بقلمه.. وبدا لي أن لا نجاة إلا في الصدق.. الجديد الصادق هو أني شعرت حقا بفرح غامر وحب وعطف علي شباب الفرقة كلهم مجموعة نادرة الاتساق في المحبة والمودة والفن.. بعثت في نفسي سعادة الصبا.. هؤلاء الشباب المرح الطيب المجتهد, كنت أمر بهم عن بعد كشبح مخيف يتوجسون منه وهم يجرون في حجرة الابن تدريباتهم الشاقة بصبر ودأب وإصرار.. كنت أتحاشاهم خشية أن أخجلهم أو أشعرهم بالتدخل في شأنهم.. كان بيني وبينهم جدار.. وكانت هذه هي أول مرة نتلاقي فيها بالمصافحة, وشعرت فيها أنهم فرحون أيضا بهذا التلاقي.. إن أهم ما في تلك الليلة عندي هو أن هذا التلاقي بالشباب أشعرني أن في الإمكان إزالة الأسوار القائمة بين الأجيال..
يوم وفاة إسماعيل في ريعان الشباب كانت للحكيم فلسفته الخاصة في الحزن.. دموع علي جدران النفس الداخلية.. مؤمن بالرحمن الرحيم الصفة التي وصف الله تعالي بها نفسه.. ونكررها.. شبه ذهول يجعله يتحرك بيننا في إطار يجاهد أن يكون طبيعيا وكأن المصيبة لم تقع ولم تدك الكيان.. كان حزنا شفيفا بليغا مترفعا شامخا يختلف كثيرا عن زلزال اللوعة الذي جرفه يوم ماتت شريكة العمر, ذلك الصامد الساخر المتفلسف المدعي عداء المرأة لم يستطع إخفاء ضعفه بدونها كطفل تركته أمه وافتقد غطاء رعايتها.. بعدها كنت معه أستشعر كلمة السر التي أتسلل بها إلي أدراجه الخاصة, وكانت الكلمة أن آتي بإشارة إلي سيرة الراحلة.. ساعتها تنفرج أسارير الحكيم ليقول عنها وينهل من ذكريات نبع عطاء لا ينضب, ويجرف من تل حنان لا يختل, ويروي أحداث أمومة شابة لم تستطع الصمود طويلا علي مسرح الحياة بعدما افتقدت الجدران أصداء جيتار إسماعيل..!
[email protected]
المزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.