كنت في ذلك اليوم من أيام شهر سبتمبر من عام1991 أشهد ذروة الحرب الضروس التي اندلعت في صيف ذلك العام بين كل من جمهوريتي صربيا وكرواتيا. فالأولي بصفتها قلب الاتحاد اليوجوسلافي السابق كانت تحاول جاهدة الحيلولة دون انفراط عقد الاتحاد المكون من أربع جمهوريات تبقت بعد انفلات جمهورية سلوفينيا قبل ذلك بشهور بإعلانها الاستقلال, وهي صربيا كرواتيا البوسنة والهرسك مقدونيا, بالإضافة إلي منطقتي الحكم الذاتي فافودينا والسنجق. والمشكلة هي أن الحرب مثلت للطرفين حياة أو موتا, حيث إن صربيا كانت تعتبر الحفاظ علي يوجوسلافيا بالرغم من كل المثالب التي اعترت التجربة مهمة مقدسة, في حين اعتبرت كرواتيا أن الخلاص بالاستقلال هو الخيار الوحيد. ولعل القداسة التي أسبغها الطرفان علي هذه الحرب هي التي تفسر ضراوة القتال, الذي وصل إلي حد ارتكاب جرائم حرب تقشعر لها الأبدان والتي تبدت أكثر ما تبدت في مذبحة مدينة فوكوفار الواقعة في قلب جمهورية كرواتيا, وتحديدا في إقليم سلافونيا الشرقية, حيث كنت أتحرك في ذلك الوقت مراسلا لجريدة الأهرام التي كانت ومازالت تحتفظ بقصب السبق في تقديم هذا اللون من ألوان العمل الصحفي شديد الخطورة علي بقية وسائل الإعلام سواء في مصر أو في العالم العربي بأسره, حيث إنها بدأت تقديم هذا اللون من الصحافة( المراسلة الحربية) منذ بداية القرن العشرين ليفتر بعد حرب عام1973 ولكي يعاد له الحياة مرة أخري في حروب البلقان في بداية تسعينيات القرن الماضي. كانت الحرب في شهر سبتمبر قد بلغت مرحلة من الحرج للجانب الكرواتي لدرجة أن القوات الصربية باتت علي مقربة من العاصمة زغرب, وهو ما دفعني أن أضاعف جهودي من أجل الحصول علي موعد لإجراء حوار مع فرانيو تودجمان أول رئيس لكرواتيا فيما بعد الاستقلال, وهو الموعد الذي كان عصيا لظروف حرج الموقف العسكري علي الجبهات, ولمحمومية الجهود الدبلوماسية التي كان منخرطا بها الرئيس محاولا حشد جهود أوروبا لوقف الاجتياح الصربي بلاده. وقد يعجب البعض إذا ما علم أنني في الوقت الذي كنت أحاول فيه جاهدا مقابلة الرئيس, فإننا استعنت بالعديد من الوسطاء لكي يحددوا لي موعدا آخر مع شخصية لا علاقة لها بالسياسة وبالتأكيد لا علاقة لها بالحرب, وإن كنت قد وقعت أسيرا لسحره سواء بسبب ما قرأته عنه, وما رأيته من عمله! كنت أثناء محاولتي لقاء الرئيس, أجاهد من أجل لقاء إيفان لاسكوفيتش, ذلك الفنان التشكيلي الكرواتي العالمي الذي طبقت شهرته الأفاق, وبلغ عدد متاحف الفن التشكيلي التي تحرص علي اقتناء أعماله أكثر من100 في جميع قارات العالم, كما بلغ تقدير بلاده له سواء كانت يوجوسلافيا قبل الانفصال أو كرواتيا وهي مسقط رأسه أن تم تخصيص جزءا معتبرا من مطار زغرب الدولي كمعرض دائم لأعماله. كنت أريد أن أستطلع رأي هذا الفنان الكبير في تلك الحرب, وفي قضية الانفصال, وهو الرجل الذي يدعو فنه للوحدة ليس فقط ليوجوسلافيا- التي باتت في ذلك الوقت علي شفير هاوية الانحلال- ولكن لوحدة العالم بأسره. وقد ثبت لي خلال محاولاتي أن الحصول علي موعد مع هذا الفنان- الذي ولد في عام1932 ولم يستكمل تعليمه- أصعب بكثير من الحصول علي موعد مع الرئيس! فالرجل الذي بدأ حياته العملية حطابا في غابات كرواتيا- كان دائم الأسفار, كما أن جدوله في الأوقات القصيرة التي كان يوجد بها في البلاد كان مشحونا بشكل غير معقول. الرئيس مغاضبا! ويبدو أن الحظ عندما يكون مواتيا, فإنه يضحك ولا يكتفي بالابتسام! ففي يوم واحد في نهاية أسبوع بلغني أنه تحدد لي موعد مع الرئيس يوم الاثنين, ثم جاءني الخبر السعيد بموعد آخر مع الفنان لاسكوفيتش يوم الأربعاء. إلا أن الحظ أبي إلا أن يفسد فرحة تحديد الموعدين, فسرعان ما تلقيت صباح الأحد وقبل موعد الرئيس ب24 ساعة اتصالا هاتفيا من مديرة مكتب الرئيس فيسنا شيكارا, تلك الشابة رائعة الجمال والرقة تبلغني فيه بأن الرئيس قرر تعديل الموعد إلي يوم الأربعاء لوصول وفد الترويكا الأوروبية التي كانت تقوم بجهود الوساطة لوقف الحرب يوم الاثنين, ولكي أشعر بضيق شديد, حيث إنه من غير المطروح أن أستطيع تحديد موعد جديد مع الفنان الذي يعد من أعلام الفن التشكيلي الذي يعرف باسم الرسم البدائي- والذي وافق علي استقبالي في نفس اليوم. استمحت السيدة شيكارا عذرا في أن تحاول تحديد موعد مع الرئيس في أي وقت بعد يوم الأربعاء. وبالرغم من أن السيدة شيكارا لم تستطع قبول فكرة مراجعة الرئيس وخاصة أنه كان يتمتع بشخصية في منتهي العصبية في الموعد الجديد, إلا إنها أقدمت علي ذلك للعلاقة اللطيفة التي كانت تربطني بها. قررت في تلك اللحظة أن أشد الرحال من مدينة بيلوفار التي كانت بمثابة قاعدة لتحركي علي جبهات القتال المشتعلة في منطقة سلافونيا الشرقية ميمما شطر العاصمة زغرب, لكي أكون بالقرب من الموعدين المهمين. عصر ذلك اليوم توجهت إلي قصر الرئاسة لكي أصدم بمقابلة عاصفة من جانب السيدة شيكارا التي اتهمت نفسها بالجنون لكي تستجيب لجنوني بمطالبة الرئيس بتحديد موعد بديل ليوم الأربعاء, مؤكدة لي أن الموعد لن يتغير. قلت لتلك الحسناء الكرواتية إن تأجيل الموعد24 ساعة بعد الأربعاء لن يمثل أي ضرر, خاصة أن الفنان العالمي من الصعب تحديد موعد جديد معه, كما أنه احترم موعده معي, فلا أقل من أن أحترم موعده. وفي محاولة أخيرة للخروج من ذلك المأزق, استمحت السيدة فيسنا عذرا أن استخدم هاتف مكتبها, وقمت بالاتصال بمديرة أعمال الفنان العالمي, حيث شرحت لها الموقف وبأنني حريص علي لقاء لاسكوفيتش, وبناء عليه أرغب في تحديد موعد آخر إن أمكن, إلا أنها رفضت مشيرة إلي إرتباطات الفنان, ومؤكدة أن الأربعاء هو الفرصة الوحيدة للقائه, إن كنت أرغب في ذلك, وأنها لا تستطيع أن تعدني بموعد آخر. وبعد سنوات أعتقد بصدق قول السيدة شيكارا من أنني نقلت عدوي جنوني لها, حيث إنها عادت بعد دقائق قليلة من الحديث مع الرئيس, لكي تنصحني بأن أنسي تماما محاولة لقاء الرئيس الذي أبلغتني بأنه استشاط غضبا من طلبي هذا, وحذرتني من أنني يمكن أن يتم ترحيلي في حال معاودة المحاولة, كما طلبت مني عدم الاتصال بها ثانية. خرجت من قصر الرئاسة وأنا أشعر وقلبي قد انكسر, فلم يكن يخطر في بالي أن هذا الطلب الذي بدا لي بسيطا يمكن أن يثير مثل ردة الفعل العنيفة تلك. لم أعد إلي غرفتي في الفندق إلا بعد أن قتلت نفسي تعبا من السير في شوارع زغرب, ولكي أبدأ اليوم التالي في الاستعداد للقاء الفنان لاسكوفيتش, وإن كنت قد بدأت أشك في صواب ما أقدمت عليه بالتضحية عن غير قصد طبعا بموعد الرئيس مفضلا موعدي مع الفنان. كان أكثر ما يحزنني نظرات السيدة فيسنا وهي تنطق بأن الصحفي الذي أمامها أصابه مس من الجنون لمجرد التفكير في إمكان مراجعة رئيس دولة في موعد حدده بسبب ارتباط هذا الصحفي بموعد آخر مع فنان, أيا كانت مكانة ذلك الفنان علي مستوي العالم. في ذلك اليوم استقبلت صديقتي الكرواتية العزيزة دوبرافكا مومتشلوفيتش التي كانت عائلتها خلال الحرب بمثابة عائلتي, حيث قصصت عليها ما حدث قبل أن تنفجر في وجهي في رد فعل كان مزيجا بين الثورة علي ما فعلته, والقلق علي ما يمكن أن يستتبع ذلك من إجراءات ليست مستغربة من ديكتاتور مثل فرانيو تودجمان! وبعد فاصل من الصراخ من جانب دوبرافكا, قلت لها بهدوء إنني تصرفت في حدود ما رأيته صوابا من قواعد مهنية أحترمها, وفي الوقت ذاته, فإنني مقدر لقلقها علي نفسها وعلي أسرتها, ذلك القلق الذي أستشعره نحوهم, ومن أنني أظن أنه من الأفضل لهم أن ينأوا بأنفسهم عني. فنان بدرجة رئيس رئيس جمهورية! صباح اليوم التالي, ذهبت إلي عنوان الفنان وكان عبارة عن فيلا ضخمة أقرب إلي القصر الصغير, حيث كانت مديرة أعماله في استقبالي بترحيب بالغ لم يفقه سوي ترحيب الفنان الذي لقيته يجلس وسط سبع من مريديه وتلاميذه الذين عرفت فيما بعد أن كلا منهم فنان تخطت شهرته حدود أوروبا إلي قارات أخري! بدأ لاسكوفيتش حوارا طويلا مع تلاميذه فوجئت بعد دقائق أنني محوره, وذلك قبل أن يتحول للحديث معي باللغة الإنجليزية! وحتي الآن لم أدرك كيف وصلت قصة موعدي مع الرئيس للفنان العالمي, ومن أنني فقدت موعدي مع الرئيس حرصا مني علي لقائه! وتحول الرجل لي, حيث قال:.. لا يمكن أن تدرك مدي التقدير الذي شعرت به لما فعلته; فنظرتي للصحفيين السياسيين كانت هي أنهم يعلون من قيمة السياسيين علي حساب الفنانين, إلا أنك بتصرفك هذا جعلتني أراجع نظرتي تلك.... وأضاف الرجل:... المشكلة أن الغالبية العظمي من الناس تعتقد بأن الساسة هم الذين يصيغون حياتهم, في حين أن الواقع يقول بأننا نحن الذين نصيغ وجدان الناس, وبالتالي حياتهم.... ويبدو أن الرجل صمت لكي يتيح لي الفرصة للرد, فلم يكن مني إلا أن أمنت علي كلامه, ومن أنني وإن كنت حريصا علي لقاء الرئيس, إلا أنني كنت حريصا بشكل متكافئ علي لقائه هو الآخر. وأعربت عن أسفي ليس فقط لعدم لقاء الرئيس, وإنما عن الانطباع السيئ الذي يمكن أن يخلفه الموقف لديه. قاطعني الرجل, متسائلا:... هل حزين أنت لعدم لقاء الرئيس...؟. أجبته: بالطبع. فبادرني:... وهل أنت نادم علي ما فعلته... ؟. أجبته: بالطبع لا. توقف لاسكوفيتش عن طرح الأسئلة لكي يلتقط الهاتف, ويبدأ حديثا بالكرواتية, وذلك قبل أن يسألني:... ما الموعد المناسب لك لكي تقابل الرئيس... ؟!. فرددت عليه بأنني متاح في أي وقت بعد أن أنتهي من مقابلته. وبعد أن حدد الرجل موعدا لي مساء نفس اليوم, اكتشفت أن الشخص الذي كان يحادثه الفنان العظيم في تلك اللحظات كان هو الرئيس فرانيو تودجمان نفسه! وبعد أن انتهي الرجل من المكالمة, قال لي:... إن أبسط شيء يمكن أن أفعله لمن يقدر الفنان بهذا الشكل, والذي يقدم موعده علي موعد مع الرئيس, هو أن اعاتب الرئيس بشأنه.... لم أصدق ما أسمعه, إلا أن الرجل أكد لي أن الرئيس لا يمكن أن يرد له طلبا, وأنه أبلغه بأنه يجب ألا يعاقب صحفيا علي تقديره لفنان كرواتي! عندما لاحظ الفنان العظيم علامات الدهشة وعدم التصديق علي وجهي, انبري قائلا:... لماذا كل هذه الدهشة؟ في النهاية فهو مجرد رئيس للدولة مع شديد احترامنا له وسوف يترك مقعده بعد فترة قصرت أو طالت, أما الفنان, فإنه يحيا حتي بعد الممات.... بعد أن أجريت الحوار مع الفنان العظيم, فوجئت به وقد اعد مجموعة من لوحاته الفنية هدية لي. وبالرغم من اعتذاري عن قبول الهدية الفنية الثمينة, حيث إن الهدية أقيم من أن أستطيع أن أرد بمثلها, إلا أنه أصر, وقد كان. الرئيس معاتبا..! في مساء نفس اليوم, توجهت إلي قصر الرئاسة, حيث استقبلتني السيدة فيسنا شيكارا بترحاب شديد, لا يتناسب مع شر طردة الأمس, وإن بدا عليها حيرة لم تجرؤ علي إنهائها بسؤالي عن سر التحول المفاجئ في موقف الرئيس مني, وأظنها لم تعرف حتي الآن, حيث إن الفنان الكبير طلب مني عدم الحديث عما حدث في حينه. كان أول ما استقبلني به الرئيس تودجمان دعابة في شكل تأنيب وهو الذي لم يعرف عنه روح الدعابة قط منذ أن كان من كبار جنرالات الرئيس اليوجوسلافي الأسبق جوزيف بروز تيتو- حيث قال لي:... هل ذهبت تشكو الرئيس لإيفان لاسكوفيتش...؟. وعندما بدأت في الدفاع عن نفسي, ومن أنني لم أتحدث مع الرجل, ومن أنني لم أعرف كيف نما إلي علم الفنان الكبير ما حدث, بادرني الرئيس بقوله:...لا بأس, فحتي إذا كنت قد شكوتني لفناننا العظيم, فإنك شكوتني للشخص المناسب, هات ما عندك من أسئلة...! ب. فيما بعد, نشأت علاقة صداقة حميمة مع الفنان العالمي, حيث إنني في أي وقت كنت احل علي كرواتيا وهو موجود بها, كنت أتوجه إلي منزله في قلب العاصمة زغرب لكي أتعلم كيف يكون الفن, ليس الفن التشكيلي في حد ذاته, ولكن فن الحياة. ومع توالي الأيام في صحبة الفنان العالمي لاسكوفيتش, تأكد لي أن الفن الصادق الحقيقي يسمو بصاحبه فوق الانتماءات العرقية والدينية والثقافية حتي يصبح ملكا لقيم مطلقة مثل الحق والجمال, وهو ما تأكد لي بشكل قوي خلال حرب أخري, ومع نفس الفنان العظيم, فإلي هناك...