ب9 آلاف مواطن.. مستقبل وطن يبدأ أولى مؤتمراته للشيوخ بكفر الزيات    تنسيق الدبلومات الفنية 2025.. درجات القبول المتوقعة للمعهد الفني للتمريض والصحي وخطوات التسجيل    عيار 21 يسجل أقل مستوياته.. أسعار الذهب والسبائك اليوم الأحد 20 يوليو محليًا وعالميًا    لمواجهة الإعصار "ويفا".. الصين تصدر إنذارًا باللون الأصفر    المبعوث الأمريكي يلتقي قائد «قسد» لاستعادة الهدوء في السويداء    صفارات الإنذار تدوي في غلاف غزة    موعد نتيجة الثانوية العامة 2025 برقم الجلوس علمي وأدبي (الرابط الرسمي فور تفعيله)    أحمد شاكر عن فيديو تقليده لترامب: تحدٍ فني جديد وتجربة غير مألوفة (فيديو)    موعد بداية شهر صفر 1447ه.. وأفضل الأدعية المستحبة لاستقباله    دعاء الفجر | اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك    العلاقات المصرية الإفريقية.. رؤية استراتيجية متجددة    سعر طن الحديد والأسمنت اليوم في مصر بعد هبوط كبير تجاوز ال1300 جنيه    اليوم محاكمة 12 متهمًا في قضية «رشوة وزارة الري»    تراجع جاذبية ودائع «المركزى» يعيد رسم توجهات السيولة بالبنوك    «دماغه متسوحة.. وطير عربيتين ب 50 مليون».. مجدي عبدالغني يشن هجومًا ناريًا على أحمد فتوح    «اتباع بأقل من مطالب الأهلي».. خالد الغندور يكشف مفاجأة عن صفقة وسام أبوعلي    لويس دياز يبلغ ليفربول برغبته في الانتقال إلى بايرن ميونيخ    سوريا أكبر من الشرع!    مفتي الجمهورية ينعي الأمير الوليد بن خالد بن طلال بن عبدالعزيز آل سعود    نائب أوكراني يكشف عن خطط غربية سرية ضد روسيا    إصابة عشرات الفلسطينيين في هجوم للمستوطنين وقوات الاحتلال على قرية المغير    روسيا.. الدفاع الجوي يحبط 5 هجمات بطائرات مسيّرة على موسكو    الكونغو الديمقراطية و«إم 23» توقعان اتفاقًا لوقف إطلاق النار    علاء مبارك يرد على ساويرس: عمر سليمان «كان رجل بمعنى الكلمة»    تباين أداء قطاعات البورصة المصرية.. الموارد الأساسية تتصدر الصاعدين والاتصالات تتراجع    موقف ميسي، تشكيل إنتر ميامي أمام نيويورك ريد بولز في الدوري الأمريكي    ماركا: بعد تجديد كورتوا.. موقف لونين من الرحيل عن ريال مدريد    نجم الزمالك السابق: عبدالله السعيد يستطيع السيطرة على غرفة الملابس    «احترم النادي وجماهير».. رسالة نارية من نجم الزمالك السابق ل فتوح    الملاك والمستأجرون وجها لوجه في انتظار قانون الإيجار القديم    هيئة الطرق والكباري ترد على شائعة توقف العمل بكوبري الميمون ببني سويف    مصرع 3 أطفال غرقا داخل حوض مياه بمزرعة بصحراوى البحيرة    حالة الطقس اليوم الأحد في مصر.. «الأرصاد» تحذر من الشبورة وأمطار خفيفة على هذه المناطق    "روحهم كانت في بعض".. وفاة شخص أثناء محاولته اللحاق بجنازة والدته ببني سويف    زلزال بقوة 5.2 درجة يضرب شمال إيران    ضبط 3 وقائع في أقل من 48 ساعة.. الداخلية تتحرك سريعًا لحماية الشارع    "عنبر الموت".. شهادات مروعة ..إضراب جماعي ل 30قيادة إخوانية وسنوات من العزل والتنكيل    بعد الفيديو الفاضح، "المدير الخاين" يستقيل من منصبه    حنان ماضى تعيد للجمهور الحنين لحقبة التسعينيات بحفل «صيف الأوبر» (صور و تفاصيل)    درس في الابتعاد عن النميمة.. حظ برج الدلو اليوم 20 يوليو    جولة تفقدية لرئيس جامعة القناة على شئون التعليم والطلاب    وزارة العمل تعلن عن 90 وظيفة براتب 8 آلاف جنيه | تفاصيل    تجنبها ضروري للوقاية من الألم.. أكثر الأطعمة ضرراً لمرضى القولون العصبي    هل يؤثر إضافة السكر الطبيعي على كوكاكولا؟ رد رسمي على تصريحات ترامب    شائعة بين المراهقين وتسبب تلف في الكلى.. أخطر أضرار مشروبات الطاقة    بعد فضيحة الحفل الموسيقي.. استقالة المدير التنفيذي لشركة أسترونومر الأمريكية    حدث بالفن | رقص هيدي كرم وزينة في الساحل وتعليق أنغام على أزمتها الصحية    ب"فستان جريء".. أحدث جلسة تصوير ل جوري بكر والجمهور يغازلها    أخبار × 24 ساعة.. احتساب الدرجات الأعلى للطالب فى التحسين بنظام البكالوريا    قرار عاجل من "القومي للطفولة" بشأن طفل العسلية في المحلة    محمد ربيعة: عقليتى تغيرت بعد انضمامى لمنتخب مصر.. وهذا سبب تسميتى ب"ربيعة"    قافلة بيطرية من جامعة المنوفية تفحص 4000 رأس ماشية بقرية مليج    أستاذ علوم سياسية: الاحتلال الإسرائيلي يمارس تغول عسكري منذ عامين    غلق 6 مطاعم فى رأس البر بعد ضبط أطعمة منتهية الصلاحية    «قولي وداعًا للقشرة».. حلول طبيعية وطبية تمنحك فروة صحية    بلغة الإشارة.. الجامع الأزهر يوضح أسباب الهجرة النبوية    أمين الفتوى: الرضاعة تجعل الشخص أخًا لأبناء المرضعة وليس خالًا لهم    هل يجوز للمرأة أن تدفع زكاتها إلى زوجها الفقير؟.. محمد علي يوضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تلك الجرار الحزبية
بقلم : راضية أحمد
نشر في الأهرام اليومي يوم 05 - 02 - 2010

ظلام حالك يتخلله بعض نفثات لضوء شحيح‏..‏ تصر علي الانفلات أو محير هو الآخر علي تلك العتمة‏.‏ هجر بفعل الزمن وتقلبات الحياة‏..‏ إهمال أو نسيان غير متعمد‏..‏ أتربة اعتادت علي تلك الأجساد المنيسة فأصبحت هي السكن والمأوي والملاذ‏..‏ سكون جبري يتخلله بعض من فحيح الرياح تسربت من الحارة الضيقة الي فتحات الشباك الحديدي الصغير الصدئ والذي تشبه أسلاكه الرفيعة الخيوط المغزولة لشباك الصيادين‏..‏ لكن أتربة الزمان المداهم بصحوة و بلزوجته وإنفلاته‏..‏ تراكمت فوق أسلاكه من الداخل والخارج وكأنها وقعت داخل ذلك الشرك بين الحياة والموت بين الرحابة واللحد‏,‏ الضوء والعتمة بين الصخب والسكون‏..‏ فلذلك تراها تلتصق وتتشبث بتلك الفتحات وكأنها المنتهي لدورتها الكونية‏.‏
جرار سوداء تقبع هناك منذ أجيال تلتهمها وحشة المكان المنسي فتضي الي صخب الملامسة والحركة‏..‏ تستجدي سخونة قديمة تبعث في جمودها الحياة وتروي لحمها الجاف بترياق معتق من سمن الموسم‏..‏ تلك الجرار رغم جمودها‏..‏ هي الشاهد الوحيد علي أفراح و أحزان ولت دون رجعة‏.‏
أما المندرة وهي السكن الأوحد لتلك الجرار‏..‏ أصبحت الآن بعد هجر فأصحاب الدار لا تتنفس غير السكون ولا تسمع الا بعض صفير يتماوج بداخل الجرار الفارغة والتي لا تحوي سوي بعض الهواء المسروق من فوهة النافذة المواربة‏,‏ أما جدران المندرة والتي كانت في الماضي تنعم برائحة دسم الخبيز الطازج أو شذي لحليب محلوب حديثا وضعته الجدة بحذر بجانب النافذة أو بعض من لحم طير طبخته الجدة احتفاء بالأحفاد‏..‏ الآن غارت تلك الروائح داخل الحوائط عبر ذاكرة المكان صانعة أخاديد تشكلت بفعل الهجر وقد تبدلت بلحود ابتلعت روائح الزمن الماضي كما يبتلع اللحد الميت‏,‏ بعد انقضاء زمن التحلل تبرأت الرائحة من شذاها بعد فرار روحها المسكونة بدورة الحياة الأبدية‏.‏
كانت الجدة قديما تتفاخر أمام احفادها أبناء المدينة بجودها القروي فتهم الي تلك المندرة لتسحب في عجلة جرة من تلك الجرار وتصب ما بها من سمن فوق العجين المهيأ لخبيز الفطائر وعند انتهاء الخبيز‏..‏ ترص الجدة الفطائر لتبرد داخل غربال تصنعه الجدة بركن داخل المندرة والسكن الأوحد للجرار ومع سحب الفطائر تتعالي الصيحات والدمدمة وضحكات الصغار وصوت قدومهم وانسحابهم ولهوهم وإنطفائهم‏,‏ تنعم الجرار السوداء في تلك اللحظات بضوء رغم وهنه استباح دماء العتمةداخل المندرة المظلمة‏.‏ فيدخل في تلك اللحظات في إنكسارات وكأنها طيور من نور تسقط فوق أجساد الجرار في ود ونعومة‏..‏ تخفف من صلابة الأجساد السوداء المسكونة بالحزن ومع طوال أيام الأحفاد وأبيهم تجئ الجدة وتروح داخل المندرة‏..‏ تحمل الفطائر في مرح وزهو امام ولدها وابنائه‏..‏ ابناء المدينة‏..‏ متفاخرة بفطائرها التي تشبعت بسمن الجرار أما المندرة فبرغم ندرة الضوء امتلأت في الماضي بخيالات الصغار وبأصوات أحذيتهم فوق أسفلت الأرض أثناء فرارهم وراء الجدة قبل تلذذهم بطعم الفطير وبعد التهامهم له وهم يتظاهرون بمعاونتهم للجدة في رفع الصحون معبرين عن فرحهم بالغناء تارة واللهو تارة أخري‏..‏ ثم يفرون خارج المندرة‏..‏ باحثين عن متع أخري تاركين فوران أصواتهم وضحكاتهم وإلتماع عيونهم داخل المندرة التي ترقد بها الجرار والتي لم يهدأ السمن بعد داخلها ملتصقا بحواشيها كجنين داخل رحم دافئ وعند انغلاق الباب يظل بعض من صوت وضوي في الداخل‏..‏ حياة بكاملها غير مرئية وغير مسموعة كأخيلة لشموس صغيرة جاءت عبر أزمنة أخري قد ولت وأندثرت‏..‏ لكنها تأتي عبر ذاكرة المكان ولا يشعر بها غير الاطلال بأرواحها غير المرئية‏.‏
كان الجد والجدة في زمن الصبا‏..‏ أوقات العصاري‏..‏ الأجساد لدنة بفعل الكسل والاسترخاء ينشغل كل منهما بالآخر‏..‏ ويتبادلان النظرات والتي تأتي من عيون لامعة متقدة وأرواح مفتونة بمسرات اللقاء يتهادي الجد والجدة الي المندرة بأبدان لا تزال دافئة لالتقاط احدي الفطائر الشهية فيقطعا الصمت بداخلها بذاكرتها التي سكنتها الآن ذكري طازجة لما حدث بينهما منذ دقائق من غرام بدائي فيمضغ الجد الفطير برعونة وهو يرمق الجدة بغزل تستقبله بضحكات أنثي واثقة ويتبادلان الدخول والخروج من المندرة في صخب رزين فتنعم الجرار بضوء وشموس وهواء يبث في أرواحهم الخصوبة وصحوة خاطفة وتنعم المندرة بذكري جديدة من الغرام‏.‏
تستمر الأرض في تقبلها وعصيانها كامرأة حبلي مسكونة بكائن اسطوري يستحيل ولادته و اجهاضه فأيام عصيانها تبتلع من تشاء كقرابين لخصوبتها وجودها ثم ترتد فتمنح الحياة كما شاركت في الموت‏,‏ أما الرياح فتظل في عنفوانها ودورانها الذي يأخذ الأخضر واليابس حتي تعانق الرياح السحب فتنهال الامطار الخصوبة وتفور الأنهار والبحار بخيرهما العامر وتأتي الشمس بجودها فتخصب تارة وتحرق تارة أخري وكل يسبح في فلكه‏..‏ ويجيئ القمر والنجوم ولأنهما بعيدان عن الأرض ومحشوران برحم السماء‏..‏ قريبان من الإله‏..‏ لذلك يأتي الحنو واللطف فيغدقا بنورهما ملطفا من عتمة الكون مكملا لإنشودة الحياة وترانيم الموت‏.‏
الكبار هرموا‏,‏ شاخت الأشجار ومالت بحملها وتحولت البيوت الواطئة لبنايات أسمنتية عالية باردة الروح‏..‏ لكن بعضا من بيوت طينية ظلت‏..‏ كانت في الماضي لا تهدأ أفرانها أبدا وقد نشرت شذي حطبها المشتعل في سماء القرية سنوات طويلة‏..‏ لكنه الزمان الذي لم يتخل ابدا عن فنائه وسحقه فتحولت تلك البيوت الي اطلال بفعل الهجر والشيخوخة وهجرت الحيوانات زرائبها فالشباب وحده هو القادر علي استمرار البيوت العمرانة‏.‏
تعودت الجرار علي الهجر وبرد اللحم‏..‏ لكنها كانت تأنس بحركة الجدة الوحيدة ومغفارتها للشيخوخة وللوهن‏..‏ تتحدث الي نفسها لتكسر وحشة المكان وانطفاءه وذبول كل لون ويابس وقبل نومها تلتهم طيرا كاملا طهته بسمن الجرار فتنعم الجرار بالملامسة رغم أنامل الجدة الخفيفة المعروقة والمرتعشة‏.‏
أغلقت الدار علي صمتها بعد رحيل الجدة‏..‏ لكن روح العجوز لم تبرحها تماما وبقي قليل من وصل حتي الآن رغم خلاء الدار وعند هيام أرواح ساكني المكان الذين رحلوا‏..‏ تتسرب نفحات من حياة يعلم الله من أين تأتي ربما من تلك الشجرة العجوز‏(‏ لدقن الباشا‏)‏ والتي تورق في الربيع فيميل بعض من أغصانها صوب فتحة الشباك فتنعم الجرار بنفحات من شذي أزهارها المسكر أن تأتي الحياة من الرياح التي تهدأ رحمة بالمكان المهجور وتميل عند فوهة الشباك تتخلله عبر فتحات أسلاكه المجدولة‏..‏ أم هي الشمس التي لا تنصف زهوتها غير الأحياء لكن بعضا من أشعة متمردة هائمة تنفلت لتشارك شذي الزهور والرياح وتلك الأرواح الهائمة بأصواتها المبهمة أفراحهم داخل مخبكهم السري أو هو نور القمر وقت اكتماله والذي لا يسبح لغير الأحياء والعاشقين‏..‏ أم هو‏,‏ الكون الذي لا يهدأ دورانه أبدا ورغم رحيلهم‏.‏ بقيت الجرار بذلك الركن المظلم تنعم بالشذي والضوء والهواة ولم تبرأ حتي الآن من روحها المسكونة بالدورة الأبدية للكون وحزن ساكن بها من استحالة الخلاص واستحالة اللقاء‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.