أستعير عنوان هذا المقال من كتاب أبي حامد الغزالي الشهير الذي وضعه في1095, وقد وددت أن أرمز به إلي أن المثقفين المصريين والعرب تقاعسوا عن أداء دورهم خلال الثلاثين عاما الماضية. أستعير عنوان هذا المقال من كتاب أبي حامد الغزالي الشهير الذي وضعه في1095, وقد وددت أن أرمز به إلي أن المثقفين المصريين والعرب تقاعسوا عن أداء دورهم خلال الثلاثين عاما الماضية وانسحبوا من الساحة الفكرية والثقافية وتركوها مرتعا لأنصار الغلو والتطرف ولأصحاب الفتاوي الزائفة وتجار الدين. وسوف يحاسب التاريخ مثقفي هذا الجيل محاسبة عسيرة عندما تعود المجتمعات العربية إلي رشدها وتنقشع الغشاوة التي تمنع الآن الرؤية السليمة. ولا أقصد بالمثقفين الكتاب والمفكرين وأصحاب الأقلام وحدهم وإنما كل شخص وصل إلي درجة من المعرفة تسمح له بإدراك الحقائق سواء أكان من كبار المحامين أو الأطباء أو العلماء أو المهندسين أو السياسيين أو رجال الأعمال. وكل هؤلاء آثروا خلال كل هذه السنوات الصمت والانكفاء علي مصالحهم أو علي الأقل علي ذواتهم وأغلقوا باب المشاكل التي قد تنتج عن قول الحق. الكل' عمل ودن من طين وودن من عجين' حسب المثل الشعبي الدارج مع أن غالبيتهم يدركون تمام الإدراك مدي خطورة الآراء والأفكار التي أصبحت تسيطر علي الساحة العربية. ولأنني ألتقي يوميا بأبرز هؤلاء من أكثر من ثلاثين عاما فإنني أعلم كيف يفكرون. فهم يجهرون بآرائهم بصراحة ووضوح.. ولكن في الحجرات المغلقة. أما في العلن, سواء في وسائل الإعلام أو في الصحف عندما يكتبون أو يدلون بالأحاديث, فإن النبرة تختلف تمام الاختلاف ويتغير الكلام ويتم تذويق الألفاظ وتنميقها واختيار ما يصلح لإرضاء التيار الغالب. فعندما كانت تجمعني جلسات مع بعض هؤلاء كنت أسمع كلاما عظيما وأشعر أن الدنيا بخير وأن هناك وعيا بالقضايا الحقيقية للوطن وبالأخطار التي تتهدده. وكنت عندما أشاهد التليفزيون وأري أحد الذي استمعت إليهم في جلسة خاصة يحل ضيفا علي برنامج كنت أتفاءل وأتوقع أن أسمع ما أبداه من آراء في تلك الجلسة المغلقة التي حضرتها.. لكني كنت أفاجأ بنفس الشخص يتهرب ويقول كلاما مائعا ويلوي ذراع الحقيقة من أجل مجاراة التيار المهيمن. ألا يخجل مثقفو هذا الجيل من أنفسهم عندما يقارنون ما بينهم وما بين أسلافهم في الماضي. فطوال حقب التاريخ تحمل المفكرون والكتاب وأصحاب الفكر الحر أصعب المهام وهو أن يكونوا في الطليعة ويكونوا كالقاطرة التي تجر المجتمع إلي الأمام. وظل دور المفكرين والكتاب يقوم دائما علي إنارة الطريق والسير في اتجاه التطور ورفض العودة إلي الوراء, كان هاجسهم دائما كشف عيوب المجتمع ومحاولة إصلاح نواقصه. فعادة كل المجتمعات أن تتمسك بالتقاليد وتتشبث بالموروث وتأبي أي مساس بالتقاليد وتخشي كل ما هو جديد. أما المثقفون فبالتأكيد أنهم يلتزمون بالمثل والقيم لكنهم يبذلون دائما الجهود من أجل تطويرها والعمل علي ملاءمتها مع الواقع الجديد وهم يتطلعون دائما إلي آفاق المستقبل ويستبقون القادم بدلا من الانغلاق في محبس الماضي. وقد دفع كثير من الكتاب والمفكرين ثمنا باهظا لمحاولة التصدي لقوي التخلف والتزمت. وشهداء الرأي أكثر من أن يحصوا في تاريخ كل الحضارات. ويكفي أن نذكر في تاريخنا ابن المقفع والحلاج وما عاناه عمر الخيام وابن سينا وابن رشد ومئات غيرهم. وكانت محاكم التفتيش في أوروبا القرون الوسطي ترهب كل صاحب رأي وقامت بإحراق وذبح عشرات الآلاف من المخالفين للكنيسة لعل من أشهرهم جوردانو برونو. كما عاني كبار المثقفين والمفكرين من الاضطهاد والسجن مثل فولتير في فرنسا والذي مازال يعتبر رمزا للحرية والفكر المستنير في العالم أجمع. وقد تعرض المثقفون المصريون إلي ألوان من المعاناة المريرة منذ رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين والشيخ محمد عبده وحتي حملات الاعتقال التي طالت شريحة من أهم مثقفي مصر في الخمسينات والسبعينات من القرن العشرين من عبد الرحمن الشرقاوي إلي لويس عوض وغيرهم كثيرون. وقد ظهر شبح التطرف في مصر من قبل في الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين. وكان المثقفون والمجتمع المدني هم أول من تصدوا له وأسكتوا أصواتا كانت تدعو للفتنة والإرهاب وتحليل دماء الأبرياء. أما مثقفو هذا الجيل فيبدو أنهم آثروا السلامة وظلوا صامتين أمام الرياح العاتية التي هبت وكأنها تستمد قوة دفعها من الماضي. وهذه السلبية الغريبة أدت إلي خلو الساحة تماما من الفكر المستنير مع أن الشباب كان ومازال متعطشا لمن يشرح له ويوجهه ويأخذ بيده في ظروف الحياة الصعبة التي نعيشها وغياب آفاق المستقبل. خاف المثقفون أن يتصدوا للتيار الغالب وكتموا الحق وانعزلوا عن عامة المجتمع. صحيح أن الإعلام لم يمنح المثقفين فرصة للتصدي وصحيح أن الموج كان عاتيا وصحيح أن الإعصار القادم من الماضي السحيق كان ومازال مخيفا. لكن دور المثقفين هو تحديدا مواجهة المواقف الأكثر صعوبة والسباحة ضد التيار ورفع راية التمرد علي عمليات تغييب العقل والأفكار البالية التي تجر المجتمع إلي الخلف وتؤدي إلي إغلاق العقول بالضبة والمفتاح. لقد شارك المثقفون في مؤامرة الصمت التي جعلت أصوات العقل تهمس في الوقت الذي تشاد المنابر لأقوال الباطل والبهتان. والنتيجة مناخ التطرف والكراهية الذي نشكو منه اليوم ونتباكي علي ما نطلق عليه الزمن الجميل. لكني مطمئن إلي أن طبيعة الشعب المصري السمحة سوف تنتصر في النهاية. وقد آن الأوان أن يكفر المثقفون عن خطايا الجبن والانعزال وأن يعودوا إلي الاضطلاع بدورهم التاريخي ويتنازلوا عن الإغراءات أو الخوف من مواجهة التيار الغالب والذعر من قولة الحق. فهم قد شاركوا مشاركة سلبية في تكبيل العقل العربي وسجنه وراء أسوار التعصب والتحزب.. وأحيانا ما تكون المشاركة السلبية أكثر خطورة من المشاركة الإيجابية خاصة إن جاءت من فئة منوط بها مهمة أساسية وحيوية من أجل تقدم المجتمع وتوجيه مؤشر البوصلة الهادية نحو طريق التقدم والازدهار.