بقدر ما فوجيء العالم بتطورات ثورة52 يناير في مصر, فوجئنا نحن في مصر بحجم الاهتمام العالمي بما يدور في مصر, خاصة وكان يتردد قبل ذلك خارجيا أن دور مصر الإقليمي والدولي شهد انحسارا مستمرا خلال الأعوام السابقة, وهي مقولة سليمة الي حد ما, رغم أنها غير مكتملة, ولي في ذلك حديث آخر لاحقا. أتذكر جيدا تعليق أحد المصريين متعجبا عن مدي اهتمام العالم الخارجي, من غربه الي شرقه, بتطورات الثورة المصرية, بما في ذلك ارتفاع ثم انخفاض ثم ارتفاع البورصات الأجنبية مع تطور الأحداث, وكانت قد وصلتني اتصالات تليفونية من العديد من السفراء الأجانب في مصر خلال الأحداث, بمن فيهم من لم ألتق به من قبل, سعيا وراء المعلومات والتصورات لتطور الأحداث, وهي اتصالات كنت أحاول التعامل معها بإيجابية, من منطلق خلفيتي المهنية الدبلوماسية, وإنما بحذر ودقة حيث إنني شديد التمسك بأن تظل الثورة المصرية نقية من أي تدخل أجنبي, ومؤمنة من التأويلات, كما أنني أعلم جيدا أن مرجع الاهتمام الأجنبي الأساسي هو تأمين مصالح تلك الدول في مصر, أو في الشرق الأوسط والعالم العربي, نظرا لتداعيات الأحداث المصرية علي الدول المجاورة لنا, خاصة الدول العربية. وقد انصبت أسئلة العالم الخارجي حول ثلاثة محاور, وهي: 1 شكل وتسلسل تطور الأحداث في الساحة المصرية. 2 تداعيات التطورات المصرية علي العالم العربي. 3 علاقات مصر الخارجية ما بعد الثورة, فيما يتعلق بالمنطقة التي تنتمي إليها, فضلا عن الدولة المعنية ثنائيا, وفي هذا الإطار كانت هناك العديد من الأسئلة حول المواقف المصرية المتوقعة من عملية السلام العربية الإسرائيلية. رغم أهمية هذه الأسئلة, لن أتعرض هنا للساحة المصرية الداخلية, وأكتفي في ملاحظاتي اليوم بتناول علاقات مصر الخارجية العربية والدولية. وقد وجهت بالأسئلة التي أشرت إليها, خلال حضوري لمجموعة مؤتمرات خارجية قصيرة في الأسابيع الأخيرة, من ضمنهم مؤتمر شاركت فيه منذ أسبوع عن نزع السلاح النووي بالعاصمة النمساوية فيينا, وكنت قد وصلت الي قاعة الاجتماع بعد بدء الجلسة بلحظات, وخلال قيام رئيس المؤتمر بقراءة جدول الأعمال, ففاجأت المندوبة الفرنسية الجميع بمقاطعة رئيس الجلسة بنقطة نظام للفت نظره الي أن نبيل فهمي وصل القاعة, مستفسرة إذا كان جادا في البدء بمناقشته موضوع نزع السلاح النووي بعد وصولي, ومطالبة تأجيل المناقشة لكي يستمع المؤتمر مني عن التجربة المصرية الفريدة, وأيدها في ذلك الخبير الألماني, وبالفعل أمضيت أول ساعة من الجلسة الافتتاحية في استعراض التجربة المصرية, والرد علي بعض الأسئلة, ثم خصصت ساعة أخري في نهاية اليوم الأول لاستكمال الرد علي الأسئلة, والملاحظات التي عكست الانبهار والإعجاب الشديد بنقاء حضارة الشعب المصري المتظاهر سلميا رغم كل الضغوط, والمتمسك بحقوقه رغم كل الصعاب, وبالتزام قواته المسلحة بعدم استخدام القوة ضد المدنيين مهما كانت التحديات. وقد رويت هذه القصة, وأنا فخور بها, ويجب أن يفخر بها أي مصري, فالاهتمام والتقدير لم يكن لشخصي وإنما لشعب مصر, وأعتبر دون مبالغة أن القصة تعكس أول إنجاز في السياسة الخارجية لثوار52 يناير, فالثورة أعادت لمصر مكانتها الحضارية وريادة المبادرة في الشرق الأوسط, وأصبح العالم العربي والأجنبي ينظر الي مصر الشابة الفتية, صاحبة المستقبل المتجدد, والرؤية المتنوعة, مما يدعم من ثقلها الإقليمي ووزنها الدولي, عندما تطرح أفكارا جديدة, أو تقول نعم لاطروحات إيجابية من قبل الغير, أو ترفض مواقف لا تتفق مع مصالحها أو مصالح المناطق التي تنتمي إليها. وإذا كان هذا أول إنجاز, فلعل أول ممارسة خارجية عملية للثوار كانت استقبال شباب الثورة للوفود الأجنبية العديدة التي زارت مصر في الأونة الأخيرة, فقبل بعض الثوارعقد لقاءات مع بعضهم, بمن فيهم ممثلون من أوروبا الغربية, وإنما اعتذر أغلبهم عن عقد لقاء مع وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون, تعبيرا عن عدم ارتياح للتردد الأمريكي في تأييد ثورة في مراحلها الآولي رغم أهمية العلاقة المصرية الأمريكية للجانبين, وهي رسالة لها مغزاها ومدلولها. حيث تعد تنويها للولايات المتحدة ولغيرها أنه لا يمكن تجاهل أو الاستهانة بأماني وتطلعات وشجون الرأي العام المصري أو العربي مستقبلا, وهي رسالة تركت أثرا لدي الجانب الأمريكي رغم أنه لم يود التركيز عليها إعلاميا, وقد اجتمعت, مع بعض ممثلي المجتمع المدني, مع الوزيرة كلينتون وكذلك مع رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ السيناتور كيري خلال زيارتهما الأخيرة, ووجدتهما شديدي الحرص علي الاستماع الي الرؤية المصرية الشعبية, وأعرب كيري بشكل خاص عن نيته لاتخاذ مواقف بناءة في الكونجرس الأمريكي لمساعدة مصر اقتصاديا. أعتقد أن السياسة الخارجية المصرية خلال المرحلة القادمة ستتسم بنفس القدر من الصراحة والوضوح الذي أظهره الشباب, في نفس الوقت ستتسم مواقفها بالاتزان المطلوب, وتحديد أولويات محددة, فلا أعتقد أن مصر ستغض طرفا تجاه من أخطأ في حقها, وإنما ستحسب خطواتها وردود أفعالها بدقة, ووفقا لما يحقق مصالحها علي المدي القصير والبعيد, وسيتركز علي الأولويات الطبيعية لأي دولة, وهي العلاقات مع الدول المجاورة, ومصالحها الاستراتيجية التي ترتبط بالحرب والسلام والموارد الأساسية, والدول التي تشاركها الهوية وهي فلسطين وإسرائيل والسودان وليبيا ودول حوض النيل والدول العربية, فلابد من إعطاء الأولوية لإدارة علاقات مصر مع هذه الدول, لتعظيم نقاط الاتفاق, والتعامل الموضوعي مع الاختلافات, والإدارة الواعية للأزمات دون أن تهمل علاقاتها الدولية المتعددة باعتبارنا نعيش في عالم مترابط ومتصل, وعلينا التحرك في إطارمنظومة دولية بتقاليدها وقوانينها ننتمي إليها ونؤثر فيها. كما أثق أن الحكومة تستمد شرعيتها من ثورة قادها الشباب, بما في ذلك وزارة الخارجية, ستعمل وتخطط بمنظور مستقبلي, بناء للمستقبل بكل ما يحمله من فرص وتحديات. وهناك بعض المؤشرات الجارية التي تعكس تفكيرا متجددا ومتطورا في السياسة الخارجية المصرية, كما أتوقع أن يعكس التحرك السياسي للخارجية المصرية في الأيام القادمة نظرة متجددة للأمور, فإذا كنا قد استقبلنا بالقاهرة العديد من المسئولين الأجانب والعرب التقي بهم رئيس المجلس العسكري الأعلي المشير طنطاوي ورئيس الوزراء الدكتور عصام شرف, ووزير الخارجية الدكتور نبيل العربي, فكان لافتا للنظر الإعلان عن قيام مدير المخابرات المصرية بزيارة كل من سوريا وقطر, وينتظر قيام وزير الخارجية بالتوجه جنوبا نحو السودان للقاء قادة الشمال والجنوب, علما بأنه جار الآن مراجعة الملف الفلسطيني بأكمله دعما للسلطة الفلسطينية وتوجهها التفاوضي, وسعيا لتحقيق المصالحة بين السلطة وحماس, ووضع ترتيبات جديدة بالنسبة للمنطقة الحدودية المصرية مع غزة, يكون لها مدلولها السياسي, فضلا عن انها ستوفر معاملة أفضل لمواطني غزة والعابرين منها وإليها. ومن الطبيعي أن تتابع إسرائيل ما يتم في مصر بعناية بالغة باعتبارها دولة مجاورة, وفي ضوء وجود اتفاقيتي السلام مع مصر والأردن, دون أن يستكمل المشوار رغم أن كل رؤساء مصر بعد الثورة, مع اختلاف توجهاتهم وممارستهم, أيدوا السلام العربي الإسرائيلي الشامل, بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة وإقامة دولة فلسطينية حرة عاصمتها القدسالشرقية, والقمة العربية في بيروت أكدت وأيدت نفس التوجه, ولن يتنازل أو يتهاون أصحاب الثورة المصرية أو الشباب العربي عامة عن هذا المطلب العادل, في سعيه لبناء مستقبل أفضل وأكثر أمانا, وإذا أرادت إسرائيل سلاما حقيقيا ومصالحة حكومية وشعبية في الشرق الأوسط, عليها مراجعة مواقفها ومصارحة نفسها والابتعاد عن المناورات واتخاذ مواقف تعكس التزامها الحقيقي بالانسحاب من الأراضي العربية المحتلة, وإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة. المزيد من مقالات نبيل اسماعيل فهمى