أستأذن قاريء الأهرام اللبيب في الافلات قليلا من قبضة اللهاث المحموم وراء الأخبار عقب ثورة شباب علي أوضاع مختلة فجرت براكين الغضب في قلب شعب اكتشف أن الوطن يباع بالمتر. هاجس الاستئذان أن طيور الشجن تحوم فوق قلمي, إذ مرت سنوات تسع منذ سفرها الطويل الطويل, ومازلت في يوم11 مارس من كل عام, أزورها في مسكنها الجديد بأرض الجولف, آخر مرة رأيتها, كان الألم ينشب أظافره في جسدها, والألم النفسي يعتصرني, كانت حبيبتي آمال بنت العمدة, كما كان يحلو لموسي صبري أن يناديها, راقدة علي جهاز التنفس الصناعي وعيناي مثبتتان علي خفقات قلبها, ومن لحظة لأخري كانت تفيق لثوان, وتصدر لي ابتسامة باهتة خرساء لا احتملها, آمال زوجتي رفيقة العمر والمشوار التي كانت تملأ الدنيا حيوية وكان عقلها يقطر يقظة, لمحت ميكروفونها ينتحب وهو يري سيدته قد كفت عن الكلام وتكفنت بالصمت, وكلما خطفت الإذاعة أذني, بحثت بين أصوات مذيعيها ومذيعاتها عن صوتها الحنون الوثاب المحتشد بالمعلومات.. المتدفق حيوية, فلا أجدها, وحين أعود الي البيت تستوقفني نظرة عتاب من شرائطها الصوتية المرتبة بعناية والمكتوب عليها بخط يدها أسماء مئات ومئات الشخصيات التي حاورتها, لكني لا أقوي علي سماع صوتها في مسجل وأنا وحدي فسوف أستعيد ذكرياتي وأستدعي الماضي وستمطر عيناي بغزارة فوق سهول العمر, الوحدة لرجل مثلي, أذبحها بعمل متواصل في مهنة تعشش في قلبي وعقلي والكلمة مادتها الخام وتتشكل في صيغ مختلفة فوق الورق أو فوق شاشة, مازال الحماس يسكن ذهني مهما كان حجم ارهاق الجسد, إن النهار رحيم بوحدتي لأن حركة الحياة والناس تشد اهتمامي, أما الليل وقبل النوم, فالوحدة تدخلني صدفة محكمة الغلق أو غيمة حالكة السواد ولا ينقذني من شراسة الأرق سوي منوم أقدم له التحية أو نعاس عفوي احتضنه بشغف, ان سكون الليل ثرثار بزقزقة عصافير الشجن التي أقامت أعشاشها فوق غصن العمر في شجرة حياتي. وحين أذهب لمقر مسكنها الجديد في أرض الجولف حاملا معي باقة ورد وأطلب لها الرحمة, يروق لي أن أتحدث معها اذا صدقت لي رؤية سمعتها يوما مني.. وحين يقترب مني حارس المقابر, أكف عن الهذيان, وأنا عائد أتساءل: هل استراحت آمال؟.. وهل الموت راحة للبشر؟ ووجدتني أغوص في الأسئلة: هل همشت آمال مثل غيرها مثيرات الحياة ومنغصاتها؟.. هل فهمت آمال عمق دعوتي لها بتهميش التوافه والتفاصيل التي تعجل.. بالموت؟ صحيح ياربي, الموت قرارك ولكنك عز جلالك خلقتنا بعقول لها خاصية فرز الأشياء. حين أتحدث مع آمال ولو من طرف واحد أشعر براحة, بعد أن عزت مصارحة أحد بمكنون القلب, فما عاد أحد يسمع غير صوته في عالم أناني.. الود فيه بأجر, ولاتزال وحيدتنا حنان هي ذلك الشاطيء النقي الذي أسكن تحت ظلال شجيرات الصدق النابتة في أرضه, كانت وصية آمال حبيبتي بنت العمدة لي, أن أرعي حنان وأسرتها الصغيرة في غيابها, والحق أقول إن حنان صارت هي التي ترعاني ولعلها بزياراتها لي تنتشلني من وحدتي, ولولا أن حنان همشت تحرك الصراصير والزواحف نحر عرينها, ما أبدعت نثرا وشعرا. حبيبتي بنت العمدة كانت غيورة وكم نسفنا أجمل اللحظات بسبب( الزن علي الودان), ففي لحظات خريفها صارحتني خلال مراجعة للمشوار بأن ربيعها كان محملا برياح الشك وغبار الظنون, ولم تبهت ذكري آمال في قلبي بل انها تستعصي علي النسيان ربما لأنها الوحيدة التي كنت أبوح لها بهزائمي قبل انتصاراتي. إن الموت يا أصدقائي هو الفراق الحقيقي بين العشاق وماعدا ذلك هي مشاعر ترفيه يشارك فيها دمع العين المسكوب علي قطيعة مؤقتة, أما فراق الموت فهو بكاء الروح, بكاء أبكم ولكنه صادر من عمق الوجدان يبدأ كبيرا ويصغر مع الأيام لكنه لا يذهب وتنتعش الأحزان بذكري الميلاد أو الرحيل, ذكري ضحكة أو دمعة, ذكري صورة أو حلم في المنام. حقا, إن عمر الزهور الجميلة.. قصير وعمر أشجار الصبار.. أطول! المزيد من مقالات مفيد فوزى