عندما امتدح العقيد معمر القذافي المانيا,واشاد بموقفها الرافض لفرض منطقة حظر جوي فوق ليبيا قبل قرار مجلس الأمن بايام واعدا برلين بعقود نفطية سخية في المستقبل دونا عن بقية الدول الغربية, توقع البعض أن يدفع ذلك الثناء حكومة المستشارة انجيلا ميركل لتغيير موقفها من إستخدام القوة ضد نظام العقيد علي الأقل من باب درء الشبهات, خاصة وأن السياسيين الألمان وفي مقدمتهم وزير الخارجية جيدو فسترفيله كانوا اول من انتقد القذافي عندما بدأ في قمع الانتفاضة الشعبيه في بلاده. غير أن ذلك لم يحدث وأشعل امتناع المانيا عن التصويت علي قرار مجلس الأمن جدلا واسعا في المانيا وداخل الاتحاد الأوروبي, وحصدت المستشارة ووزير خارجيتها إتهامات داخلية واوروبية بتخلي المانيا عن حلفائها في الغرب والتسبب في عزل نفسها دوليا بهذا الموقف وهي الدولة الرائدة في الاتحاد الاوروبي والتي تسعي بدأب دبلوماسي تحسد عليه منذ سنوات للحصول علي مقعد دائم في مجلس الأمن. من بين الانتقادات التي وجهها الحزب الاشتراكي الديمقراطي المعارض للحكومة, أنها تسببت في إتساع الهوة بين الدول الأوروبية والابتعاد أكثر عن سياسة أمنية وخارجية أوروبية موحدة. أما حزب الخضر فقد انتقد حديث برلين المتواصل عن دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان في مصر وتونس ودول شمال إفريقيا ثم عدم تدخلها لحماية هذه القيم في ليبيا في دليل واضح علي أن التطبيق العملي للتصريحات يتطلب شجاعة من نوع خاص غير التجول في ميدان التحرير بعد إنتهاء الثورة كما فعل فيسترفيله! ومن داخل الاتحاد المسيحي الديمقراطي الحاكم نفسه خرجت انتقادات علي لسان رئيس لجنة العلالقات الخارجية في البرلمان روبرشت بولنس الذي قال ان الموافقة علي قرار مجلس الأمن لم يكن يعني بالضرورة أن تشارك القوات الألمانية بالطائرات والقوات علي خط المواجهة في ليبيا. ويري بولنس ومعه عدد كبير من السياسيين أن المانيا تصرفت بضيق أفق عندما رفضت الانضمام لحلفائها, بريطانيا وفرنساوالولاياتالمتحدة ويتساءلون: إذا كانت ميركل نفسها عرضت بعد الامتناع عن التصويت إستخدام القواعد الألمانية في هذه العمليات إضافة إلي قيام الولاياتالمتحدة بتنسيق الهجمات الجوية بالطائرات والصواريخ التي تشنها مع فرنسا وبريطانيا علي ليبيا من قيادة القوات الأمريكية في أوروبا ومقرها مدينة شتوتجارت الألمانية, وإذا كان وزير الدفاع الالماني عرض تولي القوات الألمانية أعباء إضافية في أفغانستان لتخفيف العبء علي قوات التحالف الدولية في ضرب الأهداف الليبية, الا يمكن اعتبار كل ذلك نوعا من المشاركة الألمانية الفعلية في التحرك العسكري ضد ليبيا ؟ والم يكن من الأفضل لألمانيا ولصورتها الدولية أن تصوت بنعم علي القرار؟ وزير الخارجية فسترفيله يصر علي سلامة موقف بلاده, ويكرر أن الدافع الرئيسي لرفض برلين التحرك العسكري ضد ليبيا هو تقييمها لحجم المخاطر المترتبة علي تلك الخطوة ورفضها التورط في حرب شاملة في ليبيا, كما أن المانيا ليست وحدها داخل الاتحاد الأوروبي التي تري ذلك فهناك ايضا بولندا علي سبيل المثال. وتري برلين أن زيادة الضغط السياسي وفرض حظر علي صادرات النفط الليبية سيجعل القذافي يرضخ للمجتمع الدولي. إستعان فسترفيله بآراء خبراء سياسيين وعسكريين كبار في دعم موقف حكومته. منهم فولكر بيرتس رئيس أهم مؤسسة بحثية المانية الذي يري أن المانيا لم تكن من بين الدول التي تغازل القذافي من قبل فليست الآن بحاجة لإثبات العكس باتخاذ موقف أكثر تشددا من غيرها, ويحذر ايضا من مخاطر فشل الضربات الجوية في وقف قوات القذافي.اما الجنرال كويات المفتش العام السابق للجيش الألماني فينتقد عدم وجود إستراتيجية واضحة للعملية العسكرية في ليبيا ويزيد الموقف صعوبةفي رأيه قيام القذافي بنشر قواته في مناطق سكنية ومقتربا من مناطق قوات الثوار ما يجعل من الصعب عدم وقوع ضحايا ابرياء بسبب القصف الجوي وهو ما حدث بالفعل ولذا فإن الخطوة القادمة ستكون إرسال قوات برية إلي ليبيا ليس من الضرورة أن يستقبلها الليبيون كقوات تحرير مذكرا بسيناريو افغانستان والصومال مع الفارق, يضاف إلي ذلك المشاركة العربية الضعيفة في عملية ليبيا. وبالطبع يذكر المسئلون الألمان مثل وكيل وزارة الخارجية فيرنر هوير أنه لا يمكن محاربة كل النظم الديكتاتورية في العالم بهذه الطريقة كما أن لالمانيا سبعة آلاف جندي في مهام خارجية في أفغانستان والقرن الإفريقي و امام السواحل اللبنانية وفاء من برلين بإلتزاماتها الدولية. ولكن هناك سببا رئيسيا للرفض الألماني للتدخل العسكري في ليبيا لا تحبذ حكومة المستشارة الالمانية انجيلا ميركل التطرق إليه لأنه مرتبط بحسابات داخلية بحتة. فالائتلاف الليبرالي المحافظ لميركل وفيسترفيله يعاني من تدهور ملحوظ ومستمر في شعبيته وهو مقبل علي خمسة انتخابات محلية في المانيا خلال الاشهر المقبلة ستحدد مصيره, ويستهلها خلال ايام بانتخابات محلية في معقله بولاية بادن فورتمبيرج. ومنذ اسابيع تلقي حزب ميركل المسيحي الديمقراطي هزيمة نكراء في انتخابات ولاية هامبورج كما فقد الكثير من النقاط في انتخابات ولاية ساكسوني أنهالت قبل أيام. وتأمل المستشارة في أن تكرر سيناريو سلفها المستشار الاسبق شرودر الذي رفض مشاركة المانيا في غزو العراق وتمكن بفضل ذلك الموقف من ترجيح كفته في الانتخابات الألمانية بعد تأييد شعبي كبير. وبالفعل تشير استطلاعات الرأي إلي تأييد أكثر من سبعين في المائة من الالمان لموقف الحكومة الرافض للمشاركة في عمل عسكري ضد ليبيا. فإذا اضيف إلي ذلك التحول المفاجئ لميركل عن سياسة حكومتها بشأن تمديد العمل في المفاعلات النووية للطاقة بعد كارثة اليابان نجد أن حزبي الائتلاف الحاكم يستخدمان ورقة السياسة الخارجية بذكاء لحصد تأييد شعبي داخلي في عام الإنتخابات. غير أن هذا الرهان خطير للغاية ذلك أنه إذا نجح التحالف الدولي في إسقاط نظام القذافي أو دفعه لتقديم تنازلات كبيرة قد تدفع برلين ثمن إنسحابها طواعية من الصفوف الأمامية للتحالف الدولي, وربما ينال ذلك من دورها القيادي داخل الإتحاد الأوروبي علي الأقل سياسيا لصالح فرنسا التي اغتنمت الفرصة السانحة في ليبيا, وربما تدرك برلين آنذاك أن دورها القيادي أوروبيا ودوليا في التعامل مع الأزمة المالية والإقتصادية العالمية لا يضمن لها نفوذا سياسيا مستمرا وأن استعراض القوة العسكرية لا يزال عاملا حاسما في السياسة الدولية. كما أنه إذا ثبت صدق التوقعات الألمانية وتطور النزاع في ليبيا إلي بؤرة للتوتر علي حدود اوروبا الجنوبية فإن برلين ستكون ايضا من بين الخاسرين.