برغم ما بدت عليه مظاهرات واعتصامات ثورة52 يناير المصرية من كونها عفوية أو نتيجة تراكم الاعتصامات الفئوية ومخزون الغضب والغبن لدي فئات اجتماعية عديدة والذي تشكل في السنوات العشر الماضية تحديدا, فقد اثبتت أحاديث العديد من نشطاء مجموعات الفيس بوك, وإلي جانبهم مجموعات الحركات والأحزاب التي شاركت في الحدث أن الأمر كان يتم بوعي كامل ودراية عالية وتخطيط مسبق. وفي كثير من اللقاءات مع عدد من شباب الناشطين, اتضح أن التخطيط كان يتم علي مستويين: الأول يتعلق بتحديد شعار كبير للتظاهر ووضع خطة للتنفيذ بها شق معلن لخداع قوات الأمن, وشق لا يعرفه إلا الناشطون أنفسهم وهو الذي سيتم تطبيقه بالفعل. الثاني توزيع الأدوار وتحديد مسئوليات لكل مجموعة تقوم بها سواء قبل البدء بالمظاهرة أو أثنائها. فمثلا وقبل القيام بمظاهرة جمعة الغضب تم نشر أسماء أماكن معينة للقاء والتظاهر لغرض خداع قوات الأمن, وقام ناشطون بجولة استطلاعية صباح الجمعة لمعرفة حجم استعدادات قوات الأمن في المواقع التي تم الإعلان عنها مسبقا, ومع التأكد من أن قوات الأمن تمركزت بالقرب من المواقع المعلن عنها, بدأت المظاهرات في أماكن ومواقع أخري محددة سلفا, مما أربك قوات الأمن وجعلها تفقد التركيز المطلوب في مواجهة المتظاهرين. وحسب روايات ناشطين رئيسيين, فقد بدأت المظاهرات من الأحياء الشعبية كبولاق وامبابة, وقادها ناشطون واعون بما يفعلون بحكم ثقافتهم وإدراكهم السياسي العالي ومعرفتهم بتجارب الثورات الشعبية الشهيرة, وذلك عبر خطوط السير المتفق عليها فيما بينهم. هذه الروايات تتفق مع ما رأيته يومي الثلاثاء25 يناير, والجمعة28 يناير. فقد كانت خطوط سير المظاهرات تتم أولا في أحياء شعبية ثم في شوارع جانبية وشعارها الأساسي إنزل.. إنزل موجها للأسر والشباب بهدف جذب أكبر عدد ممكن للاشتراك في المظاهرة. وبالفعل كان لهذه الكلمات وقع السحر في نفوس الكثيرين الذين تفرجوا أولا من البلوكونات ثم قرروا النزول والمشاركة الإيجابية. ثم التقت هذه المسيرات التي بدت متباعدة أحيانا بعد ذلك في ميدان أو مكان يسع عددا كبيرا من المتظاهرين, حيث عمد الناشطون الأساسيون إلي الانتظار في المكان أطول فترة ممكنة ثم الانطلاق بعد ذلك إلي موقع آخر يتم فيه الالتقاء مع مجموعات أخري من المتظاهرين. وكان الغالب في بدء المسيرات ترديد شعارات مباشرة تدغدغ المشاعر الوطنية, مثل عاوزين حرية.. عدالة اجتماعية لاسيما في الاحياء الشعبية. أو أن ينادي أحدهم باسم معين, ويقول المتظاهرون باطل. فجمال.. باطل, ومجلس الشعب.. باطل, وأحمد عز.. باطل, ومبارك.. باطل, أو القول يا جمال قول لمبارك السعودية في انتظارك, أو يا جمال قل لابوك كل الشعب بيكرهوك. وهكذا كانت بداية المسيرات من أحياء بولاق مرورا بالمهندسين والدقي واللقاء مع القادمين من شارع فيصل وميدان الجيزة, ثم شارع التحرير إلي ميدان الجلاء أمام قسم الدقي, علي أن تأتي مجموعات من ميدان محمود مرورا بشارع البطل أحمد عبد العزيز إلي ميدان الدقي وميدان الجلاء, استعدادا للذهاب إلي ميدان التحرير من ناحية الأوبرا. تخطيط رائع وواع, وخطوط سير معروفة للقائمين علي المظاهرات, وإن لم تكن كذلك للكثيرين من الذين شاركوا فيها لاحقا بحكم الحماس والرغبة في إنهاء التهميش والحرمان الاقتصادي. وحين انهارت مقاومة رجال الأمن حوالي الرابعة عصرا, وسرت معلومة انسحاب رجال الشرطة, بدا الأمر محيرا بعض الشئ, إذ ارتفع الحوار بين المتظاهرين بصورة تلقائية عن طبيعة الخطوة التالية. ووفقا لما جري في الفترة بين الرابعة والسابعة مساء28 يناير في ميدان الجلاء فقد انقسم المتظاهرون قسمين, الأول قرر البقاء واحتلال الميدان حتي الصباح, والثاني قرر الذهاب إلي ميدان التحرير لاسيما بعد أن تأكد للجميع أن قوات الامن المركزي التي تمركزت بعد الظهر مباشرة أمام كوبري الجلاء قد اختفت تماما, ولم يبق سوي عدد محدود أمام قسم الدقي, ومعهم ضابط برتبة نقيب حاملا جهاز إرسال لم يكن يعمل. هذا القدر من التخطيط للمظاهرات, ينفي شبهة العفوية المحضة. لكن الشواهد تقول إلي أن تتضح كل الأبعاد أن انهيار قوات الأمن وانسحاب الشرطة لم يكن في الحسبان, وبالتالي فإن قرار الذهاب إلي التحرير والتجمع هناك والتمسك بالميدان كأرض محررة جاء وليد اللحظة ووفقا للتطورات, لكن الشواهد تقول أيضا أن البقاء في الميدان لم يكن سوي تحد لحظي تم الرد عليه باستجلاب خبرات الاعتصامات الشهيرة والثورات الشعبية الحديثة كالتي جرت في أوكرانيا وجورجيا ومن قبل حين انهارت النظم الشيوعية في أوروبا الشرقية نهاية الثمانينات من القرن الماضي. والمفيد في هذه الثورات يتعلق بعملية تنظيم وإدارة شئون الحياة لمجموعات من الناس يتفقون علي هدف كبير, ولكنهم لا يعرفون بعضهم البعض. وتمثل الأمر كما حدث في ميدان التحرير في تنظيم لجان إعاشة وأمن وطب وإعلام وغيرها, وقامت كل جماعة بعمل ما يشبه المخيم الخاص بها, والإذاعة التي تنشر فكرها وشعاراتها. مثل هذا التنظيم, ومن قبل التخطيط للمظاهرات نفسها, وهو ما يثير الاعجاب, يواجه بتحد كبير يتعلق بإدارة مرحلة ما بعد نجاح الثورة في الإطاحة بقمة النظام, وبدء عملية سياسية تحت رعاية القوات المسلحة هدفها التمهيد لبناء جمهورية جديدة تقوم علي دستور جديد ورئيس يأتي بالانتخاب الحر النزيه ومجلس تشريعي يعكس اختيارات الأمة دون تزييف. والسؤال الأبرز يتعلق أساسا بمدي قدرة فئة الشباب بوجه عام علي تنظيم نفسها سواء عبر أحزاب أو جمعيات مدنية لاستكمال مشروع النهضة وبناء نظام ديمقراطي حقيقي قابل للاستمرار, ويعكس التنوع السياسي والفكري القائم في الأمة المصرية ولا يلغيه أو يخاصمه أو ينفيه. الثابت أن هناك أكثر من طرف يتحدث باسم الثورة, فهناك الأمناء علي الثورة وهناك ائتلاف25 يناير, وهناك أحزاب بازغة استفادت من المناخ الايجابي الجديد. وهو تنوع حميد يجسد التنوع الموجود في المجتمع, ولذا فإن إدعاء أي طرف أنه يتحدث حصرا باسم الثورة وانه الوحيد المؤهل بمتابعة أهدافها وتحديد جدول أعمالها, وأنه يجسد طموحات الأمة بأسرها, هو أمر ضد الثورة نفسها, وضد مبادئها السامية, لاسيما وأننا لم نشهد بعد انتخابات نزيهة لنعرف من خلالها الأوزان النسبية لكل طرف, ومن هو ذا الذي ينوب عن الأغلبية التي لم تعد صامتة بأي حال. وبالتالي فإن قيام جماعات بعينها بالدعوة إلي المظاهرات من أجل إسقاط حكومة أو تطبيق فوري لمطالب محددة هو أمر يخص هذه الجماعة وحدها, ولا يخص بالضرورة كل فئات الشعب التي قد يكون لها موقف آخر يدعو إلي التريث في الحكم علي أداء الحكومة القائمة, وإعطائها فرصة للعمل. كذلك هناك خلاف علي الأولويات, فالحرية لا يمكن مقايضتها بالأمن, ولا يمكن للأمن وحده أن يعوض غياب الحرية. والمطلوب هو الأمن والحرية معا في ظل قانون عادل ومتوازن, ومؤسسات تطبيق للقانون, ومنها الشرطة, تكون متماسكة وتحترم حقوق الانسان, وهو ما يمثل التحدي الأكبر الآن لمصر كلها دون استثناء. والمثير اللافت للنظر هنا أن بعض فئات الشباب تتصور أنها وحدها القادرة علي التغيير, وأن الثورة هي حصاد خاص بهم وحسب, وتنكر دور حركة الاحتجاجات الفئوية طوال خمسة أعوام سابقة, وتعتقد أن علي الأجيال الأكبر إما الصمت أو الرحيل عن المشهد برمته. وفي لقاءات مع بعض الشباب الذين شاركوا بقوة في الثورة وقدموا تضحيات كثيرة, قال أحدهم أنه يفخر بأنه لم ينشأ علي الإعلام القومي سواء المرئي أو المكتوب, وأن مصدر ثقافته ووعيه هو شبكة الانترنت ودورات تدريب بالخارج, وقال أخر أنهم لن يتوقفوا عن التظاهر حتي يسلم الجيش السلطة للثوار ويعود إلي ثكناته. وفي لقاءات مع مجموعات من الشباب الثائر نصحت بأن يتم العمل بأسرع ما يمكن بانشاء حزب يكون قادرا علي المنافسة في الانتخابات المقبلة, لكن الغالبية تري أن الأولوية هي لاستمرار الاعتصامات واستكمال الثورة. وحين نصحت في أحد اللقاءات بأن يقوم الشباب قبل الحكم علي المنافسين المحتملين للرئاسة أو اختيار البرلمان المقبل بعملية تثقيف ذاتي لمعرفة أصول الأشياء كالدستور والحزب السياسي والجمعية المدنية والفوارق بين النظم السياسية كالرئاسية والبرلمانية, ومعني الدولة المدنية والدولة الدينية, فقد غضب البعض, واعترض البعض الآخر. وكانت كلمة أحدهم أكثر من مثيرة موجها كلامه لجيل بأكمله أين كنتم.. أنكم تعرفون كل هذه الأشياء ولم تفعلوا شيئا, ونحن لم نعرف هذه الأمور ومع ذلك قمنا بالثورة وغيرنا مصر كلها. وفي ظني, هنا يكمن الخطر أن تدار مصر ما بعد الثورة بنوع من الثقة المفرطة وبلا معرفة ولا سند من وعي, وثم سيأتي حتما من يحصد العائد كله ويحرم الآخرين, لا لشئ إلا لغرور أو اندفاع نحو مجهول, أو جهل بما يجب أن يكون, أو خبرة غائبة أو عزوف عن التعلم من تجارب الآخرين. وهنا وجب التحذير والتنبيه. المزيد من مقالات د. حسن أبو طالب