لن تستغرق وقتا طويلا حتي تدرك أن كل مقطع مكثف من رواية (دوار البحر) ل (أيمن الجندي) يصلح كمركز للسرد كما ستدرك أيضا في نفس الوقت أنه لن يكون هناك أي مركز بل ستلمس بوضوح نية الانفلات من أسر المركزية أو بالأحري تعمد هدم أي مركز محتمل حتي مع يقينك بأن أي مقطع من مقاطع الرواية يصلح كأساس مناسب يمكن تشييد ( دراما) جيدة عليه وتطويرها وفقا لأي نموذج كلاسيكي للرواية التقليدية ولكن يتم التخلي عن (هاجس البناء) المعتاد لصالح لعبة جدلية تورطك في الاستجابة لظنونها ومسايرة ما يمكن فهمه علي أنه قواعد لأداءاتها ثم تخطفها منك وتقوم بتفتيتها لتبدأ في خلق تصورات بديلة كي تمنحها إليك لتتعايش معها ثم تأخذ طريقها للذوبان هي الأخري من جديد. في الجزء الأول من الرواية والذي يحمل عنوان (هذا هو اسمي) نجد حكيا متقطعا عن إنهاء السارد لخدمته كضابط احتياطي في الجيش بأسيوط ورجوعه إلي مدينته الاسكندرية ثم افتتاحه لعيادته التي تأجل افتتاحها أعواما.. ماجعل هذا الحكي متقطعا هي التعرية المستمرة للأرق الباطني للراوي والذي ظل أيضا يتخلل المقاطع الشعرية والسطور النثرية والاقتباسات.. كشفت هذه التعرية عن (رعب اللامعرفة) الذي يواجه به الكاتب مشكلات الحرية والجبرية والقضاء والقدر والعدل الإلهي والحقيقة.. هذا (الرعب) علي عكس ما يبدو لم تؤكده إجابة السارد علي سؤال أحد أصدقائه (انت واصل لحقيقة مريحاك ؟؟) فقال له (أبدا ،،،، أبدا ،،، انت نفسك ممكن تحس بأن كلما الواحد عرف أكثر زادت حيرته وأصبحت الحقيقة كائنا مشوشا ملغزا يبتعد ولا يقرب).. هذه الإجابة لم تؤكد الرعب بقدر هذه الفقرة التي تحمل خطابا داخليا من الراوي إلي نفسه: (أرفض أن أتصور أن كل حياتي مكتوبة قبل ميلادي.. أرفض هذا بشدة.. أوافق أنه ليس للإنسان إلا ماسعي... وأن سعيه سوف يري... أتفق مع تلك الرؤية... ما قيمتي كإنسان إذا آمنت بأن كل فعل ارتكبه هو من فعل الله وما أنا سوي تجربة مروية سابقا يشاهدها رب عاطل من جديد وهو يحتسي شرابه من فوق عليائه ؟؟.. ما قيمتي ؟؟... أتذكر قولة المعتزلة: أن كيف يكتب الله في قرآنه الأزلي تبت يدا أبي لهب وتب قبل أن يولد بملايين السنين ؟؟.... ألا تقتل تلك الفكرة المترسخة بأعماق مسلمي اليوم صفة العدل الإلهي من أساسها ؟؟).. هذا الخطاب يستمد بشكل كلي طاقته من وعي شرس يدرك معني الفقدان وما يترتب عليه من نتائج: فقدان الحرية ، وفقدان الإله.. الإيمان بحرية الإرادة الإنسانية وما يترتب عليها من أفعال تحدد القدر والمصير في مواجهة التصور القاسي بأن هذه الإرادة وهذه الأفعال لا قيمة لها وأنها لن تغيّر بأي حال من الأحوال المسار المعد سلفا للحياة والموت ولن تجعل العالم يتعطل عن تنفيذ المشيئة المقررة له في الغيب مما يستوجب تلقائيا الإيمان باستحالة هذا التصور.. الإيمان هنا يوازي الرعب والتوسل العميق من ألا يكون الأمر هكذا فعلا وبالضرورة فالتوسل يستوعب جيدا أن كل الاحتمالات ممكنة.. أما الإيمان بالإله فهو وجود عدل ما ورائي وحكمة لا تترك مجالا للعبث ومن ثم لا تترك مجالا للعدم لأن وجود إله عادل يمتلك الحكمة سيعني عدم ضياع الإنسان وحريته ومصيره (سعيه سوف يري) وبالتالي سيكون للحياة والموت معني وقيمة مقدسة تستحق من أجلها أن تعاش كافة التجارب مهما كانت مؤلمة ومحيرة ومهما كانت فاقدة القدرة علي الإقناع أوعلي تبرير نفسها.. كل هذا في مواجهة التصور القاسي أيضا بأنه لا وجود لإله أو لا وجود لعدل يحمي الإنسان سواء في الدنيا أو بعد الفناء مما يستدعي بديهيا الإيمان باستحالة هذا التصور. أتذكر الآن (هيدجر) في محاولته للتوفيق بين طمأنينة الإيمان الديني وقلق (الدازاين) Dasein)) أي الوجود البشري من حيث هو تحديد للكينونة أو الوجود الذي نكونه نحن أنفسنا والذي له بواسطة وجوده من بين أشياء أخري إمكانية طرح الأسئلة.. أتصور أن هناك تقاربا كبيرا بين الحالتين.. كلتاهما تزاوجان بين الأمان والجزع وتكشفان عن الكيفية التي يقود بها كل منهما للآخر تحت وطأة الانتظار الثقيل. هناك حكاية ذكرها الكاتب في الجزء الأول من الرواية أجدني في حاجة لتثبيتها هنا دون تحليل لأنني سأعود إليها فيما بعد: (كل يوم ينزل الصول (عمر) مع الحمار المنكوب الساعة السادسة صباحا ليحصل علي حصته من المياه من مستودع ما للمياه ويحملها علي ظهر الحمار ويقفل راجعا إلي أن يصل إلي بداية السفح الجبلي ، والعرق قد بلل ثيابه وجسده السمين ليمتطي الحمار الذي سبق وحمل الماء.. المطلوب الآن أن يصعد الحمار عبر السفح المنحدر إلي الكتيبة عبر مدق صاعد طوله ثلاثة كيلومترات حاملا الماء والصول (عمر) كالفيل الذي يمتطي فأرا.. وعبر سنوات الخدمة ظل الحمار صابرا محتسبا لعمله إلي أن جاء صباح يوم كئيب والحمار يحمل الماء والصول السمين في رحلة الرجوع الأليمة.. يعشي الصول (عمر) النعاس مع التعب اعتمادا علي حفظ الحمار للطريق.. يقف الحمار لوهلات ربما ليلتقط أنفاسه.. ترتعش أذناه الطويلتان لتكادا تقتربان من لمس بعضهما البعض.. إنها بشائر رياح الشتاء حيث يقل مجهود العمل بفعل برودة الجو.. يتحرك الحمار خارجا عن طريق المدق وكأنما أمر قد أتاه بالتحرك في ذلك الاتجاه من قائد مجهول.. يري جرف الجبل يقترب ولكنه يستمر في مواصلة الهرولة.. يسرع الحمار في طريقه نحو جرف الجبل ليستيقظ (عمر) والحمار علي بعد خطوات قليلة من الجرف.. لا تكاد الكلمات تخرج من حنجرته ويكون الحمار قد طار قافزا نحو الهاوية). في الجزء الثاني من الرواية والذي يحمل عنوان (لماذا أنا ،،،، ؟) سنتعرف علي (عبد الرحمن) العامل الفني في شركة كهرباء الاسكندرية والذي فقد زوجته وطفله في حريق قطار الصعيد الشهير.. (عبد الرحمن) سيتعرض لحالة تصادم بينما يسير تائها نتيجة ما حدث له وسيأخذه أحد المارة إلي عيادة السارد.. لن تتوقف (المصادفة) عند هذا الحد بل سيذكر الراوي / الطبيب كيف رأي في عيني (عبد الرحمن) كاميرا سجلت ملايين الأحداث تجمع بين اليومية العادية والأخري التي ليست عادية.. هل وجد الكاتب حياته وذاته داخل هذا العالم الكامن في هاتين العينين ؟.. هل قصدت المصادفة لإدراكها بما يعيشه السارد من قلق أن ترسل إليه خبرة تليق به كي يتفحص نفسه من خلالها وتساهم في تعميق أسئلته بواسطة تجاربها والتي ستسعي في المقابل للتوحد مع هذه الأسئلة لتصير جزءا منها ؟.. ستزداد هذه الاستفهامات حساسية وتوهجا حينما نعرف أن (عبد الرحمن) هو حفيد (اسماعيل أدهم) صاحب كتاب (لماذا أنا ملحد ؟) والذي كان يدعوه جد السارد ب (ابن الكلب) وهو الذي لم يقرأ الكتاب وإنما كان يدافع بشدة عن حقيقة إيمانه بوجود الله وينتقد بشدة أي آراء إلحادية ولكنه في أعوامه الأخيرة وحينما غزته الشيخوخة بأمراضها وازدادت عليه أعراض الزهايمر تملكته تخاريف غير مألوفة أخذت منحي إلحادي فراح يهدم المقدسات في أحاديثه مع حفيده / الراوي ويحكي قصصا وأحلاما غريبة.. نحن إزاء حفيدين إذا يحمل كل منهما ميراثا متشابها مهما اختلفت تفاصيله ولدي كل منهما واقع يتجلي فيه هذا الميراث بعنف وكان علي هذا اللقاء أن يحدث بينهما كأن ثمة روحاً كونية مجهولة تدبر بشكل خفي هذا الانجذاب عبر الزمن بين الأرواح التي تنتمي لسلالة تختزن هما ماضويا واحدا حتي لو أخذ هذا الاختزان طبائع متباينة وحتي لو اتخذت أشكال وجوده الآنية مظاهر متنوعة.. أيضا تدل صدفة اللقاء هذه بين الحفيدين علي تحول العالم في لحظة معينة وبكيفية غامضة إلي لعبة مرايا وحشية يمكن للواحد فيها أن يري نفسه عبر الآخر كي يتفحص كيانا باطنيا يخصه ويجسد أمام عينيه انشغالاته وهواجسه في صورة إنسان آخر يبادله نفس التجسد ونفس التفحص. (عشق الموت.. أخشي هذا.. بالفعل تراودني تلك الأيام ميول انتحارية.. يقولون إن علاج تلك الحالة بالجلوس أمام المرآة في ضوء خافت لفترات طويلة.. هراء.. محض هراء) الآن جاء الوقت الذي عليّ أن أعود فيه إلي قصة انتحار الحمار التي قمت بتثبيتها سابقا دون تحليل.. أي جبل يصعده الراوي وينزله كل يوم ؟!.. ما هو الثقل الهائل الذي يحمله ؟!.. ماذا سيجد لو قرر أن يطير قافزا نحو الهاوية ؟!.