فتحي شاب ريفي متدين غير متعلم, يعمل كحارس عقار في أحد أحياء القاهرة, خرج صباح يوم الاستفتاء علي التعديلات الدستورية متوجها الي أقرب لجنة انتخابية, عاقدا العزم أن يقول لا للتعديلات. لماذا؟( عايزين نعمل قواعد جديدة للبلد) فتحي عبر بكلماته الخاصة تلك عن الرغبة في وضع دستور جديد للبلاد, لا مجرد تعديل الدستور القائم, لكن ماحدث هو أنه عندما وصل الي اللجنة وجد أحد الأشخاص خارجها يتحدث معه, وبعد حوار قصير دخل فتحي اللجنة وأدلي بصوته معلنا موافقته علي التعديلات, بعد أن اقتنع تماما بضرورة أن يقول نعم..( عشان المسيحيين مايغيروش المادة بتاعة الدين)! حالة هذا الشاب البسيط لم تكن مجرد حالة خاصة أو استثناء عما حدث يوم الاستفتاء, لاسيما في الأرياف, مصدر قضائي ممن شاركوا في الاشراف علي عملية التصويت, قال لملحق( شباب التحرير) إن كثيرين من أبناء القري والنجوع الذين أدلوا بأصواتهم صوتوا بالموافقة علي التعديلات باعتبار أن ذلك واجب ديني, وأكد بعضهم انه اختار الدائرة الخضراء( التي تعني الموافقة) حتي يدخل الجنة, أو حتي لا يدخل النار, في حين عبر البعض الآخر عن نفس الموقف, ولكن بكلمات مختلفة مثل أنهم اختاروا الدائرة التي علي اليمين( الموافقة) حتي يجعلهم الله من أهل اليمين, وهكذا. ولا يقتصر الأمر علي القري أو أبنائها من البسطاء, إذ أن الواضح أن عملية منظمة للإقناع بضرورة التصويت بالموافقة قد تم اجراؤها علي مستويات عدة ووسط شرائح اجتماعية مختلفة, يؤكد ذلك ماذكره لنا موظف كبير بإحدي الجهات العاملة في مجال البترول حيث قال إن شخصا ملتحيا توجه الي تلك الجهة صبيحة يوم الاستفتاء والتقي بالعاملين فيها وتحدث معهم حول عملية التصويت داعيا اياهم الي قبول التعديلات. ويضيف الموظف الكبير قائلا: إنه قد تم إجراء مايشبه عملية( غسيل مخ) له ولزملائه, حيث اقتنعوا جميعا بضرورة التصويت( بنعم), وهكذا فعلوا! لماذا جري كل ذلك؟ ومن خطط له؟ ولأي هدف؟ تساؤلات عديدة سنحاول مناقشة اجاباتها خلال السطور المقبلة, لكن لابد في البداية من التأكيد علي نقاط ثلاث: أولها ضرورة احترام رأي الأغلبية, وعدم التقليل من شأنه, أيا كان الأمر, وتلك مقتضيات الديمقراطية, وثانيا أنه ليس كل من صوت بالموافقة علي التعديلات كان ينطلق من اعتبارات دينية, بل ان الكثيرين اختاروا هذا الطريق سعيا وراء الاستقرار, والعمل علي تقصير الفترة الانتقالية التي نعيشها الآن قدر الإمكان, أما النقطة الثالثة فيما نود الاشارة اليه هو أن البعض من فريق النخبة التي صوتت برفض التعديلات اتخذ مما حدث يوم الاستفتاء وسيلة لتأكيد صحة ماذهبوا اليه من قبل من أنه لا يمكن للاسلاميين أن يمارسوا السياسة بشكلها المعتاد, لأنهم يحولونها الي عمل مقدس, ويفرضون اتجاههم فرضا, فهل هذا صحيح؟! أو بالأحري أليس هناك من سبيل يمكن أن يمارس الإسلاميون من خلاله السياسة باعتبارها عملا دنيويا؟ علي مستوي الواقع العملي وما حدث علي الأرض في الاستفتاء يمكن التمييز بين موقفين رئيسيين( معلنين) للتيارات الإسلامية المختلفة, أولها وهو الأسهل في المناقشة ماذهب اليه سلفيون قبل الاستفتاء من أن التصويت( بنعم) واجب شرعي, أو بعد الاستفتاء بوصف ماجري علي أنه انتصار في( غزوة الصناديق), وأن من قالوا( لا) قد عرفوا قدرهم ومقامهم في مقابل قدر الدين!. والحق أن منبع السهولة في مناقشة هذا الرأي هو أنه لا مناقشة معه من الأساس, فأربابه لا يتحاورون, ولا يعرفون أصلا كيف يمارسون عملا سياسيا, لأنهم اعتادوا في الغالب علي أن يخوضوا حروبا, كما تدل علي ذلك كلمة( غزوة)! أما الموقف الثاني المعلن لأصحاب التوجه الإسلامي فقد تمثل في تبني الموافقة علي التعديلات الدستورية, دون ربط ذلك بالدين, أي باعتباره اختيارا سياسيا لا دينيا, وهو ماعبر عنه موقف جماعة( الاخوان المسلمين) علي سبيل المثال, باعتبارها الفصيل الأكبر في هذا المضمار, لكن لابد من الاشارة في الوقت نفسه الي أنه تم رصد عملية حشد وتجييش منظمة للإدلاء بالأصوات والموافقة علي التعديلات, وهو ماعكس اصرارا شديدا علي تحقيق هذا الاختيار وليس مجرد الدعوة الي المشاركة, فلماذا اعتبر الاخوان الأمر بمثابة معركة سياسية ينبغي الفوز فيها؟! وهل وجدوا في الأمر مصلحة سياسية( قريبة) حيث تتيح الموافقة علي التعديلات سرعة اجراء الانتخابات بما يضمن لهم الفوز في ظل عدم بروز أي قوي سياسية أخري علي الساحة بعد؟ وما الذي تم تلقينه لأعضاء الجماعة التي تقوم علي السمع والطاعة لحشد الأصوات؟ وهل تم اعتبار التصويت( بنعم) مجرد مصلحة سياسية وفقا لما هو معلن أم واجبا دينيا بشكل أو بآخر؟! تساؤلات عديدة لا شك أن من شأها أن تفرض نفسها علي ذهن المراقب لما جري, لكن هذه التساؤلات قد تتحول الي مخاوف لدي المتشككين أصلا في نوايا الإسلاميين ومدي ايمان هؤلاء بالديمقراطية, ليصبح السؤال هو.. هل الإسلاميون جادون بالفعل في دخول مضمار السياسة باعتبارها سياسة لا دينا؟! وماهي نسبة المقدس الي البشري في ممارساتهم؟ وما الذي تعنيه أصلا المرجعية الإسلامية لبعض القوي والأحزاب؟ وتجدر الاشادة هنا الي ان ملحق( شباب التحرير) كان قد أطلق يوم الرابع من مارس الجاري مبادرة لاقامة حوار وطني حول علاقة الدين بالسياسة, لاسيما بعد أن أتاحت ثورة 25 يناير للأحزاب الإسلامية أن تخرج أخيرا الي النور بعد سنوات من الحظر والإقصاء, وقلنا آنذاك إنه ينبغي علي الإسلاميين أن يدركوا أنه لا يوجد في الإسلام سياسة واحدة, بل سياسات عديدة, بمعني أنه لا يوجد في الغالب موقف سياسي يكون فيه أحد الأفعال السياسية وحده دون غيره, متفقا مع أحكام الإسلام, بمعني أن يكون هذا الفعل مقدسا وما ترونه حراما, بل أن أعمال قواعد الفقه الإسلامي الرحبة تجيز وتسمح بتطبيق أكثر من فعل في الموقف السياسي الواحد. وجاءت ملابسات مشاركة الإسلاميين في الاستفتاء الأخير لتجدد هذه الدعوة للحوار, ليقوم علي أسس فكرية نظرية للحوار, تعود بالأمور التي أصولها لا معايير حركية تعني بتحقيق مصلحة سياسية في ظروف ما, فكيف ينبغي أن يمارس الإسلامي الجديد السياسة في عصر ما بعد الثورة؟ الحق أن المرء كثيرا ما يتعجب عندما يجد اجتهادات فكرية شديدة الأهمية في هذا الإطار, إلا أنها لم تحظ بالرواج الإعلامي الواجب لها, لما تحمله من بعد نظر وسعة أفق. حسن العشماوي هو اسم لا يعرفه الكثيرون لكن صاحبه يعد من أهم أصحاب الرؤي التقدمية علي صعيد الفكر السياسي الإسلامي, ويقول عنه الدكتور محمد سليم العوا في كتابه الذي يحمل عنوان( في النظام السياسي للدولة الإسلامية), إنه قدم تفرقة جريئة بين الإلهي والبشري في الفكر السياسي الإسلامي, فالإلهي هو النواميس الكونية وأحكام الشريعة والبشري هو التطبيق, عن طريق الاختيار من بين الحلول المتعددة التي تتيحها الثوابت الدينية و(الحاكمية لله) لا تعني سوي سيادة نواميسه تعالي, وهي قائمة علي كل حال, أما الحكم فهو شأن من شئون الناس تقيدهم فيه الشريعة الموحاة ثم يختارون لأنفسهم من النظم والأشخاص ما يشاءون. لكن العشماوي يقول إن الأحكام التشريعية ما أقلها في شئون الدنيا, وأن الرسول صلي الله عليه وسلم كان ينهي الناس عن الاستكثار منها, لأن الخالق جل وعلا لا يريد أن يتدخل في رسم تفاصيل سبيل أهل الأرض, إنما جعل لهم في العقل والضمير ما يكفيهم. وتقوم نظرة العشماوي إلي مشكلة الحكم علي ركيزتين أساسيتين, متكاملتين متجاوبتين, هما التسليم بالوجود الإلهي والإيمان بالحرية الفردية, ويري أن الحكم يكون ناجحا إذا استطاع الناس المواءمة بين الاثنين. وهو يتساءل قائلا: هل دلونا ما المقصود بحاكمية الله في أرضه؟ هل أراد الله أن تحكم الأرض علي شكل معين؟ هل رسم لها صورة للحكم؟ لا.. أقولها بكل ثقة, وأتحدي من يقول غير هذا أن يأتيني بدليل. أما الفقه الإسلامي كما يري العشماوي فإنه اجتهاد من سبقونا في فهم الشريعة, وفي تطبيق الصالح من الأحكام علي شئون الناس, وهو يستحق أن يجمع ليقرأه الراغبون في فهم الشريعة, لكنه لا يلزم أحدا من أهل الاجتهاد الآن. تلك هي أفكار حسن العشماوي الذي لا يحظي بشهرة واسعة علي صعيد الفكر السياسي الإسلامي رغم ما أسهم به, ومن المفارقات العجيبة أن هذه الأفكار قد أوردها العشماوي عام 1970 في بحث صغير تحت عنوان( الفرد العربي ومشكلة الحكم), جاء ملحقا في ختام مسرحية كتبها العشماوي عن الاستبداد بعنوان( قلب آخر لأجل الزعيم)!. وسواء بالنسبة للبحث أو المسرحية فإننا لم نتمكن من العثور علي النص الكامل لهما في كبري المكتبات المصرية, بل إن الدكتور سليم العوا نفسه لا يحتفظ بنسخة لأي منهما, وما أمكن العثور عليه هو فقط أجزاء من البحث, علي موقع إلكتروني يحمل اسم( رابطة أدباء الشام), رغم أن العشماوي ليس أديبا, فضلا عن كونه غير شامي!. وأخيرا فإننا كنا نتمني أن يبادر الإخوان المسلمون إلي إعلان رفض التعديلات الدستورية, لإتاحة الفرصة أمام المجتمع والثورة للعمل علي وضع دستور جديد يحمي الجميع, ولاعطاء مزيد من الوقت لكل القوي للاستعداد للانتخابات, حتي تأتي اختيارات المجتمع معبرة بحق عن قواه السياسية المختلفة, وحتي يكون ذلك بمثابة ملموسة سياسية جديدة للإخوان, في عصر ما بعد الثورة, كنا نتمني, لكن ذلك لم يحدث. وعلي أي حال.. يبقي السؤال.. هل يمكن في ظل ما عرضناه من اجتهادات فكرية متقدمة أن تكون الموافقة علي التعديلات, أو رفضها واجبا دينيا, أو غزوة حربية؟! أجب أنت بنفسك من فضلك!. [email protected]