ربما تشعر عزيزي القارئ حين تقرأ عنوان مقالي أن هناك لبسا ما.. فنحن لا نتحدث عادة عن جماليات النقد, بل جماليات النص.. وربما تري, أو حتي تؤمن بأن النقد ليس به جماليات, بل هو تفنيد للعمل للخروج بالمسالب في المقام الأول.. وخوفا من أن يتهم الناقد بالتحامل,وعدم المصداقية يسوق من خلال وجهة نظر أصحاب تلك النظرية سببين أو ثلاثة علي الأكثر يبرر بها إعجابه بالعمل أيا كان نوعه. وربما تعتقد أن النقد يرتبط بالانتقاد مثلما يعتقد طلابي حين يقوم أحدهم بتجربة أداء, فأجد في عيونه الخوف من زملائه, ويحاول تذكيرهم عند نهاية تجربته بأن سيرد لهم الصاع صاعين حين يجئ الدور عليه لانتقادهم, فأعاود تذكيرهم بأن ذلك نوعا من النقد, أو تقييم الأداء, وليس الانتقاد, لكني للأسف أنجح في إقناع البعض ويبقي البعض الآخر علي اعتقاده.. والفعل( نقد) يعني تمييز الجيد من الردئ.. ونقد النثر, أو الشعر أي أظهر مافيهما من عيب أو حسن.. إذا فالنقد لم يكن أبدا ليحمل معني الانتقاد, وإظهار العيوب فقط, ولذا أجدني أتساءل: لماذا إذا يرسخ المعني الأول في الأذهان, بينما يبعد ويتلاشي المعني الآخر الذي هو أكثر مصداقية, وصحة؟ أحاول هنا الإجابة عن سؤالي بوضع افتراضات ربما كانت هي التي تقف وراء تلك النظرة تجاه عالم النقد, والنقاد,فربما يري الشخص العادي أن النقاد أشخاص يعيشون في أبراج عاجية بعيدا عن الواقع المجتمعي, ومن ثم فإن طرحهم لحلول, وإنتاجهم لأفكار بهدف رفعة مجتمعهم غير مقبول منهم في كل الأحوال.. أو يري أن هؤلاء النقاد يتحدثون من منطلق سلطوي حيث يضعون هالة حول مايقدرونه من أعمال, وابداعات بينما يستبعدون الأعمال, أو الأفكار التي يرونها لاترقي لمستوي التداول, والانتشار, كما أنهم وحدهم الذين يملكون منح الجوائز. وصكوك المرور للأعمال, فحق عليه ان يشكك في الأدوار المتعددة التي يقومون بها حتي لو كانوا يؤدونها بإخلاص وعلي أكمل وجه.. فيقابل كبرياءهم بتحامل من جهته وتحكمهم في المقادير بحملاته الصامتة,والمعلنة لاقصائهم عن المشهد الثقافي بعد أن رأي استئثارهم بالعديد من الأدوار, بينما هو عاجز عن التشبه بهم, وعاجز أيضا عن الاعتراف بفضلهم علي البشرية. وفي النهاية كل تلك الأفكار جالت بخاطري حين أمسكت بدعوة جاءتني منذ فترة لحضور المؤتمر الدولي الخامس للنقد الأدبي, والذي تشرف عليه كلية الآداب بجامعة عين شمس بالاشتراك مع الجمعية المصرية للنقد الأدبي.. ولمست كم الجهد الذي بذله هؤلاء الصفوة في تخليق تلك الأفكار المحلقة, ودعم أساليب, وإرساء قواعد للنقد تدوم, وتنتشر ثم تتداخل لتمثل جزءا من واقعنا الثقافي. لعل قلمي في شوق إلي التغزل في جماليات النقد, وأعني هنا بالطبع مجالات النقد المتسعة, وليس النقد الأدبي فقط, فالنقد نوع من تقييم العمل, طرحه, تفنيده, ومن ثم القدرة علي معالجته, وتقويمه, أو تطويره.. فدون النقد يصبح العمل كالصندوق الأسود مغلق, معتم, لا يبوح بأسراره, وكذلك أفعالنا هي نوع من النقد بطريقة ما نزرع شجرة في مكان ما نقد للتصحر, وإقامة جدول, أو حفر قناة هو نقد لما كان يجب أن يكون, ولكن لم يتم إنجازه.. والناقد باحث, وفنان, ومفكر, وأديب ينشد الكمال, ويسعي للوصول إليه عبر معرفة متخصصة تهدف لتطوير الواقع والوصول لغايات يتلمسها هو ببصيرته العالمة.. كما أن الناقد لكي يصل إلي نقد عمل ما بالطريقة الصحيحة لابد له من قراءة مئات, بل ألوف الكتب والنظريات لكي يستطيع عقد المقارنات, والتحليل, والاستدلال والخروج بنتائج دقيقة.. فهذه المهنة هي للخبراء فقط..ونقد النقد يخلق حالة عامة من الحراك المجتمعي نحو التغيير, وحالة عامة من السعي وراء الأفضل لتثبيته, والبحث عن حلول للمشكلات, وتأسيس نظريات تبغي أن تسود. والناقد يستخدم المنهج الاستقرائي, والاستنباطي, فيجمع جزيئات الموضوع, ويقدم نظرة شمولية له تجعل المتلقي يتفهمه بشكل جديد.. كذلك يفتت المشكلة, أو العمل إلي عناصره الأولية, وعندها يجد المتلقي نفسه أمام منتج جديد تماما يتفاعل معه بالتالي بطرق مختلفة.وعليه فالنقد هو عملية بنائية تنشد التحرر من القوالب والخروج بحيثيات وحلول, ونظريات متفاعلة من الواقع, ولم يكن يوما أسلوبا للنيل من أشخاص, أو أعمال.. بل هو رؤية ووجهة نظر يقدمها الناقد للتاريخ, وهي شهادته, والشجرة الظليلة التي يتركها للبشرية قبل أن يحمل زاده, ويرحل.