اتخذ من محرابه الطبي منصة للنضال, كان يعالج ويداوي ما أفسده النظام طيلة السنوات الثلاثين الماضية, اختار المشرط علاجا, والقلم سيفا. كان صباحا يمسك مشرطه ليداوي جراح مرضاه ومساء يمسك قلمه ليداوي جراح مجتمعه. نأي بنفسه عن النظام, وحصن محرابه من محيط الفساد الضارب بجذوره في كل المستشفيات والجامعات المصرية, ضرب أروع الأمثلة في الإدارة الطبية, فنال مركزه شهرة عالمية. كان الأروع والأفضل في تداول السلطة, فما أن وصل إلي السن القانونية حتي أسلم الراية لمن يخلفه دون توريث أو تدليس. إنه العالم المصري المرموق الدكتور محمد غنيم رائد زراعة الكلي في مصر والشرق الأوسط, الذي فتح قلبه ل شباب التحرير متحدثا عن الثورة وأهدافها ووسائل اكتمالها.. وتاليا نص الحوار: الأهرام: كنت تدير مركزا طبيا مرموقا كيف نطبق هذا النموذج بمصر ؟ د. غنيم: النجاح في المركز هو نجاح تكتيكي, وليس نجاحا استراتيجيا, بمعني أنه جاء عن طريق مبادرة فردية, ودور الفرد في التاريخ مهم, ولكن يجب أن تتحول هذه المبادرة وهذه الآليات إلي عمل مؤسسي حتي تصير قانونا, فالجامعات والمستشفيات الجامعية يجب أن تسير علي أهداف وطرق واضحة, بحيث إذا غاب الفرد المؤسس لا يختل عمل المؤسسات. الأهرام: ولكنك كنت تدير مركزا ناجحا وسط العديد من فساد المؤسسات خاصة الجامعية ؟ د. غنيم: الجامعات يجب عليها أن تتقوقع وتبتعد عن جميع مؤسسات المجتمع, لأنها هي رأس حربة التقدم, فهي من تخرج المدرس والمهندس والباحث والمفكر وغيرهم. الأهرام: دائما ما تطالب بوجود أستاذ كرسي يتم اختياره وفق أسس أكاديمية بحتة, لماذا لا يكون لدينا مجلس يسمي مجلس حكماء يضم أساتذة الكرسي في كل مجال تكون مهمته وضع استراتيجيات وسياسات ؟ د. غنيم: لاما نع من وجود هذا المجلس ولكن قبل عمله يجب أن نعلم أن الجالسين علي مقعد الوزارة حاليا وسابقا يعلمون مفردات وآليات العمل الجامعي الصحيح, لكن السابقين كانوا يعملون من خلال مواءمات أدت إلي تدهور الجامعات والبحث العلمي تدهورا شديدا. الأهرام: هناك تعديلات دستورية تمت وأخري في الطريق ما رأيك في هذه التعديلات؟ د. غنيم: في رأيي أننا نحتاج الي تغيير دستوري وليس تعديلا,, فالتعديلات المطروحة تختص بحالة واحدة فقط حتي الآن وهي الرئاسة, ولم يحسم أمر الانتخابات البرلمانية بعد, فهل سيبقي المجلس كما هو50% عمال وفلاحين, ما هو شكل الانتخابات هل بالقائمة النسبية أم بالنظام الفردي. فالتغيير الدستوري يؤدي إلي الاستقرار أكثر من التعديل, لأن التعديل ستتبعه مناقشة ثم استفتاء, كما أنه بعد انتخاب رئيس جديد ومجلس شعب جديد سيتم تغيير دستوري تتبعه أيضا مناقشات ثم استفتاء, وكل ذلك لا يؤدي الي الاستقرار. فنحن نحتاج تغييرا في الدستور مرة واحدة فقط, ويبقي بعد ذلك سنوات مديدة, فالفقهاء الدستوريون يقولون إن هذا العمل وهو التغيير قد ينجز في فترة وجيزة نسبيا من9 الي12 شهرا, وهو وقت بخس في سبيل استقرار مصر علي المدي الطويل وما يربط ويحكم كل هذه الفترة الوجيزة هو بيان دستوري أو دستور مؤقت من10 الي12 نقطة يضبط إيقاع عمل اللجنة الرئاسية والوزارة. الأهرام: ما حدث في25 يناير لم يتوقعه أحد أو يتخيله فماذا عن رؤيتك أنت ؟ د. غنيم: هناك سببان, وقتي وزمني أدت الي هذه الثورة: فالوقتي: ماحدث يوم23 يناير في احتفال عيد الشرطة, حيث كان المشهد غريبا جدا, بلغ فيه الزهو والتسلط وإبراز القوة المفرطة أعلي درجاته, وكان رد الفعل في25 يناير جيدا, ولعب الحظ في هذا التوقيت دورا كبيرا, وأنا هنا في المنصورة في هذا اليوم حينما نزلت إلي الشارع أدركت وأيقنت أن شيئا مهما جدا سيحدث, وتأكد لي ذلك من خلال خروج كل الناس في مختلف ميادين مصر, وكان الشعار في الصباح هو( خبز? عدالة? حرية) لكن الناس تاكدت أنه لا خبز ولا عدالة ولا حرية, وأن الطريق إلي هذه المطالب يكون من خلال التغيير السياسي. أما السبب الزمني: فهو أن التغيير بدأ في مصر من خلال حالة تراكم, فأول حركة حقيقية نزلت الي الشارع كانت حركة كفاية, ثم تلاها حركات أخري كأطباء بدون حقوق, ومهندسون بدون نقابة, وحركة6 ابريل وكلنا خالد سعيد وجبهة التغيير بعد وصول البرادعي, ومظاهرات واحتجاجات فئوية طيلة الصيف الماضي, وواكب ذلك وكان موازيا له فساد ضارب في الحكومات السابقة, ثم كنيسة القديسين, وقبلها الطامة الكبري: انتخابات معيبة ومزورة بشكل فج, والغريب أن اعضاء الحزب الوطني والرئيس السابق كانوا يشيدون بعرس الديمقراطية, وهو ما ألهب المشاعر وأججها, فالمناخ كان فيه تراكم متزايد, وكما نعلم أن التراكم الكمي يعقبه تغيير نوعي, إذ لم يبق إلا شرارة تشعل البنزين الراكد تحت السطح, وتبين علي الطبيعة أن نزول الشعب الي الشارعوبكثافة وإصرار يستطيع أن يغير نظاما سلطويا ومن ثم كانت الدعوة الي25 يناير. الأهرام: من كان السبب في نجاح الثورة حتي الآن ؟ د. غنيم: خطاب الرئيس الذي قال فيه' إنني لم أكن أنتوي الترشيح' فقد سبب انفراجة نسبية, وحدث نوع من التراخي لدي البعض علي اعتبار أن هناك استجابة لبعض المطالب, ولكن من حسن حظ مصر أن حدثت موقعة البغال في اليوم التالي, وهنا تأكد دون تردد أن المطلب الأساسي هو إسقاط النظام, واستمر هذا المطلب حتي تحقق في11 فبراير. الأهرام: وهل حققت الثورة أهدافها ؟ د. غنيم: هناك ثورة, ولكنها ثورة غير مكتملة, فالثورة لها تعريف وهو أن يقوم البعض بإسقاط النظام, ثم تقوم النخبة بالوصول إلي السلطة, فمن ذا الذي قام بالثورة: هو الشعب, أي الشباب أولا كرأس حربة متقدم, ثم التف حولهم الشعب, إذن يجب لاكتمال الثورة أن يقوم بالوصول إلي السلطة عن طريق انتخاب ممثلين له انتخابا حرا نزيها يستطيع أن يراقبهم وأن يغيرهم دوريا, ومن المؤكد أن هناك مشكلات سوف تعترض هذا الطريق. الأهرام: قبل تنحي الرئيس مبارك بأسبوع صرح بأنه يريد أن يرحل ولكنه يخشي الفوضي, فهل ما نراه الآن مخطط ومدبر له ؟ د. غنيم: مصر منذ1954 لم تعرف حرية الرأي, ولم تعرف الاختلاف السياسي, ولا تداول السلطة, فمن المتوقع أن يحدث تغير مؤقت في الشخصية, حيث يعتقد كل فرد أنه طالما تغير النظام وسقط, فإن بإمكانه أن يغير ويسقط أي شخص. الأهرام: وهل هذه فترة مؤقتة ؟ د. غنيم: نعم, فترة مؤقتة. الأهرام: إذن كيف نحكم السيطرة عليها ؟ د. غنيم: نحن الآن في مرحلة انتقالية, وحتي تهدأ هذه الاوضاع هناك حزمة من المطالب تتمثل في الآتي: حكومة انتقالية مقبولة يكون علي رأسها رجل دولة ليس له طموح سياسي بعد هذه الفترة. ثانيا: علي المجلس العسكري أن يقبل تكوين مجلس رئاسي يضم عسكريين من المجلس الأعلي وشخصيات مدنية ممن لهم توافق عام, واذا كانت هذه الفكرة مرفوضة فهناك فكرة بديلة وهو مجلس حوار مؤسس. الأهرام: وماذا عن الاحتجاجات والمطالب الفئوية ؟ د. غنيم: في هذه المرحلة وتعدد المطالب الفئوية يجب أن نأخذ موقفا حاسما, فهذه المطالب منها مطالب شرعية ومنها مطالب فيها نوع من التجاوز والتزايد, ولابد هنا من عمل فرز لهذه المطالب, فالمطالب المشروعة تتمثل في النواحي المادية وتثبيت العمالة وغيرها, وهي مطالب عادلة وأقرتها المحكمة بوضع حد أدني للأجور, وعندما أتحدث عن حد أدني للأجور فيجب أن أتحدث عن حد أقصي للدخول بالقطاع العام والحكومة, فلا يصح أن يأخذ رئيس مجلس إدارة مؤسسة مليون جنيه ومؤسسته مديونة, ولا يصح أن تأخذ الفنانة غادة عبد الرازق8 ملايين جنيه عن مسلسل والتليفزيون مديون. الأهرام: وخلال هذه الفترة هل من حلول ؟ د. غنيم: نعم, أن تتم الدعوة بشكل عاجل لإنشاء صندوق إنقاذ وطني, فيطلب من رئيس البنك المركزي فتح صندوق يتم فيه تلقي تبرعات من الداخل والخارج وهو من متطلبات المرحلة وهو مطلب عاجل لابد من تنفيذه. الأهرام: برأيك هل الانتخابات القادمة سواء رئاسية أو برلمانية ستفرز ديمقراطية حقيقية ؟ د. غنيم: سبق أن ذكرت حزمة المطالب, وقلت إن هناك فترة تتطلبها تنفيذ هذه الحزمة, وهي من9 إلي12 شهرا, وهي فترة مهمة جدا, وذلك حتي تستطيع القوي الديمقراطية بمختلف تياراتها أن تنزل إلي الشارع وتقيم مؤتمراتها وتطرح برامجها علي الناس, حيث لم يكن هذا متاحا من قبل في ظل وجود أمن الدولة, ولابد من تغيير قانون الأحزاب, ويكون ذلك عن طريق الإخطار, فورقة تذهب الي الداخلية وأخري الي الشهر العقاري. الأهرام: مع إنشاء الإخوان حزبا سياسيا هل من الممكن أن يصلوا إلي الرئاسة ؟ د. غنيم: الإخوان فصيل سياسي مهم في مصر, وهذا يتوقف علي مجهوده ونشاطه وعقلانيتة وقدرته علي الاقناع لجميع القوي السياسية. الأهرام: ولهذا تقربت منهم واشنطن ؟ د. غنيم: علي المصريين ألا ينظروا إلي أي عامل خارجي, فمسألة التقارب أو التباعد مسألة لا تهم, فالديمقراطية هي المحدد الرئيسي, من خلال وجهة النظر السياسية وبرنامجهم السياسي. الأهرام: هناك من يري أن نجاح الثورة محل شك نتيجة القلاقل السياسية والاقتصادية التي تسبب فيها الشارع الغاضب ؟ د. غنيم: هذا يتوقف علي ما يعرف بالنخبة لتحريك الشارع في الاتجاه الصحيح للبوصلة. الأهرام: هل أنت مع محاكمة مبارك ؟ د. غنيم: لابد من محاكمته ماليا, فأنت تستطيع تجميد الاصول المادية في أي دولة, لكنك لا تسطيع الحصول عليها إلا بحكم محكمة, فلابد من وجود إثبات أن هذه الأموال ناجمة عن ممارسات فاسدة, أما الأسباب السياسية فهذه قصة أخري, فما يعنيني بالدرجة الأولي هو التطلع إلي أفق جديد, ومصر جديدة وتنافسية. الأهرام: من ترشح لرئاسة الدولة ؟ د. غنيم: أنا لا أرشح أشخاصا معينيين, ولا أنتخب شخصا بعينه, ولكن البرنامج هو من انتخبه وأرشحه. الأهرام: ولكن هناك أسماء يتم تداولها كمرشحين للرئاسة ؟ د. غنيم: استطيع أن أقول لك أن هناك بعض الاسماء التي يتداولها الناس, فهناك من أعلنوها صراحة كحمدين صباحي وأيمن نور وعمرو موسي, وهناك مرشح محتمل وهو الدكتور البرادعي ولم يتضح موقفه بعد, إذ إنه حين سئل عن ذلك قال: الحمد الله عملت اللي علي, نحن قمنا بالتغيير, وأنا لا اتطلع الي أي منصب, ثم تراجع وقال منذ أيام إنه ممكن أن يترشح إذا أراد الشعب ذلك, وهو أمر محير, إذ كيف لي أعرف أن الشعب يريدني دون انتخابات, فهل أقوم بعمل استفتاء أولا لمعرفة رأي الشعب, الأهرام: وماذا تفسر هذا الموقف من جانبه ؟ د. غنيم: دكتور البرادعي رجل رائع جدا ويفكر بشكل عملي, لكنه ظلم نفسه وظلمنا, أتعب نفسه واتعبنا, وذلك بغيابه الكثير, فهذا الرجل لو كان منذ فبراير الماضي ظل مقيما في مصر وجعلها القاعدة وكانت سفرياته الخارجية مجرد زيارات لكان الآن هو المتحدث الرسمي والوحيد باسم الثورة, ولكن رجوعه بعد48 ساعة من قيام الثورة بعد غيبة طويلة في الخارج خلقت أزمة, وهو رجل يتمتع بذكاء شديد, وربما شعر بتراجع في شعبيته, فقال هذا الكلام عن ترشحه من عدمه. الأهرام: وما رأيك فيمن رشح الكتور زويل كمرشح توافقي ؟ د. غنيم: من طرح هذا الطرح لم يبين أسباب التوافق, ولماذا هو مرشح توافقي, فهو طرح غير موضوعي, لكنه لم يكن ليقدر أن يقول هذا الكلام قبل الثورة, فقد ترتعش يده إذا قال هذا الكلام, فالدكتور زويل قد يكون مرشحا جيدا, لكنني انتخب برنامجا وليس أشخاصا, فزويل تركيبته العقلية تغيرت, فهو عاش ما يقرب من أربعين سنة في مناخ حريات ودمقراطية, وتستطيع أن تختلف معه وتقنعه أو يقنعك, وهو شخصية دولية تستطيع الاتصال برؤساء الدول في الحال, والمدخل الحقيقي لأي عملية نهضوية بمصر هو التعليم والبحث العلمي. الأهرام: هل تعتقد أننا سنكون أسير رجل واحد أيضا في المرحلة المقبلة ؟ د. غنيم: الرئاسة القادمة ليست زعامة, فنهرو وعبدالناصر وتيتو وستالين عهدهم ولي وانتهي, فحتي لو كنا في إطار جمهورية رئاسية لن نكون أسري رجل واحد, فأوباما لا يستطيع تمرير قوانين بمفرده, فهناك مؤسسات تحكم عمله, فأيا كان الشخص الذي سيحكم مصر لابد أن يحاط بمؤسسات تساعده, فبرغم وجود الوزارة والبرلمان بمجلسيه هناك أمر آخر مهم جدا وهو المجلس الاستشاري للرئيس وهؤلاء يجب أن يكونوا خارج العملية التنفيذية. الأهرام: ماذا عن تعيين وزراء من المعارضة في حكومة تسيير الأعمال فهل هي سياسة استبدال وجوه فقط ؟ د. غنيم: هذه المرحلة لا تحتاج إلي سياسات جديدة فقط تبتعد عن السياسات القديمة, فأي استراتيجية جديدة لمصر لابد أن تكون منبثقة عن حكومة جديدة منتخبة, والوزراء الجدد من المعارضة الهدف منهم تجميل الحكومة بينما في الحقيقة هو' حرق' هؤلاء أمام الشعب. الأهرام: هل الاحزاب الحالية سوف تذوب ؟ د. غنيم: بالتأكيد وسوف تنشأ أحزاب جديدة, ولابد لحزبي الوفد والتجمع خاصة من تكثيف وجودهما في الشارع وبذل الجهود التي تمكنهما من الاستمرار, وتغيير القيادات التي عليها علامات استفهام, أما الحزب الوطني فعليه أن يختفي أطول فترة ممكنة, فبعض قيادات الحزب الوطني كان عليهم أن يخلوا ويختفوا وأن يكفوا عن القيام بأعمال قذرة أو تمويلها.