وضحك ثلاثتهم من كلام الأهتم الذي يرطن العربية بلهجة مضحكة, واحتج عبدالدايم علي طلب الويسكي, فأقسم فريد أن هذه المصادفة مع الفنانين تعد من أعظم مصادفات عمره, وهي مصادفة تستحق أفخر ما في الحانة من الزجاجات, ثم أردف: ولما كان المرء لا يعرف ماذا يفعل بما ورث من ثروة.. فمن العار ان يبخل.. فلا ينتهز الفرص لإسعاد عباقرة لايلتقي بهم كل يوم. وشعر فريد انه لو انفق ضعف ثمن الويسكي, مانقص شيء يذكر من ثمن السيارة التي أصلحها وباعها منذ يومين, كما يعد ذلك ثمنا بخسا لحل عقدة لساني هذين الواهمين, وأحدهما يركب رأسه لتشكيل العالم حسب خياله الأحمق, والآخر يفر من مسقط رأسه كمن يفر من خطر الطاعون, وتذكر فريد ان الكأس الأولي من الجوني, ووكر قد فعلت في تلميذي والده الأحمقين مفعولها, فقد مال عليه عبدالدايم وأسره: انه رغم حبه الشديد لأستاذه وأستاذ زميله هذا ألا انه كان يختلف مع أستاذه خلافات يعلم الله بها بسبب هذا الجلف المسمي صابر, وشرح كلامه فقال: لعب عليه حتي كال له الدرجات فأصبح معيدا, ثم دافع عنه أمام لجان البعثات حتي اقتنص له بعثة الي فرنسا ومع ذلك ومع ذلك, وقاطعه صابر: ومع ذلك فأنت تري أنك كنت أولي مني بكل هذا يا عبدالدايم. ومع ذلك فأنا لا أدهش إذا ما تحولت الي تاجر روائح عطرية, أو متعهد لصبغات الشعر خلال زيارتك لباريس. وتبادل صابر مع عبدالدايم السباب, ثم صمت فجأة وسرح البصر إلي جوف ظلام ديسمبر, ورآه فريد كمن يقرأ الطالع من خلال الزجاجة الشهباء التي عكست ضوء فانوس الشارع الجانبي, ثم سمع صوته المميز وهو يهمس: لست أدري أي دافع يدفعني لاي مصارحتكم الليلة, هل لأني نجوت من مكائد الأهل ومكائد المنافسين.. أم لأني نجوت من خطر العباقرة أمثال عبدالدايم هذا أم لأني أتخذ من البعثة معبرا الي بلاد تنبسط فيها مجالات الرزق.. مما يجعل الإنسان غير ملزم أن يصطنع العلم أو الفن أو هذا وذاك من مزاعم. وسخر منه عبدالدايم قائلا: ان الخطر الذي نجا منه هو خطر أستاذه في الحقيقة, إذ لو كان عاش الزنجفلي لاكتشف خطأه, وقال فريد ليغير سياق التحدي: يزعم البعض ان العمل في صناعة الأصباغ والألوان أجدي من عمل الفن نفسه في هذه الأيام, ورد عليه صابر بأن الأمثلة علي ذلك تفقأ العين ومع ذلك يكابر المكابرون, ثم أردف مشيرا الي عبدالدايم: مع انه يعرف أن الزنجفلي كان يستجدي ثمن الدواء من البروسي ألا أنه يكابر. ولم يكن فريد يجهل التاجر الشهير عبدالنبي البروسي الذي ارتبط مصروفه كما ارتبطت نفقة امه باسمه الغريب منذ خرج شقيقة الي الدنيا, وحتي لايثير ريبة تلميذي ابيه سأل في سذاجة: لابد أنه من أعظم فناني البلد البروس هذا..!! أطلق عليه اسم البروس, مع أن اسمه الحقيقي عبدالنبي, وذلك لأنه كان مشهورا بالاتجار في هذا اللون الأزرق العجيب. ولاحقه عبدالدايم.. ومع ذلك فالزنجفلي لم يكن يستجدي عبدالنبي البروسي.. بل كان التاجر يخشاه ويطلب رضاه. لا تخلط الأمور, فالتاجر لم يكن يخشاه بسبب لوحاته التي تمجد الجمال في الطبيعة والانسان, لكن بسبب صلته بالوسطاء والمديرين الأجانب, فقد كان الزنجفلي متصلا بمن يعملون في السرايا أيام الملكية ومن يقومون علي شئون الفنادق العالمية, فكان يكفي أن يضع علي الورق عينة لعلاقة بين لونين يطلي بهما قصرا أو فندقا بأسره, وأيضا ليحتكر البروسي هذين اللونين من الأسواق, فيطلق عليهما اللون الملكي واللون السلطاني, وما الي ذلك من تسميات, فيكسب البروسي ما يشتري عزبة في كل عملية من العمليات. وقال عبدالدايم ومع ذلك كان الزنجفلي يرفض أن يستبدل مصيره بمصير البروسي كما تعلم تقصد يرفض النعمة ويطلب الفقر.. حتي لايجد ثمن الدواء ويعجز عن تربية أولاده. وشعر فريد أن ظنونا أخري مما كانت توسوس بها أمه تتكشف له نتيجة لإتقان وسائله التنكرية, وسمع عبدالدايم يقول: ليس قاعدة ان ينجب العبقري عبقريا, فإذا ما شق الزنجفلي الصغير طريقا غير طريق أبيه فلا يعني ذلك انه عجز عن تربيته. واتجه صابر ساخرا إليه وقال بانفعال خيل لفريد انه ملأ الحانة: أتعرف إلي ماذا انتهي ابن العبقري.. ابن الاستاذ الذي خرج الفنانين وملأت شهرته الأسماع, انتهي الي العمل( مرمطون) عند سمكري سيارات, لو رأيته لظننته احد ضحايا المجتمع ممن ينامون في برك القطران. لاتصدقه.. سلني أنا فهو لايعرفه, اقسم انك لن تعرفه لو رأيته لكني ظللت أتتبعه منذ تعلق بالتروس والمحاور, وبدأ بورشة قريب لوالدته ثم أخذ ينتقل من ورشة الي أخري كلما تقدم في خبرته الميكانيكية حتي عمل في أحد( الاجنسات). وشعر فريد كأن وسائله التنكرية تنكشف لعيني هذا المتطرف الذي اختفي في المعتقل مايزيد علي العام, ولم يخرج الا منذ أغسطس الماضي, وسمع صابر يلاحق عبدالدايم قائلا: يقصد إحدي محطات التشحيم, تشرفنا إذ تحول الزنجفلي الصغير الي نكرة من نكرات التشحيم لايجرؤ علي ان يعلن اسمه بين الناس. واضطرب فريد وشعر ان وسائله التنكرية تسقط عن وجهه, وكأن ملامحه تتحول بفعل الخمر الي الحروف التي تقرأ اسم الزنجفلي, وقال عبدالدايم: ان من أخلص لفن التشريح وخصائص الملامح لايتفوه بمثل هذا الكلام, فقد ورث الزنجفلي الصغير( فورم) الجمجمة عن الزنجفلي الكبير, أما استدارة وجهه فستتحول مع الأيام الي الاستطالة.. واحتج صابر قائلا: ولماذا الإخلاص للتشريح وخصائص الملامح ايها الواهم وعلي رأس التشكيليين أكبر أراجوز في العالم, وهمس فريد: لابد أنك تقصد بيكاسو. بل أقصد( بيكاشيو) كما كان يسميه أستاذنا طيب الله ثراه هو الآخر.. بتنا في أيام يمسك أحدهم بسفنجة مغموسة في الألوان ويطوق بها سطح لوحة كما تنظف المرآة ثم يقول لك هذا فن لاتفهمه, وكمن يتفق معه عبدالدايم اذا به يسأل: أليس هذا الفن هو شغل النقاد الشاغل, وما لم تعد أعينهم تري غيره من ابداع.. في آخر زيارة لصاحبك سحلب, ماذا تتصور رأيته يصنع, أقسم لكم وضع خليطا من الألوان في كوز ذي ثقوب, أي والله في الكوز الذي يصنع به الكنفاني الكنافة, ثم أطلق السائل من ثقوب الكوز وراح يدور به كالآخرق فوق سطح احدي اللوحات. وطبعا حققت له استحسانا وهنأته هاتفا حتي لاتصاب بعاهة فتخسر البعثة. وسأل فريد ضاحكا: لابد أن هذا هو الفن الذي لا تحمد عقباه والذي يطلقون عليه السريالية, وضحك عبدالدايم ثم أشعل سيجارة ونفث الدخان وقال: كان الألثغ يخطب متفاصحا والأعمي بلضم الإبرة ومقطوع الساقين يلعب الكرة, لكن كانت تسمي هذه الألعاب بأسمائها الحقيقية كما كانت لها سيركا خاصا, اما أن تخرج لي جيلا فاقدا للحاسة الجمالية فكانك تخرج جيلا فاقدا لضرورة العدل أو الحرية.. ومن هنا لا يندهش انزلاق الناس علي الجاهلية, يضيع الآن كل ما أسس عمك الزنجفلي, ولن أنسي كيف كان يصيح بنا في القسم لاتجزعوا وأنتم تطالعون صفحة الجرائم, فمصيركم صفحة الجرائم إذا ذبحتم العزيزة الاستاطيقية, وشرح عبدالدايم لفريد قائلا: يقصد ممارسة الإبداع والنقد أو التذوق, وأدلي فريد بدلوه علي قدر ما اقتنص لسانه من مأثورات: عندما ينظر المشاهد إلي مدينة من المدن...!! وقاطعه صابر: المدينة.... ان المدينة مهرسة يابني تدهي الإنسان خاصة من أتي من الأرياف مثلي حتي ينسي نفسه, ثم تهرسه في غيبة مقاصده وآماله الحقيقية. وخشي فريد أن ينزلق لسانه علي التلفظ بمقاصده الحقيقية ففكر أن يذهب إلي دورة المياه. وبدورة المياه خلع قلنسوته, فتهدل شعره الغزير واقترب من المرآة ليفحص آثار الشراب علي عينيه ووجهه, ومازالت ترن في أذنيه كلمات تلميذي والده, وتذكر محاولات أبيه لجذبه إليه طوال سنين صباه ثم تساءل: ينتسبان إليه كل معارفهما, فلماذا لم يعرف ذلك الأب كما عرفاه, ولماذا كتب عليه ألا ينتسب إليه كما ينتسبان إليه, بل لماذا تركه يموت وهو ينكره...؟ وتردد أن يزيل وسائل التنكر ويواجههم بجمجمته ووجهه الزنجفلي لكنه عاد فتساءل عن جدوي ذلك وهمس: اللهم الا إذا كنت أريد أن أهشم رأس هذا لأنه لم يستجب لنزوات فرانسواز وأهشم رأس ذاك لأنه استجاب لنزواتها. وعاد إلي الزميلين فوجد الحوار قد بلغ بينهما أقصي درجات الاحتدام, وكان صابر يهب من مقعده كمن يخطب في السكاري الذين توافدوا علي الحانة: ماكان أغناني عن البحث عنك والفشل عدة أيام في العثور عليك وغيري من المبعوثين لا يحفل بوداع أمثالك من المغمورين هنا, ورأي فريدا قد عاد إلي المائدة فأشار إلي عبد الدايم وصاح وقد لعبت الخمر برأسه... يظن عبدالدائم ابن... نفسه جويا أو سيزان, وتلطف فريد حتي أعاده إلي مقعده ولكنه مضي في انفعاله وصياحه: لا أمل له في عبور البحر وسيموت حيث ولد ومع ذلك ينال من المبعوثين بلسانه القذر. لم أنل منك ولا من غيرك ياصابر, لم أزد علي أن قلت له... ربما لا نلتقي مرة أخري وربما تنطلق عبر البحر فلا تعود. هذا جزائي أن أسعي لاعادتك إلي الخط الذي تهرب عنه, وأي مصلحة لي في أن اصل ما انقطع بينك وبين فرانسواز, ألم تك راعية فنك وزوجة أستاذك. وأيقن فريد أنه لابد سيفتضح أمره وقد تحول الحديث فجأة إلي زوجة أبيه, لذلك حاول إخفاء ما اعتراه بصب أقداح جديدة من الويسكي, وقدم لصابر قدحا وهو يطلب إليه أن يشرب معهما نخب المؤانسة قبل السفر, ولكن صابر سب المؤانسة مع أمثال هذا البطر المغرور السييء التربية, وأقسم لفريد أنه لا يجد الوقت لوداع أهل قريته وأن غيره من المبعوثين لايحفل بأمثال عبدالدايم هذا من الذين قفلت عقولهم وسيموتون حيث ولدوا دون أن يشاهدوا العالم المتحضر خاصة بعد أن تورط في السياسة... وسأل عبدالدايم... أسأل... هل ستخسر رعاية فرانسواز في البعثة إذا لم اسمح لها برعايتي هنا, فأي ضير في سؤالي هذا, وماذا أهاجك وأنت تقصد المصارحة قبل رحيلك, لو قلت أنك مازلت تحب الارستقراطية التي لفظتك وسافرت وأنت في المعتقل لكنت واهما, ولوقلت انك حريص علي حرمة أستاذك الذي انتقل إلي العالم الآخر, لكنت أنا اجهل آراءك الشيطانية في العواطف والأخلاق. وصمت فريد وشعر بعد الكأس التي شربها أن وسائله التنكرية تثقل عليه بين هذين المتنافسين في حفل عجيب من حفلات إزالة الأقنعة, لذلك اسند ظهره إلي مقعده وقد شعر برأسه تدور وترددت في أذنيه وسوسات أمه التي سهدت لتذكره بواجبه نحو الفرنسية التي هي بمثابة أمه مهما اختلفت عنهم وطنا ودينا, وسمع صابر ينوح وعبدالدايم ينوح أيضا. مسكينة فرانسواز... لم يعد لها من الشباب والرونق مايعزي فارغ العين مثل هذا الشقي... فارغ العين... لأني حافظت علي شرف أستاذي أبان حياته... أم بطر لأنني عندما اكتشفت أنني قد أقع أسير نزواتها انخرطت في نضال صرف عنها عواطفي الرعناء. انقاد وراء ارستقراطية قادته إلي المعتقل ثم هربت إلي ايطاليا. وماضرك في هذا... خلي لك الجو فأرضيت نزوات فرانسواز فهل كان يمكن أن تفوز بما فزت به لو لم ابتعد عن طريقك فيخلو لك الجو؟... وشعر فريد بالأسف أن عب من الويسكي ماجعل رأسه يدور, بينما كانت تلزمه أقصي درجات اليقظة ليسجل أول الاعترافات التي كانت موضع شكه, وسمع صابر وكأنه يتحدث عبر البحر: لقد ابتعدت عن طريقها لأنك تشاؤمي أحمق.. خسرتها وخسرت فنك. وسمع فريد من يسأله: ماذا يريد شخص خذل وسجن ولفظ فنه... أنه لايجد قوت يومه في مجتمع لايفهم فنه ومازال يكابر. وميز صوت عبدالدايم عندما أخذ يسأل فيجيب علي نفسه: هل تعرف أن فرانسواز اسمها فرانسواز دي سوارتيكا... ستقول وماذا يعني سوازتيكا أو غيره لكن من المهم أن تعرف أن سوازتيكا تعني المعقوف... وقد دمغ الرسامون إباها بهذا الاسم... لأنه تعاون مع النازي أيام احتلال فرنسا إذ ظن أن سيطرة النازي هي مصير العالم ونهاية التاريخ... وماذنبها... وهل تؤخذ بجريرة أبيها... وأن الزنجفلي عثر عليها في آخر الأربعينيات وهي تشتغل موديلا بموتمارتر بعد أن انتحر أبوها وتعذر عليها العيش بين الفرنسيين... ومع ذلك أحبها أستاذك ووجد فيها ملهمته.. وهل يجهل احد أن الزنجفلي لم يكن يحفل بالسياسة ولم تحتل من اهتمامه المكان اللائق... بل كان يسخر من السياسة والسياسيين... كما أنه أحضرها إلي مصر في ظروف لم يكن المصريون خلالها قد خبروا النظم الفاشية أو عرفوا هولها... كنا نسمع عنها فتبهرنا مظاهرها دون أن نعرف حقيقتها... بل كنا نبرر قيامها وإقدامها أما الآن... أما الآن فالأمر يختلف. وكمن لم يسمع حديث عبدالدايم قال صابر لفريد: هل سمعت عن المتنافسين اللذين يرثي أحدهما للآخر.. فيريد المحظوظ أن ينقذ الشقي... لكن يأبي الملعون النجاة. وجاهد فريد لتلتقط أذناه رد الشقي من خلال صخب الخمارة ولكن صمت الشقي, ورأي فريد ذلك المحظوظ واحدا من الطراز الذي يرتكب جرائم يعاقب عليها القانون مخلوقات غيره, ونظر صابر في ساعته كمن يخشي انطلاق سفينته المبحرة إلي فرنسا, وسمعه فريد يخاطب نفسه قائلا: يالحماقتي إذ احمل نفسي بهم مبتلي لا علاج له... يجلب علي نفسه الشقاء بنفسه... وسواء كان فردا أم شعبا فما حيلتي, وقرب وجهه من عبد الدايم وقال بصوت متهدج: مهما كنت اجهل النظريات والتحليلات التي تحشو بها رأسك إلا أنني اعرف شيئا واحدا تمام المعرفة... فأنا لابد أن أعيش مثل متحضري هذا العصر... لامفر من أن أعيش والي الجحيم بكل نظرياتك. وتلهف فريد علي سماع رد غبدالدايم, فقد خشي أن يكون ردا اخرق بتأثير الخمر, كأن يقول له ولماذا تعيش أيها السكير وأي فائدة من أمثالك, أو أي نفع للإنسانية في أمثالك, ولكنه سمعه يقول: لايوجد من يعترض علي حقك في العيش... ومن قال عكس ذلك... نعم لابد أن تعيش ولايوجد خلاف ذلك غاية أخري تنادي بها عقيدة أو نظرية... ولكن ما وسيلة هذه الغاية. ماذا تقصد بالغاية والوسيلة أيها الملفق. لكل غاية وسية لتحقيقها. وماهي الوسيلة لتحقيق غايتي. الوسيلة هي أن تحدد كيف ستموت... الطريقة التي تموت بها.. التي تعبر بها هذا العالم. ورأي فريد عبدالدايم يصحب كلامه بإشارة أرسلها خلال الناقدة وكأنه يمد يده في جوف الليل حيث توجد معابر خفية يراها بينما لايراها الآخرون, وساد المائدة صمت ثقيل, قطعه حضور ثلة المضاربين اليونانية وكذلك حضور أحمد رزق من جوف الخمارة, وتبادل اليونانيون مع رزق كلمات العزاء, كل بما أسعفه لسانه من رطانة, وأدرك فريد أنهم يقدمون العزاء لرزق في وفاة صديق عمره المقدس ميخائيل, وسمع الجرسون سافرتي يشرح لأحد اليونانيين مصاب رزق, فرآه قد ضم إصبعيه السبابتين أحدهما إلي الآخر وهو يقول برطانته الخاصة: أن توأم رزق في السكر الطينة قد مات من الشرب منذ يومين. وتذكر فريد السهرات التي ضحك فيها من مجون احمد رزق ونديمه ميخائيل, أيام ترك الدراسة مع والده ليشبع هوايته من ميكانيكا السيارات, وهي أيام الصيف التي يسميها ليالي البيرة, أيام كان يشقي مع الاسطوات طوال نهار الصيف القائظ, فإذا ماجن الليل خلع ثيابه المقطرنة واغتسل وشارك في المجون والهزو وهو يرشف البيرة المثلجة, وتذكر أيضا الشهور التي تلت القبض علي المتطرفين فخلت الخمارة من صخبهم ومناقشاتهم التي لاتنتهي وهي الشهور الباردة التي يسميها شهور الزوتوس وكان ذلك قبل أن تتوسط له فرانسواز لدي بلدياتها من الفرنسيين ليعمل في شركة سيارات البيجو وقدر أنه لم يأت إلي الحانة منذ ديسمبر الماضي, فقد حضر بها احتفال رأس السنة الماضية, وكان يتجنب عبدالدايم إذا ما صادفه يجالس الفنانين المتطرفين, وذلك سعيا للانعتاق مما لا طائل تحته من تعارف بعد أن فرقت بينهم السبل, ثم سجن عبدالدايم في حملة اعتقالات المتطرفين, وقاطع فريد الخمارة وقدر بعد عام أنه حتي لو صادف عبد الدايم في مستقبل الأيآم فلن يعرف احدهما الآخر وقد اختفي الزنجفلي الكبير الذي كان يرتبط به احدهما بروابط الدم والآخر بروابط الدرس. وترددت كلمات صابر تدوي داخل جمجمته: تحول الزنجفلي الصغير الي نكرة من نكرات التشحيم لايجرؤ علي أن يعلن اسمه بين الناس, وهمس من خلال الضجيج المتزايد: ها هو عبدالدايم يجلس إلي جواري دون أن يعرف من أكون بين السكاري. وأراد اليونانيون أن يصحبوا احمد رزق إلي مائدتهم بأغوار الخمارة, لكن المفقود العجوز كان قد اكتشف زجاجة الويسكي فصاح: جوني ووكر, انتم السابقون ونحن اللاحقون يا ميخائيل, وبعد أن استمطر اللعنات علي من يشرب الجوني ووكر بدونه الليلة وكل ليلة حتي يبعثوا جرع اقرب الأقداح دفعة واحدة. وفي حضور احمد رزق عاتب صابر زميله أن اختفي بعد خروجه من السجن مما جعل فرانسواز تسأل عنه في كل مكان, فسأله عبدالدايم: لماذا لم يذهب بها إلي وهدان أو فرحات أو جان من أهل الثقة الذين يستطيعون أن يستقبلوها في الأماكن الراقية ويحملوها في السيارات الأنيقة. وجهه صابر نافد الصبر قائلا: إنها لن تلبث أن تنصرف عن مثله من الحثالة.. فلن يجد من يقدر عمله في عالم لن تترك الإعلانات فيه مكانا للفن, فقال عبدالدائم كمن يبحث عن الكلمات: أن حالته مع ذلك ليست أسوأ الحالات, ثم سأله: هل تذكر الرسام بهجت بدران. وهل ينسي احد بحبح زعيم المتشائمين. رفض بهجت أن يطلقوا سراحه بعد أن تقرر الإفراج عنا, فلما اعتبروه ملتاثا وطردوه من المعتقل انتحر احتجاجا علي مايجري للإنسان. مغفل... وكم من آكلي الفول في هذه البلد يعرفون مأساته الخالدة. وصاح رزق فجأة كمن يهب من سكرته مذعورا: إلي يا مخائيل... وصلصلت الأقداح لانتفاضة رزق وكتمت الصحبة أنفاسها بينما خيل لصابر أن رذاذ الشراب قد اغرق ثيابه الأنيقة, وهمس عبدالدايم لفريد وكأنه لم يعد صابر بينهما: كان ميخائيل يعود به إلي حجرته كل ليلة. وتمتم صابر كمن ينبذ فكرة تلح علي خاطره: هيه انتحر... هيه عسي أن يجعله ذلك زعيم المحتجين في الآخرة. وشهد فريد وهو بين السكر واليقظة وداع تلميذي والده في تلك الليلة من ديسمبر, ورأي الحانة بعد انصراف عشيق فرانسواز, وكأنها احدي ورش التشحيم وقد غصت بعشرات الميكانيكية والسمكرية, وكأنه لم يبق الا عبدالدايم من ذلك العالم القديم الذي خلا بوفاة الزنجفلي الكبير. ولعب الويسكي برأسه فرأي عبدالدايم وهو يتأمل شاربه وشعره المهدل وقد سقطت قلنسوته وعويناته اسفل المائدة وكأنه يشير الي مختلف انواع المعابر التي يخفيها الليل. وافلتت منه الكلمات عندما حاول الكلام فلم يقتنص لسانه إلا نداء احمد رزق فقال ساخرا: الي ياميخائيل. وعندما حاول الكلام مرة اخري هوت رأسه علي المائدة بين الاقداح وكرر النداء وعبدالدايم يرفعه عن المائدة ويسند ظهره الي مقعده. الي يامخائيل. وتبادل مع تلميذ والده نظرة طويلة تغني عن كل كلام, واعاد اليه عبدالدايم قلنسوته وعويناته في صمت اذ لم تعد بينهما اي اسئلة أو اجوبة. تمت