مصر الآن أمام لحظة تاريخية,سوف تحول مصير كل شيء فيها, فهي تنطلق من واقع ثورة25 يناير, نحو بناء دولة مدنية حديثة لكن هل الأرض قد مهدت تماما لبناء الدولة الحديثة؟. أمامنا حقيقة تقول إن الأهداف التي تنادي بها الثورة لم تتحقق كلها الآن, صحيح ان الحكومة الوطنية الحالية, التي جاءت برضا الشعب, عليها عبء ثقيل, وهي تتحرك بخطي ملموسة, لكن البناء السليم, يتطلب ان يتم تشييده علي أرض ممهدة. وأن تنزع من التربة البذور السامة التي غرسها النظام السابق, الذي أثبتت حصيلة ما خلفه وراءه, انه كان فاقدا للقدرة, أو الرغبة, أو كلتيهما معا, للحكم الرشيد, لبلد بقيمة وتاريخ ودور مصر, فكانت المقارنة بين القيمة العالية للدولة, وبين القامة القزمية للنظام, وأدواته وأعوانه. ان النظام السابق لم تكن لديه حنكة لفن وعلم الحكم, فاقد الصلاحية لشغل المكانة التي يحتلها علي قمة المسئولية, كل صور الأداء, وأساليب الادارة, والتفكير, ولغة الخطاب, شاهد علي ذلك.. فهو فاقد للرؤية السياسية, وللفكر الاستراتيجي, قاصر عن تحديد هوية الدولة, أو ماذا يريد لها ان تكون, كان العالم من حوله, وضمنه دول صغيرة المقارنة بمصر تستوعب ذلك كله, وتنهض وتتقدم, إلا هو, فلم تكن كلمة التغيير تلقي قبولا لديه. كان النظام في مصر, يتبع العكس, فهو يجفف نهر السياسة, من كل فكر ورأيلا يروق له, حتي أحاله الي بركة ضحلة راكدة, تغوص فيها شبكات المصالح. وكان من دواعي العجب ان بعض القيادات من النظام السابق, كانت تستمد طريقة التفكير من البركة الضحلة, فمثلا حين تتحدث الي الناس بلغة مغلوطة في قراءة مضللة للتاريخ, فكنت تسمع بعضهم يقول ان الديمقراطية لا تشغل المواطن العادي, فهذا حديث النخبة المشاكسة عالية الصوت, وهو بهذا يتجاهل ما يجري في العالم من تغير في مفهوم الديمقراطية, وكيف أنها لم تعد تعني نظاما سياسيا, بل ان مضمونها اتسع ليشمل كل شيء من مقومات الأمن القومي, وقدرة الدولة ومكانتها, الي الارتقاء بالبشر, ونجاح التنمية, والتقدم والنهضة, والازدهار الثقافي, والانتماء, والهوية الوطنية. كان النظام في عوز من المقومات التي يدار بها الحكم, والتي تبرر بقاءه, وتعطيه شرعيته, فعلي يديه حدث التراجع, والتدهور, والتدني, في كل ما يمس حياة المواطن, من التنمية, والتعليم, والصحة, والبحث العلمي, والانتاج, وتوفير الغذاء ذاتيا, في مقابل بناء هيكل دولة المصالح, والوقوف في عداء صريح ضد أي جهود لدعم وجود الدولة المنتجة زراعيا وصناعيا, من أجل التوسع في الاستيراد, وفوضي الأجور. لقد كرس النظام نمط الفردية في القرار, وإقصاء الرأي المخالف, وحرمان البلد من أصحاب الخبرة والمعرفة, ليس لسبب سوي أنهم لهم رأي مستقل, يراعي صالح الوطن قبل اي شيء آخر, وأطلق العنان لتكاثر المنافقين, والذين كونوا من حول أنفسهم حلقات أخري من صغار المنافقين, حتي علا صوتهم جميعا في معزوفة نشاز من الصراخ للتشويش علي أي صوت صادق. ولم تكن للنظام رؤية علمية لمعني الأمن القومي, حتي ان الرئيس السابق قد جرد الحكم من وجود مجلس أمن قومي, في وقت تتصاعد فيه التهديدات للدولة من كل ناحية, بحيث تراجعت الدولة, عن مواقع لها, تصد عنها مثل هذه التهديدات, فحدث التراجع عن وجود كان لها في افريقيا, وبدا الموقف ضبابيا ناحية عمق مصر الاستراتيجي في قضايا مثل السودان وأحداثه وعدم وجود ادارة لعملية السلام في مواجهة امتلاك اسرائيل ادارة استراتيجية لعملية السلام وخفوت الرؤية السياسية للتحول الدولي ناحية آسيا والتي تنبيء بأن مركز التأثير العالمي سينتقل من الغرب الي اسيا وكانت ادارة العلاقة مع اسرائيل تخلو من رؤية علمية تتعامل بندية مع التفكير الاستراتيجي الاسرائيلي تجاه العالم العربي كله, ومصر علي وجه الخصوص, وفوق ذلك كله كان تراجع الدور الاقليمي لمصر خاصة في العالم العربي. هذا ما كان.. ويبقي ان القطيعة مع النظام السابق هي مصلحة وطن, وهي المدخل لتنظيف التربة من الحشائش الضارة المتخلفة عنه. وتمهدها لبناء الدولة المدنية الحديثة. وكان من المهم ان يراجع شباب ثورة25 يناير, ما سبق ان أشاروا اليه من عدم نيتهم إقامة حزب سياسي؟..ربما كان الاسباب انهم أفراد ينتمون لحركات سياسية متنوعة, ومنهم مستقلون, لكن أمامنا من تجارب التاريخ القريب, ما حدث بعد ثورة19, عندما تأسس حزب الوفد من أصحاب توجهات متعددة, لكن جمع بينهم المطلب الوطني الملح وقتها, أي ان التنوع في ظروف مصر الراهنة ليس عائقا, طالما ان الهدف الملح واحدعند الجميع. ثم ان هناك شخصيات عديدة, يتلاقون معها فكريا, وسوف تزيد عملهم ثراء, وهم الذين اختاروا ان تكون لهم مواقف في مواجهة النظام السابق, أعلنوها صراحة في ندوات أو كتابات, أو في مواقف احتجاجية. ان قيام حزب أو أحزاب أو ائتلاف يمثل كل هؤلاء, سواء من شارك مباشرة في الثورة, أو من أدي دورا كان يعمل بالضرورة علي تهيئة المناخ, الذي جهز ملايين المصريين للتحرك منضمين الي صفوف الثورة, هو في تقديري مصلحة وطنية, وأن يلتقي الجميع في اطار تيار سياسي فاعل, يملك رؤية للفترة المقبلة. حتي وأن كان ذلك في أكثر من حزب واحد. المزيد من مقالات عاطف الغمري