لم تكن الأم تعرف أنها إلي جانب احتمالها لمسئولية تربية الأبناء في غياب الأب للعمل بالخارج, وأنها ستضطر إلي حمايتهم جسمانيا ونفسيا, لم تكن لتدري أنها ستتحمل هذا العبث وحدها مثل العديد من الأمهات الذين يقومون بدور الأب والأم في حال سفر الأب, أو طلاق الأم, أو ترملها, كانت تعرف أن المظاهرات اندلعت في ميدان التحرير يوم الثلاثاء25 يناير, وكانوا في عطلة رسمية احتفالا بعيد الشرطة, لكنها لم تجد الوقت لتحكي لهم لماذا اختيار هذا اليوم؟ لكنها ذهبت إلي عملها وتركتهم في حماية الجد والجدة. يوم الأربعاء أعدت أولادها للنزول للمدرسة متحلية بالشجاعة, مستمتعة بشعور الأطفال اللامحدود بالأمان وهم يذهبون إلي المدرسة, أليس هذا ما تقوله الأم لهم دائما.. نذهب للمدرسة لنتعلم.. لنستمتع بالحياة ونبني بلادنا؟ أليست هذه هي الكلمات التي تقولها لهم دائما إذا ما قال أحدهما لا أريد أن أذهب إلي المدرسة اليوم؟ لكن الأم فوجئت بالمدرسة تحدثها تليفونيا قائلة: إن الابنة ستعود للبيت, وإن المدرسة في إجازة لحين إشعار آخر, وبدأ الخوف يدق في قلب الأم.. نعم علمت أن هذه هي البداية.. لقد دب الخطر وعليها أن تعلم وأن تتعلم بماذا تجيب عن الأسئلة التي ستطرح عليها.. وعادت الابنة في التاسعة والنصف صباحا بعد أن كانت قد غادرت في السادسة والنصف صباحا. عادت لتسأل: ماذا حدث؟ لماذا عدنا؟ هل سيطلقون النيران علي المدرسة؟ لقد سمعت من الفتيات الأكبر في المدرسة أن البلد تعاني اضطرابات.. وهنا أجابت الأم ابنتها ذات السنوات السبع: عندما تنتهي المظاهرات في التحرير.. الطريق المؤدي إلي المدرسة سيكون كل شيء بخير.. وستعودين للذهاب إلي المدرسة, وأكدت الأم عليها أن لديها عملا كثيرا تقوم به لذلك ستذهب إلي عملها وتبقي الابنة مع الجد والجدة, وعليها ألا تخشي شيئا. يوم الخميس أعدت الأم ابنها للذهاب للمدرسة مؤكدة عليه أن هذا عمله وعليه أن يذهب إليه مادام الطريق آمنا إلي المدرسة.. فذهب الطفل عائدا بدمية من القماش سائلا أمه أن عليها أن تلتقط له معها بعض الصور, مثلما يفعل باقي الزملاء في فصله, فوعدتهم الأم بالذهاب للحديقة في يوم الجمعة والذهاب للتسوق مع الدمية والتقاط بعض الصور معها ليعود بها إلي المدرسة بعد انتهاء عطلة نهاية الأسبوع, ولأن الأم كانت تعلم بخروج المظاهرات يوم الجمعة من مسجد مصطفي محمود القريب من المنزل, فقد ذهبت لشراء فيلم فيديو للكاميرا ونزلت بهم يوم الجمعة قبل انتهاء الصلاة للسوبر ماركت المجاور للمنزل والتقطت له بعض الصور مع الدمية داخل المكان, وفي أثناء خروجهم من السوبر ماركت رأت المظاهرات تتحرك في شارع البطل أحمد عبدالعزيز في اتجاه التحرير, وبدأ الطفلان في الإسراع, وبدأت تظهر عليهما علامات الرعب بعد أن عرفا ما هي المظاهرات؟ فهذه كانت المرة الثانية التي يشاهدان فيها المظاهرات. فمظاهرات الثلاثاء25 يناير تحركت من العديدمن شوارع مصر, مارة بالبطل أحمد عبدالعزيز.. وهو شارع رئيسي بالمهندسين دائما ما تمر فيه السيارات والأفراد بعد انتهاء مباريات الكرة, خصوصا في انتصارات المنتخب الوطني, لهذا ما كان من الطفل ذي السنوات الخمس إلا أن يسأل أمه عندما شاهد الجماهير تحمل علم مصر هاتفة بعدة مطالب: هو كان فيه ماتش امبارح؟, فأجابته الأم يومها وهي مبتسمة: لا دي مظاهرة, ولأن الكلمة جديدة تماما علي مسمعه سألها يعني إيه؟ فأجابت أنها إحدي الوسائل التي يطلب بها الأفراد ماذا يريدون, فسألتها الابنة: ولماذا خرجوا للمظاهرات؟ فأجابت الأم: لارتفاع الأسعر, والبحث عن وظيفة, لكن في مظاهرات يوم الجمعة دخلت شعارات المظاهرات في منعطف جديد, وكان علي الأم أن تفكر ماذا تقول لهم, وبماذا ترد علي أسئلتهم؟ فالجد من المحاربين القدماء, ودائما ما يشاهد الأخبار ولم يرده يوما أو يسمعوا لأحد في المنزل يقول شيئا عن الرئيس, وفجأة سمعوا الهتافات: يريد الشعب تغيير النظام, فسأل الصبي عن ماذا يعني إيه الشعب؟ فأجابت الأم: الناس الذين يعيشون في مصر, واستمرت الهتافات التي لم يكن من الممكن مشاهدتها إلا من البلكونة, فدار الحوار بين الابن وابنة خالته يسقط يعني يقع, وبادر الابن بسؤال أمه لماذا يريدون حسني مبارك أن يقع في منزله؟, فابتسمت الأم وأدارت دفة الحديث عن الغذاء, وأنهم لابد أن ينتهوا من طعامهم, ومنذ تلك اللحظة ككل المنازل في مصر, لم يكن مسموحا إلا بمشاهدة القنوات التليفزيونية الإخبارية, وبدأ الأطفال في متابعة المشاهد والتحليلات الإخبارية, والاستماع إلي المكالمات التي أسهمت في ازدياد حالة التوتر والاطمئنان في آن واحد, ومنذ تلك الليلة والرعب دب في المنازل للكبار والصغار, خاصة بعد الإعلان عن ظهور البلطجية, وارتفاع دخان الحرائق في الهواء, فتساءل الأطفال: ماذا يعني بلطجية؟ فأجابت الأم: هم من لم يذهبوا إلي المدارس واختاروا أن يعملوا بالسرقة والإجرام.. هم المجرمون الذين تسعي الشرطة دائما للقبض عليهم, ثم استمرت الأسئلة: من أين أتوا؟ ولماذا لم تقبض عليهم الشرطة الآن مثلما كانت تفعل؟ فلما تجد الأم إجابة لهذه الأسئلة, فأدارت الحديث عن ضرورة الالتزام بموعد النوم ودعتهم لاختيار قصة لتقرأها لهم, وبالفعل خلد الطفلان للنوم والأم تشعر بالخوف عليهما.. كيف أعيد لهما شعورهما بالأمان. وفي صباح اليوم التالي ذهبت لعملها مؤكدة لهم أنه لابد من الذهاب, وعليهما أن يتحلا بالشجاعة, وأن يضعا في مخهما أنهما شجعان وأنهما سينتظران عودة أمهما للمنزل بأمان, ثم تأتي ليلة السبت واللجان الشعبية ظهرت في الشارع, وهنا نادت الأم أطفالها ليروا كيف يدافع أبناء الحي عن منطقتهم, وهي قاصدة أن توصل لأبنائها رسالة أن الوطن لا يترك ولا يصح ألا ندافع عن ممتلكاتنا عندما يظهر الخطر, ذلك لأن الابنة عندما علمت بهروب البلطجية من الأقسام والسجون قالت: إن علينا أن نترك مصر ونسافر للخارج, فأجابت الأم بحزم شديد: لا يمكن أن نترك بلدنا لأن المشكلات حلت بها.. إنها أجمل البلاد وأفضلها, وإلا لماذا يحرص الجميع علي أن يستفيدوا منها ومن خيراتها والدول الأخري أرادت احتلالها دائما؟! لذلك جاءت اللجان الشعبية مؤكدة كلام الأم.. هكذا البطولة والشجاعة.. لا أترك الحرامي يأخذ ممتلكاتي, وألا أستسلم للمجرمين. لكن الصبي بالفطرة تشجع أكثر منها برؤية اللجان الشعبية, أما هي فكانت حريصة علي أن ينام بجوارها, وأن تتأكد كل دقيقة من أن الباب مغلق, وأن بوابة العمارة مغلقة, ومع سعي الأم الدائم لتهدئتها.. بدأ الخوف يدب في قلب الأم.. ليس من المظاهرات والشجارات, وإنما كيف أعيد لها إحساسها بالأمان.. كيف أشرح لها مواقف متضاربة ومتباينة يصعب علي سنها أن أحملها أكثر مما يحتمل, أو يستطيع التعرف.. حتي جاء الأربعاء الأسود.. واشتدت وطأة الأحداث, والإعلان عن الاشتباكات بجوار المتحف المصري.. وأعمال البلطجة, ورمي النار علي المتحف.. فما كان منها إلا أن تحدث أمها تليفونيا في طريق العودة إلي المنزل للاطمئنان عليها, وما أن عادت الأم حاملة لهما الحلوي لتشعرهما أن الأمور مثل الماضي, ومثلما تفعل دائما, حتي انهالت عليها بالأسئلة: هل تعتقدي أن مدرستي احترقت؟ فأجابت الأم: لا.. لماذا تقولين هذا؟ فأجابت الابنة: إن المتحف المصري قريب من مدرستي وربما طالتها النيران.. فاحتضنتها الأم وقبلتها علي جبينها قائلة لها: لا تخشي شيئا يا ابنتي.. إن المتحف في الطريق إلي المدرسة لكنه بعيدا عنها.. فلا تخشي شيئا.. وفي صباح الخميس.. استيقظت الأم لتري ابنتها ترسم علم مصر.. تكتب علي الورقة يا أبي.. يا أمي.. مصر في مأزق.. لا يجب أن تحترق.