لا شك أن عبور المرحلة الانتقالية, التي بدأت عقب نجاح الثورة الشبابية والشعبية المدنية الديمقراطية, يمثل مرحلة مهمة في تحقيق برنامج هذه الثورة في المستقبل المنظور, حيث أن هذه المراحل الانتقالية بشكل عام, غالبا ما تتسم وتتميز بمضاعفات وتداعيات كثيرة, يمثل اجتيازها وعبورها اختبارا للثورة والثوار, ولقدرتهم وقدرتها علي السيطرة علي الأمور, وتحديد أجندة واضحة للأولويات الوطنية واستمرار الدفعة الثورية القوية, وإظهار القدرة علي إدارة التغيير, وتحجيم الاختلاف والصراع وتعظيم هامش التوافق الوطني وتعزيز الإرادة الشعبية. تتميز المراحل الانتقالية بظواهر عديدة تقفز إلي حيز الفضاء العام, وتتصدر المشهد السياسي بعد نجاح الثورة وفي كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, إذ تجمع المرحلة الانتقالية بين بقايا النظام القديم ومعالم النظام الجديد في طور التكوين, كما أنها أي هذه المرحلة تفتح الباب واسعا أمام كافة المطالب من قبل كافة الفئات, لتعبر عن نفسها ولتسمع بقية فئات الشعب صوت أصحابها, لأن الثورة وتداعياتها تستحضر وتستنهض الهمم والعزائم والإرادات المتناثرة والفئوية, وتفتح الطريق للمظالم والمظلوميات المختلفة الكامنة في النفوس في انتظار اللحظة التاريخية الثورية. لحظة الثورة هي لحظة استثنائية تتميز بديناميكية خاصة, تتجاوز المألوف والمعتاد في الممارسات الفردية والجماعية علي الصعيد الخاص بكل فئة, كما علي الصعيد الوطني, هي لحظة انصهار للمطالب الخاصة والعامة واطلاق الطاقات للتعبير عنها بأشكال مبتكرة وجديدة من قبل كافة الفئات والجماعات. تخلق الثورة ووقائعها حقلا مغناطيسيا يجذب الكثير من الفئات إليها, وإلي المجال العام تنضم إليها, وتدرج مطالبها ضمن الروح الثورية والمجال الذي خلقته الثورة, ورغم الطابع الفئوي والاقتصادي والمعيشي لهذه المطالب, إلا أن انخراطها في السياق الثوري وتوقيت المطالبة بها بعد نجاح الثورة يعزز مواقع الثورة ومشروعيتها ويدعم تحقيق أهدافها. تجمع المرحلة الانتقالية بين نهاية النظام القديم وبداية النظام الجديد, وبين تصدع أنماط السلوك الفردي والجماعي, وزعزعة القيم الفردية والجماعية, وبين نواة تشكل لأنماط جديدة من السلوك والقيم الفردية والجماعية, وبين المثال الفردي والجماعي السابق لقيام الثورة وبين المثال الجديد الذي شقت الثورة مجراه في الوعي والوجدان, وينخرط هذا التباين في عملية واسعة اجتماعية وسياسية وثقافية واعية, تستهدف ارساء نمط ثقافي جديد يدعم التغيير, ويمثل قوة دفع جديدة تواكب التغيير السياسي والاقتصادي المأمول والذي تنشده الثورة. من ناحية أخري, فإن هذه المرحلة الانتقالية في مصر علي نحو خاص والتي تشهد انهيار النظام القديم بقيمه وسلطته الفاسدة المستبدة يمكنها أن تفتح الطريق واسعا أمام الثأر والانتقام, من الذين نهبوا ثروات الشعب ووضعوه في غياهب الفقر والذل والمهانة وقمعوا تطلعاته إلي نصيب من الثروة عادل ومشروع, واعتبروا فقر الشعب وفقراءه عبئا عليهم, وخطرا علي النظام العام والاستقرار, بدلا من النظر إلي مشكلة الفقر كنتيجة لسياسات النظام السابق. في جميع الأحوال فإن هذه الظواهر التي تصاحب المرحلة الانتقالية ليست بالضرورة خطرا في حد ذاتها, وإنما يكمن الخطر في تجاهلها واهمالها أو عدم ادماجها في جدول المهام والأولويات الوطنية, وافتقاد رؤية للتعامل معها بالتعاطف الذي تستحقه والعقلانية التي تتطلبها هذه الظروف النتقالية. الحال أنه في مواجهة هذه الأوضاع لابد من تسجيل ورصد هذه الظواهر في إطار مرن يسمح بمعالجتها وضبطها وانخراطها في جدول أولويات يحظي بالتوافق والتراضي العام, ويحقق لكل هذه الفئات المطالب المشروعة في إطار الممكن والمساواة وفق جدول زمني معقول. علي صعيد آخر, فإن هذه المعالجة لهذه المطالب ينبغي أن تتميز بالصدق والشفافية والصراحة, وأن تبتعد عن الإزدواجية والفصل بين القول والفعل, وبين الخطاب والواقع التي ميزت خطاب النظام السابق ورموزه, حيث لم تستشعر جماهير الشعب الصدق مطلقا في تصريحات.مسئوليه ورموزه علي أي نحو, كان الشعب بحدسه وخبرته وحكمته, يعي أنهم يكذبون, وأنهم ليس لديهم ما يقدمونه سوي الكلام المنمق والفارغ من المحتوي والمضمون والمنفصل عن الواقع. الصدق والصراحة والشفافية ضرورة في هذه المرحلة الانتقالية وبقية المراحل أيضا, لأن نجاح الثورة قد أفضي عمليا إلي ثورة تطلعات لكافة فئات المجتمع المصري في العيش الكريم والحصول علي الحقوق الضائعة, خاصة العمالة المؤقتة في كافة القطاعات وساكني المناطق العشوائية والقبور والعاطلين عن العمل. وضع تصور مدروس وواقعي لتلبية هذه المطالب واستيعابها وفق جدول زمني علي ضوء القدرات الحالية والممكنة اقتصاديا وماليا, وفق تعديل بعض بنود الإنفاق وخفض الإنفاق الحكومي واستعادة أموال الشعب المنهوبة وإغلاق الباب أمام الفساد نهائيا, مثل هذا التصور ضروري لتحقيق هذه المطالب. ومن المهم في هذا السياق ترشيد الرغبة في الثأر والانتقام من المسئولين المتنفذين في النظام السابق وأن يتم ترجمة هذه الرغبة في محاكمات ومحاسبات وفق القانون والأدلة والمستندات في علنية وشفافة, لكل من استغل منهم نفوذه للتربح أو أهدر أموالا عامة ملكا للشعب, أو تواطأ أو سهل للآخرين ارتكاب جريمة التعدي علي الأموال العامة ونهب الأراضي والممتلكات, ويعتبر ذلك ضمانة لسيادة القانون وتطبيق أحكام القضاء المستقل في ظل النظام الجديد. في هذه المرحلة الانتقالية التي ينبغي أن تؤسس نظام وسلطة مدنية ديمقراطية تستند إلي انتخابات حرة ونزيهة وتداول للسلطة, يجب ترسيخ مبدأ الحوار والتفاوض من الآن باعتباره آلية من آليات الديمقراطية لمعالجة المشكلات وبلورة الحلول المتوازنة للمصالح المتعارضة. كما تفعل كافة الديمقراطيات إزاء الإضرابات والمطالب العمالية والشعبية, ذلك أن عهد الحلول الفوقية قد انتهي. ليبدأ عهد الحلول التفاوضية التي تتوصل إليها الأطراف وتتراضي حول نتائجها وتقبلها. كذلك انتهي عهد تجاهل المطالب وإهمالها وحمل اصحابها علي اليأس ونسيانها, ليبدأ عهد الاستماع للمطالب والحوار والتفاوض بشأنها, بالصدق والصراحة والقدرة علي بلورة الحلول وابتكار معالجات جديدة مع توفر صدق النوايا واستبعاد المماطلة والمناورات الخبيثة التي ميزت ممارسات النظام السابق. في مثل هذا النظام الديمقراطي الجديد فإن السلطة المنتخبة يتركز دورها في إدارة شئون المجتمع وفق معايير دستورية وقانونية, تحد من صلاحيتها وتحول دون تغولها وتوحشها في المجتمع وتنهي شخصانية السلطة, أي ارتباطها بشخص الزعيم والقائد, وسيقود ذلك إلي الاستقرار وفك الارتباط بينه وبين الأشخاص, لأن الضمان هو بقاء المؤسسات الدستورية ومؤسسات الدولة المختلفة, بصرف النظر عن تغير الأشخاص عبر الانتخابات الحرة. وإذا ما قام هذا النظام الديمقراطي الجديد فإن إحدي الآليات الأخري للديمقراطية هي آلية الإختلاف والتعارض في المصالح والتعايش بين الأغلبية المنتخبة التي تحكم والأقلية التي تبقي في صفوف المعارضة. وهي آلية ينبغي أن نهيئ أنفسنا نفسيا وثقافيا للتعايش معها والتأقلم مع ثقافتها وهي الثقافة التي ستشق مجراها في حياتنا ببدء هذه الممارسات وتكيفنا معها واستيعابنا لمضمونها وقيمها. أعتقد أن الشعب المصري بعد ثورته البيضاء وربما قبلها أيضا قادر علي استيعاب وتمثل هذه التطورات والآليات, وتلك الثقافة الجديدة التي تضاف إلي الطبقات الثقافية المتراكمة عبر الزمن, فالمصريون يفضلون الاستقرار والنظام ويحترمون القانون إذا ما تم تطبيقه علي الجميع, دون تمييز, واتسع وعيهم وقبلت ثقافتهم متغيرات كثيرة جديدة واستوعبوها واستبطنوها وكأنها جزء لا يتجزأ من شخصيتهم وثقافتهم, وسوف يواجه الشعب المصري هذه التحولات الجديدة بنفس الديناميكية والحيوية التي ميزت استقبالهم للجديد والحسن منه علي نحو خاص طوال قرون مضت. المزيد من مقالات د. عبد العليم محمد